عثمان دقنة بالعربي بعد 90 عاماً من صدور الأصل الإنجليزي

عثمان دقنة  بالعربي بعد 90 عاماً من صدور الأصل الإنجليزي
  • 13 أغسطس 2019
  • لا توجد تعليقات

تأليف
هنري سيسل جاكسون
ترجمة 
بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم
أحمد إبراهيم أبوشوك

قبل ثلاث سنوات من وفاة الأمير عثمان أبوبكر دقنة (ت 7 ديسمبر 1926مم)، نشر السير ونجت باشا (Wingate Pasha) مقالاً عن “القصة الحقيقيَّة لعثمان دقنة” في صحيفة قرافيك البريطانيَّة-الأسبوعيَّة (The Graphic)، بهدف توصيل رسالة إلى أعضاء البرلمان البريطاني، الذين كانوا يتداولون مقترح إطلاق سراحه، بأن الوقت غير مناسبٍ. ولذلك بقي “ثعبان الماء الزلق”، كما ينعته ونجت، في سجنه بوادي حلفا إلى أنَّ وافته المنيَّة في السابع من ديسمبر 1926م. وقبل وفاته ببضعة أشهر، أصدر هنري سيسل جاكسون (Henry Cecil Jackson) كتاباً بعنوان “عثمان دقنة”، واصفاً صاحب السيرة بأنه “أشهر زعيمٍ بربريٍ متوحشٍ، يظهر في تاريخ القارة الإفريقيَّة الحديث”، ولقد ذاعت شهرته نسبة للحروب التي خاضها ضد الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في شرق السُّودان.

وفي العام 1973م أصدر محمد إبراهيم أبوسليم “مذكرات عثمان دقنة”، مستقياً معلوماتها من دفتر عثمان دقنة، الذي عثر عليه ونجت باشا في طوكر وعفافيت. ويحتوي الدفتر على ثلاث رسائل من “عبد ربه عثمان بن أبي بكر دقنة إلى حبيبه وسيده خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام محمد المهدي بن السيد عبد الله”، يوضح فيها المعارك التي خاضها ضد القوات البريطانيَّة-المصريَّة في سكنات، أركويت، وسواكن، وطوكر، وكسلا؛ وكذلك السند المعنوي والمادي الذي قدمه له السادة المجاذيب والدقناب؛ ويشير في المقابل إلى معارضة الختميَّة والشناقيط والبني عامر والعمارار (الأمرار) وغيرهم من القبائل الأخرى. إلا أن ونجت يتهم كاتب الدفتر بعدم المصداقيَّة، متعللاً بأنه “يخضع الحقائق لهواه، ويبين جانب الأنصار”؛ لكن أبوسليم يرى خلاف ذلك، إذ يصف الكاتب بالالتزام – حد المستطاع- بالدقة، وخاصة في أعداد الجيوش والخسائر … لم يكن صاحب ميل أو هوى.

ولعل الحالة الوحيدة التي تباعد فيها عن الحقيقة هي حالة الجيوش الإنجليزيَّة التي هزمت الأنصار، فالمذكرات تضاعف أعدادها، وتضاعف قتلاها.” وعزى أبوسليم ذلك التجاوز لقلة المعلومات، أو لرفع الروح المعنويَّة للأنصار. والمذكرات بهذا الوصف لم تكن سيرةً شاملةً للأمير عثمان دقنة، بقدر ما أنها رسائل وثَّقت للمعارك التي خاضها في عهد الإمام المهدي، أما جانب السيرة فيتجلى في مقدمة أبي سليم الضافية عن تاريخ حياة الأمير عثمان دقنة في المهديَّة، وعن محتويات الدفتر، وكيفيَّة تحقيقها، وتقييمها شكلاً وموضوعاً. وفي العام 2004م، أصدر أبوسليم مجلداً آخر بعنوان “محررات عثمان دقنة”، مستنداً إلى أرشيف المهديَّة المُودع بدار الوثائق القوميَّة بالخرطوم، والذي رصد أنشطة عمالة الشرق الحربيَّة والسياسيَّة والإداريَّة والتجاريَّة في الفترة التي أعقبت وفاة المهدي إلى صيف عام 1898م. أما المرجع الوحيد الذي ترجم لسيرة عثمان دقنة باللغة العربيَّة فهو كتاب محمد سليمان صالح ضرار، الموسوم بـ “أمير الشرق: عثمان دقنة”، والذي نشرته الدار السُّودانيَّة للكتب بدون تاريخ في عقد التسعينيات من القرن الماضي. والكتاب يرسم صورةً ذهنيَّة حيَّة لتاريخ أمير الشرق ومجاهداته، دون الاستئناس بالأدبيات الإنجليزيَّة المعادية للرجل وسيرته. وصنواً لهذا المرجع، تقف سيرة عثمان دقنة التي رسمها الإداري البريطاني هنري سيسل جاكسون باللغة الإنجليزيَّة.

