كلام عابر

كتاب ممنوع.. صراع النخب المتعلمة

كتاب ممنوع.. صراع النخب المتعلمة
  • 28 سبتمبر 2018
  • لا توجد تعليقات

عبدالله علقم

كتاب (السودان .. صراع النخب المتعلمة ..حل مستشارية الأمن القومي ومتاهات الحوار الوطني نموذجاً) يقع في 275 صفحة من القطع المتوسط، صادر من دار عزة للنشر والتوزيع في2017م.

المؤلف الأستاذ جبر الله عمر الأمين، وهو صحافي بدأ حياته المهنية في وكالة السودان للأنباء، ثم لمع نجمه أكثر من ربع قرن في الصحافة السعودية عبر صحيفة “اليوم”، قبل أن يستقر به المقام في السودان عام 2009 م مديرا للإدارة العامة للسياسات الإعلامية بمستشارية الأمن القومي.

بعد حل المستشارية عمل فترة قصيرة مديرا للإدارة العامة للتخطيط والبحوث والمتابعة في وزارة الإعلام. كثيرا ما أختلف جوهرياً مع طرح الكاتب، بحكم اختلاف الرؤى والمنطلقات، ولكنه يظل دائما أخاً وصديقاً عزيزاً يفيض استقامة وجدية ومهنية رفيعة.

الكتاب منع من التوزيع في السودان بعد طبعه، وصودرت كل نسخه المعروضة للبيع، لكن المؤلف أرسل لي مشكورا نسخة من كتابه قبل المصادرة.

استعرض الكتاب مفهوم الأمن القومي السوداني حسب تعريف المستشارية له بأنه “امتلاك الدولة لعناصر الاستراتيجية الشاملة التي تقوم وتستند على تحقيق الأمن الإنساني، وتتيح حماية كيان السودان كدولة ذات سيادة ضد الأخطار التي تهددها داخلياً وخارجياً، وامتلاك إرادتها القومية، وتوفير السند المطلوب لتحقيق وتأمين مصالحها الاستراتيجية”.

ويفصل الكاتب بإسهاب خصص له الجزء الاكبر من الكتاب كيف قامت مستشارية الأمن القومي كجهة تتبع مباشرة لرئيس الجمهورية، والخلط الذي حدث بين المستشارية وجهاز الأمن، والعداء المنظم الذي ووجهت به من داخل الحزب الحاكم حتى انتهى الأمر بحلها بعد سنتين من قيامها؛ مما يعطي الانطباع بأن الكاتب خصص جزءاً كبيراً من كتابه وجهده لتصفية الحساب مع من وأدوا مستشارية الأمن القومي، وهو أمر لا أعتقد أنه يجد الاهتمام نفسه من القاريء، فالصراع صراع نخب متعلمة داخل البيت الواحد الذي هو الحزب الحاكم.

كما ضم الكتاب عدة ملاحق عن هيكل المستشارية، وقائمة طويلة بمراكز البحوث، وأسماء العلماء والمستشارين الذين استعانت بهم المستشارية في بلورة رؤيتها للأمن القومي الاستراتيجي، والأوراق التي أعدوها، ومفهوم الأمن القومي الأمريكي، والهيكل التنظيمي للمستشارية وغير ذلك.

كل الكتاب يعكس غزارة معلومات المؤلف، والجهد الذي بذله في إعداد الكتاب، كما لا تفوت على القاريء لغة الكتاب الصحافية الرشيقة المختصرة المباشرة.

منجزات المستشارية خلال عمرها القصير حددها الملف في إعداد مسودة أول استراتيجية للأمن القومي السوداني، وإجراء أول تحليل إستراتيجي للوضع الراهن في السودان طرح مبادرة أول حوار وطني إستراتيجي لتحديد ثوابت الدولة السودانية، وإقناع السودانيين في تكويناتهم بالالتفاف حولها.

الطريف عن الحوار الوطني أن السيد نافع علي نافع قال عنه “نحن أذكياء بما يكفي لمنع تفكيك الإنقاذ عبر الحوار الوطني”. وهو الذكاء الذي ألزم الأحزاب بعدم عقد اجتماعات وندوات ولقاءات داخل دورها أو مقارها إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة من السلطة المختصة قبل وقت كاف لا يقل عن 48 ساعة”.

