ورحل الطير المهاجر: الكتابة عن فنان لكل العصور خيار صعب!

ورحل الطير المهاجر: الكتابة عن فنان لكل العصور خيار صعب!
  • 08 يناير 2020
  • لا توجد تعليقات

يوسف عمر

سفر تفرد باللغة التي كتب بها عن فنان عملاق اسمه محمد عثمان وردي الذي وصفه كاتبه الراحل المهندس يوسف سليمان السيد بأنه كان ثائراً وفارساً ومغامراً ومجدداً فى (حلة نوبية)، ولكنه عربي الثقافة والعقيدة بما توج الحضارة والثقافة السودانية.

لقد أفلح الكاتب وهو يؤرخ لهذا العملاق فى استدعاء التاريخ والمعطى الثقافي محلياً وعربياً وأفريقياً وعالمياً بوصفه موسيقياً، كان له إسهام ثر في المكوّن الموسيقي السوداني.

وتخيّر الكاتب مفردات الكلمات التي كتب بها هذا السف، فكشفت بجلاءِ عن المخزون اللغوي والمعرفى للكاتب، وارتباطه الوثيق بالقراءة والإطلاع على الثقافات الأخرى بمفهومها الشامل للمكوّن والموروث لدى تلك الشعوب دون إغفال لإبراز الموروث والحضارة السودانية، وإسهام الفنان وردي في تعزيز معطياتها ومردوها في فهم الموسيقى السودانية.

غلاف الكتاب

وعن وداع ورحيل القامة وردي، يقول المؤلف إنه جمع بين جزئية نوبية في بوتقة عربية لافتاً لجلوسه على القمة مترنماً وحوله ملوك الغناء والشدو والطرب المرقم.. منوهاً بدوره في إعادة أمجاد ترهاقا متمثلاً في أشرعة الصواري بالمراكب مع الجحافل في القوافل بالجمال والخيول متسائلاً هل هو التاريخ النبيل في الأناشيد والأغاني؟ أم اليأس الأصيل لدى رماة الحدق في الخطب الجليل؟ أم هو الوتر يرن بعبقريات الموانئ؟ أم السفر يمتطي لج الخيال الجامح؟

ولعل ما لفت نظري في سفر المهندس يوسف سليمان هو تخيّره لإحدى روائع الأسطورة وردي التي كتب كلماتها الراحل صلاح أحمد إبراهيم فكان الطير المهاجر عنواناً ومدخلاً للحديث عن هذا الهرم وشموخه وكبريائه.

 ولم يغب عن الكاتب الذي دفع بنفسه إلى أتونه، وهو يتصدى للكتابة عن فنان لكل العصور وليس ظاهرة تنتهي بزمانها ومرحلتها، بل أصبح ما ترك من إرث غنائي يمثل أحد أهم مرتكزات الغناء السوداني.ٍ

ولم يجد مثيلاً لمسيرة وردي مماثلاً إلا الأزميل للنحات وريشة الرسام وتدفق الكلمات من حبر اليراع من القلب إلى القلب تبع شرائع الحب، ويبقى لدينا الزبد، ويذهب الزبد جفاءً.

وعاد الكاتب والحزن والكآبة تكسو كلماته عن موت الرمز محمد عثمان وردي: شاد صرحاً للاناشيد والأغاني، تحية من صفوة أكابر الفن، قد رحلت، لم نباغت برحيلهم المفاجئ، ذهبت حقيبة الفن برمتها وبقيت الآثار للتذكار، متي حان الرحيل، فنقضى الأوطار بالأعمار.

وشبه الكاتب الحنين إلى المنازل بعودة الطير المهاجر، فرجع بنا إلى مسمى السفر مستعرضاً كلمات هذه الأغنية الممتلئة بالصور المتحركة، ناقلة صورة صادقة حَمل عبرها الشاعر الطير المهاجر وصية لتلك الحبية قائلاً: بالله يا طير، قبل ما تشرب تمر علي بيت صغير، تلقى حبيبة بتشتغل منديل حرير لى حبيب بعيد، من بابو وشباكو بلمع ألف نور، وتحيي يا طير باحترام، بتلقى فيها النيل بيلمع في الظلام، زى سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام، على نيل بلادنا سلام، ونخيل بلادنا سلام، وشباب بلادنا سلام وسلام.