والآن بين أيدينا الترجمة العربيَّة التي أعدَّها الأستاذ الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي، بعد مضي أكثر من تسعين عاماً على تاريخ نشر أصلها الإنجليزي. وتُعْدُّ هذه الترجمة بكل المقاييس إضافةً نوعيَّة إلى ترجمات الهاشمي المتفردة الأخرى، التي تُبرز تاريخ الدولة المهديَّة من وجهة نظر غربيَّة. ومقصد القول إنَّ المصادر والمراجع التي أشرنا إليها أعلاه تقدم إلى الباحثين السُّودانيين المهتمين بدراسات المهديَّة وسير أعلامها مدوَّنة مصدريَّة مهمة. تساعد في استيعاب الصورة الكاملة للأمير عثمان دقنة، الذي، حسب أبوسليم قد “ترك سجلاً عظيماً. وكان أبعد أمراء المهديَّة شهرة في الخارج، وفي الداخل كان سيد أرضه، لم يُعزل كما عُزل قادة المهدي، ولم يُنقل إلى غير جهته، وحتى عندما كان [الأمير محمد عثمان] أبوقرجة يشاركه السلطة، وكانت أمانة الخليفة قائمة عليهما معاً، كان موقفه من الدعوة قائماً، وكانت لا تُعوض مكانته مكانة أخرى. أما فيما عدا الشرق، فلم يكن له نفوذ، فهو رجل الشرق وحسب!”.

وتقودنا هذه التوطئة إلى إلقاء ضوء على محاور رئيسة من سيرة عثمان دقنة التي دوَّنها جاكسون، ونقلها إلى العربيَّة الهاشمي، وتشمل هذه المحاور القضايا الآتية. 
أولاً: يتكون الكتاب من تسعة فصولٍ؛ تعرض السبعة فصول الأولى منها مشاهد الواقع السياسي التي نشأت في أحضانها الثورة المهديَّة، والحروب التي دارت بين عثمان دقنة والقوات البريطانيَّة-المصريَّة في شرق السُّودان، كما تقدِّم وصفاً حياً للمرحلة الأخيرة التي أفضت إلى نهاية الدولة المهديَّة على يد القوات الغازيَّة عام 1898م. ويتطرق جاكسون في الفصلين الأخيرين لسيرة الأمير عثمان دقنة من جوانب متعددة، تشمل نشأته أولى في سواكن، وهجرته إلى بربر، ومجاهدات في عهد المهديَّة، وقصة اختفاءه في جبال البحر الأحمر، والقبض عليه بعدما أفشى سره الشيخ محمد علي الأمير أرو، شيخ فخز الجميلاب الهدندوة، ثم فترة سجنه في رشيد وطُرَّة، وأخيراً وادي حلفا. كتب جاكسون الفصول السبعة الأولى بطريقة وصفيَّة ومنهج حولي، أقرب إلى كتابة التقارير الحكوميَّة، كما ذكر المؤلف نفسه، وليس فيها نوع من التحليل لمفردات الأحداث في ظل الظروف التي تشكلت فيها، أو النقد الموضوعي للمصادر التي اعتمد عليها، علماً بأن معظمها كان من إصدارات الحرب الدعائيَّة ضد الثورة المهديَّة، ونذكر منها على سبيل “حرب النهر”، لونستون شيرشل (1899م)؛ و”المهديَّة والسُّودان الإنجليزي المصري” لونجت باشا (1899م)؛ و”عشر سنوات في أسر معسكر المهدي”، لجوزيف أوهرولدر (1892م)؛ و”السيف والنار”، لسلاطين باشا (1896م)؛ و”جغرافية وتاريخ السُّودان” لنعوم شقير (1903م). أما الجزء الخاص بسيرة الأمير عثمان دقنة، فواضح أنَّ المؤلف قد اعتمدت فيه على بعض المصادر الشفويَّة التي استقاها من رهط من زعماء القبائل الذين عاصروا أمير الشرق، أو اشتركوا معه في الحروب التي خاضها ضد القوات البريطانيَّة-المصريَّة، و”القوات الصديقة”، كما يسميها جاكسون، من قبائل الشرق. وقد كتب جاكسون هذا الجزء بطريقة قلميَّة رائعة؛ إلا أنها لم تخل من بعض الإسقاطات الاستشراقيَّة. وأعنى بالإسقاطات الاستشراقيَّة قراءة الواقع المهدوي من منظور غربي خارج سياقاته التاريخيَّة، فضلاً عن الاستخفاف بعطاء المهدويين، الذين وصفهم بالدراويش أو الأعداء، ونعت سنوات حكمهم “بالسنوات النحسات.” وفي مقابل نلحظ أنه يصف القبائل المتحالفة مع الحكومة الاستعماريَّة “بالقوات الصديقة”، وينصِّب الجنرال غردون بطلاً بريطانياً، استشهد في سرايا الحكمداريَّة بالخرطوم، دون أنْ ينظر إليه بأنه استعماري غازي، حاول أن يخمد جذوة الثورة المهديَّة التي أشعلها السودانيون ضد الحكم التركي-المصري. ومن زاوية أخرى، يصف جاكسون انتصارات المهديَّة بأنها انتصارات “مجموعة من الغوغاء، مسلحين بالعصي والحراب” تمكنوا من “إيقاع هزائم متتالية بجيش … كان يقوم على تدريبه ضباط متعلمون أكفاء (وفي بعض الأحيان أوربيون)، وكان مزوداً بكل ما عند الجيوش الحديثة من سلاح وعتاد.” ولذلك نتفق مع الهاشمي بأنَّ كتاب جاكسون من هذه الزاوية، يجسد نمطاً من أنماط تفكير الإداريين البريطانيين القدامى، “الذين تغلب عند معظمهم – إن لم نقل كلهم – نزعات العنصريَّة، والإحساس بالتفوق على أجناس “الأهالي”، الذين غزوهم بذريعة إشاعة التحضر والمدنيَّة.” 