“والسلطة المختصة طبعاً هي المؤتمر الوطني في ثيابه المتعددة” كما يقول المؤلف.

تطرق الكاتب إلى ما أسماه بأمراض النفس السودانية: “حب الذات، وتقديم الخاص على العام، وازدراء الآخر، واستغلال الوظيفة العامة، وعدم احترام القوانين واللوائح، إضافة إلى اضطراب هوية الفرد والدولة وما يترتب عليهما من من ازدواج في الثقافة والسلوك والممارسة، وإذا لم يحسم السودانيون إشكالية اضطراب الهوية، وازدواج الشخصية سيكون حرثهم في البحر.

فقد ظل العرق واللون والمكان والثقافة تشكل حضوراً سالباً في الحياة العامة السودانية، وفي لقاءات السودانيين وحواراتهم في الشأن العام، وفي علاقاتهم وتعاملاتهم الاجتماعية”.

يقول المؤلف إن الذين انضموا لجيش المحتل، وقاتلوا أبناء وطنهم، والذين دعوا إلى ضم السودان لمصر أو طالبوا بتأجيل الاستقلال، ومن ارتكبوا جريمة تغيير علم الاستقلال، والذين دبروا الانقلابات العسكرية المتكررة، والذين جاؤوا بالجنجويد والحركات المسلحة، ومن أفسدوا الخدمة المدنية، والبرلمانيون الذين يشرعون لكل نظام ما يريد، وموظفو الخدمة المدنية الذي يهدرون وقت العمل، والنخب المتعلمة التي تحني هاماتها لتركب عليها الأنظمة الفاسدة، وتسمع وتشارك في الجرائم والظلم، كلهم جاؤوا من رحم هذا المجتمع وثقافاته وعاداته وتقاليده المتوارثة في المنزل والشارع والمدرسة والمسجد.

وبؤكد أن “السودانيين ليسوا عرباً أقحاحاً كما يحاول إظهارهم العروبيون، وليسوا أفارقة خلصاً كما يقول دعاة الأفريقانية. اللون والسمات الخلقية والقبيلة والمكان لها تصور وفهم، وصار يشكل عبئاً على حياة السودانيين ينعكس في تعاملهم وعلاقاتهم الاجتماعية والعامة”.

مستشارية الأمن القومي مع التقدير لجهدها في التواصل مع العلماء والمفكرين والمهنيين من غير المنتمين للمؤتمر الوطني، اقتصر العمل فيها على جميع مستوياتها القيادية والوظيفية على أهل النظام أو المحسوبين على أهل النظام، مثل كل مرافق ومؤسسات الدولة، مما يقدح في صدقية هالة القومية التي حاول المؤلف أن يضفيها عليها، وتمتد الصدقية المفقودة بطبيعة الحال للأعمال والانجازات، بوصف أن كل ذلك شأن حزبي بحت.

صحيح أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها في أي وعاء جاءت، ولكن اتضح بالتجربة أن الوعاء القديم لا يتسع للحكمة نفسها.

تعريف المؤلف لمفهوم الأمن القومي تعريف جميل نظرياً، لكنه لا يشير صراحة إلى موطن الداء، ولا يستوعب أهم مقومات ومرتكز الأمن القومي والسلم الاجتماعي، وهو تصالح الحكم مع المواطن في وطن يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات؛ ليتقاسموا مسؤولية حماية الأمن القومي، وهذا أول أوليات متطلبات الأمن القومي، وليس كما ذكر المؤلف “وجود قانون لهذا الأمن يعلو على القوانين المهنية المعمول بها، ويجعل من ممارسة أي نشاط غير مخطط له أو أي نشاط يعطل الدولة من بلوغ القوة أو إتمام التغيير الذي تسعى له مهددا للأمن القومي”.

غني عن القول أن التفرد بامتلاك الصواب والضيق بالآخر تمخضت عنهما إفرازات سالبة – من بينها مصادرة هذا الكتاب- تهدد الأمن القومي حالياً، وستهدده على المديين القريب والبعيد، وأخطر هذه الافرازات انتشار وحمل السلاح خارج نطاق الجيش الوطني.

والتحية للأستاذ جبر الله.


khamma46@yahoo.com

التعليقات مغلقة.