كلام عابر

وخز الوجدان

وخز الوجدان
  • 22 يونيو 2018
  • لا توجد تعليقات

عبدالله علقم

أول مرة ألتقيه، وقد أكون التقيته قبلها، ولكن لا تستحضر ذلك الذاكرة، كانت في مارس 1982م في نيروبي حينما جاءنا مرافقا لشقيقته التي تكبره ببضع سنوات ووالدته التي هي شقيقة زوجتي لمشاركتنا الفرحة بقدوم ثاني أبنائنا هشام.

أشاع الفرحة والحيوية في الدار مؤكداً حضوره الأنيق الجميل. كان وقتها يحبو ويجاهد أحيانا لتثبيت أولى خطواته على الأرض. سنوات المهاجر الطويلة جعلتنا لا نلتقي كثيراً خلال السنوات الأخيرة التي قللت، وباعدت كثيراً بين سنوات وجودي في أرض الوطن مثل كثيرين غيري ممن تلقفتهم مهاجر الدنيا الواسعة.

في الجانب الآخر من الصورة لم يكن ذلك البعد المكاني بنفس القدر على أبنائي، فتوثقت روابط وجدانية تغلبت على كل قهر الزمان. الود المتبادل والصداقة الصادقة هي التي تربط القلوب. صلة القربى قدر لا يختاره الإنسان، ولكنها قد تصبح مقدمة ومعبراً لتلك الصداقة الصادقة.

بمرور السنين أصبح أحمد عثمان عبده واحداً من أبنائي.. ابني الخامس من حيث العدد، والثاني من حيث الترتيب العمري.
كان فؤاده الرحيب يتسع لهم جميعاً. ورث من والده عالم الطب النفسي العظيم الراحل السماحة، وحب الناس، والسبق لفعل الخير. ارتبط وهو آخر العنقود بوالده، وقد كان رحيل ذلك الوالد المحب العطوف هزة قوية عصفت بأركان نفسه.

حينما التقيته للمرة الأخيرة قبل بضعة أشهر في دارهم العامرة التي تحتفي بي كلما جئت للخرطوم، شاهدت هذه المرة الحزن المتمكن منه الذي يخفيه وجهه الضاحك الذي يلقاني به كل مرة.

في ثاني أيام عيد الفطر جرى الحزن طليقاً في دارنا في الدمام…حزن بنكهة الموت هذه المرة. رحل أحمد عثمان عبده في القاهرة بعد معاناة قصيرة شديدة القسوة مع المرض”.

امتلأ قلبي بحبه” كما قال الكاتب الموريتاني ولد حرمة الله في وداع الطيب صالح.

حقاً امتلأ قلبي بحبه فقد كان إنساناً ودوداً كثير الروعة وكثير الجمال. بسيطاً جداً ومتواضعاً حتى في موته، لا يريد أن يشغل إلا حيزاً صغيراً من الفراغ، ولا يريد أن يسبب إلا أقل عناء للآخرين.

تسترجعه ذاكرتي طبقة فطبقة في مغالطة لسلطان الزمان، وتسعى للإمساك بلحظات من سيرته القصيرة، لا برماً بقضاء الله وقدره، ولكن ربما هرباً إلى حين من واقع بائس إلى خيال جميل، فأتجاوز حاجز السنين متقهقراً إلى حيث كان ذلك الولد الصغير الذي كان يحبو على الأرض، ويجاهد للوقوف على قدميه في دارنا في نيروبي، حينما جاءنا ليشاركنا الفرح بقدوم هشام.

ولكني استهدي بقول إمام المتقين كرم الله وجهه “أحب من شئت فأنت مفارقه”. الموت هو الحقيقة المطلقة الوحيد في الحياة، وكل نفس ذائقة الموت، ولو كانت في بروج مشيدة.

رحم الله أحمد عثمان عبده، ريحانة الدار، الذي تسرب من بين أيدي الجميع، وآثر الرحيل المبكر، وطيب الله ثراه، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.
Khamma46@yahoo.com

التعليقات مغلقة.