ثانياً: أقرَّ جاكسون بحقيقة مهمة، مفادها أنَّ الحكومة البريطانيَّة لم تكن راغبة في احتلال السُّودان، لأنها كانت تعبره “من الممتلكات عديمة القيمة”، وإنَّ مصر ليست لديها إمكانات اقتصاديَّة أو عسكريَّة للسيطرة عليه. وبناءً على ذلك، أوفدت الجنرال غردون لتنفيذ إخلاء السُّودان من القوات العسكريَّة والرعايا المصريين، كما أوصت حكومة صاحبة الجلالة الجنرال ولسلي (Wolseley) بعدم “القيام بأي مهام هجوميَّة” على المهدويين؛ إلا إذا اقتضى الأمر ضرورة “إخراج اللواء غردون، والعقيد ستيوارت بسلام… وأنَّ حكومة جلالة الملكة ترغب في حصر … العمليات العسكريَّة في أضيق نطاق.” إلا أن اعتداد غرودن بنفسه، وتفكيره المتعالي بالقدرة على منازلة المهدي وأنصاره قد وضع الحكومة البريطانيَّة والسُّودان في مسار آخر؛ لأن قتل غردون قبل وصول حملة الإنقاذ قد غير المزاج السياسي البريطاني في لندن. ولذلك أرسل ولسلي برقيَّة إلى الرائد هارينقتون (Harrington)، المرابط في سواكن، في 8 فبراير 1885م، قائلاً له “كلما أسرعت بالتعامل مع عثمان دقنة، كلما كان ذلك أفضل. أقترح استجلاب سرية مشاة من الهند وسرية فرسان من البنجاب لسواكن بأعجل ما تيسر؛ لتأخذ مواقعها بذلك المكان في الصيف.” ولذلك يعزي جاكسون توسع العمليات العسكريَّة في سواكن إلى واحدٍ من الأسباب الآتية: أنَّها خطوة أوليَّة للتقدم نحو الخرطوم في الخريف؛ أو أنَّها تهدف لاختبار الآلة الحربيَّة البريطانيَّة المتوقع استخدامها في الحرب ضد أفغانستان؛ أو أنَّها تهدف لمنع أي احتمال لقيام عثمان دقنة بمحاولة الهجوم على مصر من جهة الشرق. ونتيجة لذلك أصبحت سواكن أشبه بمناطق العمليات العسكريَّة؛ إذ توافد إليها العسكريون من “مختلف السحن والأجناس. رجال هنود حمر من كندا، وبنجاب وسيخ وبنغال من الهند، ورجال يقودون البغال أتوا من الجزيرة اليونانيَّة كيثيرا [Kythira]، وصبية من قيلة الكرو القادمين من ليبيريا، وصوماليين من ساحل البحر الأحمر، ومالطيين، إضافة لجنود من الهند وأستراليا والجزر البريطانيَّة.” وبلغ عدد القوات العسكريَّة في المدينة، حسب جاكسون، “500 ضابط، و12,522 ضابط صف وجندي، وأعداد كبيرة من العاملين المدنيين.” ونتيجة لهذه التطورات السياسيَّة والعسكريَّة، تصاعدت حدة القتال بين الأمير عثمان دقنة والقوات البريطانيَّة متعددة الأجناس، وذاعت شهرة “أمير المهديَّة الدرويش” في الصحافة العالميَّة والإقليميَّة؛ لأنه، حسب رأي المؤلف، قد “خاض معارك كثيرة ضد الحكومة، وانتصر في قليل منها، وخسر الباقي، بجيش قوامه جنود جهلاء، سيئ التنظيم، ويعوزهم التدريب والسلاح الحديث، حاربوا جيشاً نظامياً مدرباً، ومزوداً بسلاح حديث، وكتائبٍ عسكريَّة من إنجلترا والهند وأستراليا.” 