(ضل الدليب أريح سكن)

ويتســـــاءل الكاتب: يا وردي ماذا قلت لنا؟ ومـــــاذا فـــعلت بـنا؟ حـــــين أعدتــــنـــــا إلى بـــــحر طفولـتنا ٍ

فــــنقف عند الصخرة الصماء أمام باب الكنز (افــتح يا ســـــمسم)، ويا (طــــالع الشجرة).

أيها البلبل الأسطــورة بشدوك ينفتح باب الكنز (شخـــارم) (بخـارم).

ويسافر بنا الكاتب في أسفار طوف فيها بنا إلى عوالم ألف ليلة وليلة، وعاد بنا إلى دنيا شهريار وشهرزاد، ومردة الجن لدى ملك سليمان، وتوجه بنا نحو البصرة، ومنها إلى أرض الميعاد.

ورحلة الكاتب مع نورسه الراحل لا تتوقف عند محطة بعينها، أراه كثير الحكاوى عن الإرادة التى اختارته ليكون (غناي)؛ كاشفاً عن مصارعته للهبباي مبدئياً أسفه (وا اسفاي .. وا اسفاي).

وتمضي روايات الكاتب عبر سطور صلاح أحمد إبراهيم إذ يقول:

يا ذلك الفارس النوبي

بفضل رداءك العربي

تغشى كل ٍعوالم الأدب

فترج مياه زجاجة الطرب

وتسير قافلة الحروف مطوفة بأرض الأندلس متجهة نحو دمشق وبغداد، وفي الخاطر صنعاء اليمن، حيث عرش بلقيس فوق حواجز الزمن.. وتعود بنا الرحلة إلى ملتقي النيلين، ونسمات حلفا تلفح الوجوه.

وبمفردة التميز، يعدد الكاتب المهندس يوسف سليمان أوصاف وردي الذي كان وحده فارساً وشاعراً ومغنياً ومموسقاً قلّ أن يجود به الزمان، ومتحدثاً لبقاً، وصريحاً طفولياً، ومقلاً فى تباهيه، ومفيضاً فى براعته، وخفيفاً في أناقته، ومنساباً بالفطرة كالقوس، ومشدوداً كأوتار الكمان.

ويراه الكاتب: وردي، إنه وردي، منارة وجسارة وسفارة في جيله، هو الأقرب لعبقرية وفراسة المتنبي ليمدحه، وهو في السودان بما يفوق عطاء سيف الدولة فى الخلع والمال والجياد والجوارى.

وردي المايسترو في جيله يــــقود امـــــة ولربما أمم مـــــن الــــجـــــيــشـــــان فـي بحــــر العطاء بالأغان، ويــــمضي إلى القــــول: سيظــــل صوتـــك خــــالداً، ويـــــدوم ذكــــرك ماجـــداً، وأنــــت فــي غرف الجنان.

حاشية:

رحلة قلم برع في تصوير شخصية وردي، وقد رأى فيه المؤلف المهندس يوسف سليمان السيد الكبرياء والشموخ والعزة والعطاء والتفرد وقمة هرم الغناء السوداني؛ ولذلك أقول يخطئ من يظن أن مؤلفه قد وجد الطريق ممهداً وهويوثق لرحلة إنسان وفنان ومبدع ملأ الدنيا، وشغل الناس بفنه حياً وميتاً.

والكاتب فى رأيي تخيّر الصعب بولوجه عالم فنان له بصمة فى خريطة الفن، فنان كان له رأي ورؤية في الغناء وموسيقاه، ومن يشتغل به، فهو بحر من بحوره التي يًكمن الدر في أحشائها.

لك التحية الراحل المهندس يوسف سليمان فلقد أبحرت بنا عبر الحرف والمفردة المتميزة فكان مداد قلمك واضحاً يمنح القارئ متعة الصحبة عبر السطور فى سيرة الإنسان والفنان الأسطورة والهرم محمد عثمان وردي  ..

أعلم ككاتب أن سيرة عملاق كوردي تطلبت كثير جرأة من الكاتب للولوج لعالم فنان ظل كنجم فى عليائه .. فنان كان يرى فى الكلمة الوطن والحبيبة كلاهما رمزأيها ورد شمل الثاني بالضرورة .

وعزيمة ودوافع  الكاتب على إنجاز هذا التوثيق منحاه قوة وإصراراً تجاوز بها صعاب جمع المعلومة عن فنان شارك بفاعلية فى تشكيل وجدان الشعب السوداني .

ٍ

ٍ

الوسوم يوسف-عمر

التعليقات مغلقة.