ثالثاً: يؤيد ما جاء في كتاب جاكسون الفرضيَّة التي ذهب إليها أبوسليم بأن المواقف السياسيّة المحليَّة في شرق السُّودان تجاه المهديَّة قد تشكَّلت حسب التضاريس الدينيَّة والسياسيَّة والقبليَّة الناظمة لعلاقات المجتمع آنذاك، والتي برزت في التنافس الحاد بين الختميَّة والمجاذيب، وصراعات الأرض والمرعي بين الهدندوة أنفسهم، وبينهم وبين القبائل المساكنة لهم من طرف آخر، فضلاً عن الصراع الخفي بين أهل الحضر (سواكن وسنكات) وأهل البادية (أركويت، ودورديب، وهيا). ومن النماذج الحيَّة التي تعضِّد هذا الافتراض ومرارة الصراع الناتج عنه قول جاكسون: بأن عثمان دقنة بعد أن حرر مدينة كسلا قام “بهدم كل بيوت آل الميرغني في المدينة، وهدم قبة السيد الحسن الميرغني، ومسجد ابنه السيد عثمان. وكانت تلك القبة مزاراً دائماً للنساء المؤمنات ببركة السيد الحسن، واللواتي كن يرغب في الحمل… وأصدر عثمان دقنة أمراً بجلد كل من يزور بقايا حطام تلك القبة سبعة وعشرين جلدة.” يبدو أن هذه العداوة المستفحلة بين الختميَّة والمهديَّة كانت سبباً رئيساً في هجرة بعض أفراد الأسرة الميرغنيَّة إلى مصر، حيث شكلوا ترياقاً معادياً إلى المهديَّة. 

رابعاً: يقدِّم الكتاب صورة ذهنيَّة حيَّة لقصة اختفاء الأمير عثمان دقنة في جبال البحر الأحمر، ويرسم لوحةً قلميَّة رائعةً لوعورة تضاريس المنطقة التي اختفى فيها، وكيفيَّة القبض عليه، ورد فعل الأمير المجاهد إلى الذين شدُّوا وثاقه. ومن تلك اللوحة القلميَّة نقتبس هذا النصُّ البديع: “وفي وسط تلك الأنحاء البديعة المنظر، والوعرة في آنٍ معاً، غدت الأجواء مهيأة للفصل الختامي من تلك الدراما. وكان ذلك المشهد جديراً بممثلٍ كُتب عليه أن يؤدي دوره الأخير في تاريخ العالم. وتكومت صخور فوقها صخور، جعلت إمكانيَّة الوصول للهدف أمراً عسيراً ومحفوفاً بالمخاطر. فبين كل جبل وآخر كانت هنالك أخاديد عميقة، يخيل للمرء أن رجلاً نشطاً خفيف الحركة قد يقفز من أحدها إلى الأخرى في أيه لحظة… وكان من المتوقع أن يكون عثمان دقنة مختبئاً في واحد من تلك الكهوف الواقعة على ارتفاع ستة أقدام فوق قاع الوديان، وهو في انتظار الرسول الذي خانه.” ثم يمضي المؤلف ويقول: لقد ” كثرة محاولات القبض على الرجل المُراوِغ، وصارت أكثر صفاته المشهورة عند الناس هي قدرته على النفاذ بجلده في اللحظة الأخيرة قبيل القاء القبض عليه، وغدا القبض عليه أمراً جالباً للدعابة الساخرة. فقد قيل من قبل أنَّه قد قتل في التيب، أو تامينيب، وفي طوكر، أو كوفيت. وقيل إنَّه شوهد لبعض الوقت … في كسلا، وأبو دليق، وطوكر، وادراما. وكان كلما شوهد في مكان ما يقوم بعض الأهالي بالإبلاغ للحكومة عن وجوده. وشُوهِدَ كذلك في أم درمان، وعرف أنَّه كان موجود أثناء معركة أتبرا [النخيلة]. وجرت محاولات عديدة للقبض عليه، كانت نتيجتها دوما إما تشتيت قواته، أو هربه من المواجهة. لذا لم يكن محمد بيه متحمساً، أو واثقاً من أنَّه سيعثر هذه المرة على ذلك القائد المهدوي المُراوِغ، عندما طلب من النقيب بيرقيس [Burges] المشاركة في العمليَّة. غير أنَّ النقيب بيرقيس كان متحمساً ومستعداً للمشاركة في أي عمليَّة تؤدي للقبض على آخر أمير من بين كل أمراء المهديَّة، وربما كان أكثرهم شهرة.” ويصف المؤلف لحظة القبض على عثمان دقنة، بعد أن نبح الكلب الذي كان يحرسه، معلناً عن مكان مخبئة: ” وبدأ رجال الشرطة بربط وثاق جمالهم حتى لا ينبه رغائها من يطلبونه، وخلعوا الطرابيش والمعاطف. وأمروا بالتقدم ببطء والإحاطة بمكان الهدف بهدوء واستغلال كل ما يجدونه حولهم، مهما صغر، لحماية أنفسهم. غير أنَّ رجال الشرطة العرب كانوا متحمسين بأكثر مما يجب، فأسرعوا الخطى، بل عَدوا نحو الكهف الذي يعتقد أنَّ عثمان دقنة يختبئ، تاركين ورائهم قائد الشرطة السمين، وهو يلهث محاولا اللحاق بهم. وبزغ الفَجْرُ الآن، واستيقظ عثمان دقنة على صوت نباح الكلب، وسأل خادمه عن سبب نباح الكلب. ردَّ عليه الخادم مطمئناً بأن ذلك ربما كان بسبب مرور بعض الأعراب مع أغنامهم بالمكان. أخذ عثمان دقنة مصحفه وبدأ يقرأ، بينما أنصرف الخادم ليعد طبقاً من اللحم طال عهد سيده به… وفجأة هجم رجال الشرطة على الكهف الذي يختبئ فيه عثمان دقنة، ووجدوه متمدداً في كسل منتظراً طعامه، وهو يمسك بمصحفه. قفز سريعاً من مرقده متجهاً للمخرج، ولكنه وجد رجال الشرطة يسدونه، فرجع مسرعاً يلتمس مخرجاً آخر، إذ أن لتلك الكهوف عدة مخارج في العادة. وأفلح بالفعل عثمان دقنة في الخروج من باب خلفي للكهف، وقام بعض رجال الشرطة بتوسيع المسافات بين الصخور، ووجد النقيب بيرقيس أن سيفه يجعل من تعقبه للرجل أمراً عسيراً، فرماه بعيداً عنه ومضى يطارده. ورفع بصره في اتجاه معين فلمح شخصاً بجبة مرقعة متسخة، يقفز من صخرة إلى أخرى على بعد ثلاثين أو أربعين قدماً فوق جانب الجبل. وسرعان ما أُحيط بعثمان دقنة، وصاح أحد رجال الشرطة اسمه محمود آداب في عثمان دقنة بلغة الهدندوة: “قف! يا أبا حليمة، لقد انتهى وقت الهرب الآن”. ردَّ عليه عثمان دقنة في هدوء: “أنا لا أهرب، ولكنني الآن، دوماً وكما أُمرت لا أوالي للكافرين”. وقبض على عثمان ووضعت يديه ورجليه في اغلال ثقيلة.” وبهذه الطريقة الدراميَّة تمَّ القبض على “الدرويش الرهيب”، كما يصفه ونجت، في 12 يناير 1900م، وبذلك أُسدل الستار على حياة محارب شرس، كانت حافلة بالمجاهدات، ليقضي ستة وعشرين عاماً في سجون الدولة التي حاربها ببسالة، أي فترة سجنه تقل عاماً واحداً عن فترة اعتقال المناضل نيلسون مانديلا (1962- 1990م) في جنوب إفريقيا. ولكن الفرق بين خواتيم حياة المناضلين الجسورين فرق شاسع. إذ انتهت حياة عثمان دقنة بالوفاة في محسبه بوادي حلقا في ديسمبر 1926م، بينما تُوجت حياة مانديلا بتنصيبه أول رئيس أسود منتخباً لجنوب إفريقيا في 10 مايو 1994م.

ما أهميَّة كتاب جاكسون لمكتبة الدراسات المهديَّة؟
تكْمُن أهميَّة كتاب جاكسون في النقاط الآتية: 
أولاً: يعتبر الكتاب جزءاً مهماً ومكملاً لوثائق المهديَّة التي نشرها أبوسليم في كتابيه، “مذكرات عثمان دقنة” و”محررات عثمان دقنة”، وذلك فيما يختص بالقوات العسكريَّة البريطانيَّة والمصريَّة التي دخلت في سلسلة من الحروب الشرسة مع الأمير عثمان دقنة في شرق السُّودان. والمقارنة بين المعلومات العسكريَّة والسياسيَّة الواردة في هذه المدونات المصدريَّة المتقابلة، تساعد الباحثين في تكوين صورة كاملة لمفردات الأحداث العسكريَّة التي وقعت بين الطرفين في شرق السُّودان. 
ثانياً: شكَّل الفصلان الثامن والتاسع مصدراً رئيساً لكل التراجم التي كُتبت عن عثمان دقنة، ابتداءً من رتشارد هل، “معجم الشخصيات السُّودانيَّة”، ومروراً بمحمد إبراهيم أبوسليم، “مذكرات عثمان دقنة”، وانتهاءً بعون الشريف قاسم، “موسوعة القبائل والأنساب في السُّودان”. أجمعت هذه المراجع أن تاريخ وفاة عثمان دقنة كان في العام 1926م، دون تحديد اليوم والشهر. إلا أن حسن دفع الله في مقاله “مذكرة عن السجناء السياسيين بوادي حلفا”، وحسن أحمد إبراهيم، في مقاله “سياسة الحكومة الثنائيَّة تجاه سجناء المهديَّة السياسيين”، قد اختلفا في تحديد السنة، فأرجعا تاريخ الوفاة إلى 7 ديسمبر 1927م. إلا أننا نرجح الظن بأنَّ عثمان دقنة قد توفي في السابع من ديسمبر 1926م. 
ثالثاً: إذا كان محمد إبراهيم أبوسليم حُجةً في دراسات المهديَّة بفضل تحقيقاته الرائدة، التي شملت “الآثار الكاملة للإمام المهدي”؛ و”محررات الخليفة عبد الله”، و”محررات عبد الرحمن النجومي”، و”محررات عثمان دقنة”، و”العالم المجاهد حسن العبادي”، و”عالم المهديَّة الحسين إبراهيم زهرا وأعماله”؛ فإنَّ بدر الدين حامد الهاشمي قد أسدى خدمةً جليلةً للمكتب العربيَّة-السُّودانيَّة، بفضل ترجمته لكثيرٍ من الأدبيات التي نُشرت عن تاريخ المهديَّة باللغة الإنجليزيَّة، وأصدرها في سلسلته المعروفة بـ “السُّودان بعيون غربيَّة”، كما ترجم كتاب “مدينة مُقدَّسة على النِيل: أمدرمان في غضون سنوات المهدية، 1885-1898م” لمؤلفه روبرت كريمر، والآن يرفد الباحثين العرب في مجال دراسات المهديَّة وسير أعلامها بترجمة جيَّدة الصِنْعَة؛ لكتاب “عثمان دقنة”، لمؤلفه هنري سيسل جاكسون؛ فله التهنئة المُسْتَحقَّة، والتوفيق والسداد في أعماله القادمات.
*******

إعلان: قريباً بالمكتبات السودانية
الناشر: دار المصورات، الخرطوم

التعليقات مغلقة.