كيف ولماذا حدث ما حدث؟! (1-2)

كيف ولماذا حدث ما حدث؟! (1-2)
  • 10 فبراير 2020
  • لا توجد تعليقات

فتحي الضَّو


نحن موصومون بما نسميه داء (الذاكرة الغربالية)، لذا يكون من الضرورة بمكان ذكر وقائع ما جرى في الإطار الطبيعي، قبل أن تتداخل فصولها وتضيع الحقيقة ومن ثمَّ يصعب الخروج من المأزق. فوقائع ما حدث تقول ببساطة إن البداية كانت بتوجَّه الفريق أول عبد الفتاح البرهان صوب مدينة عنتيبى اليوغندية في زيارة قيل إنها خاطفة، التقى خلالها بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل لمدة ساعتين، وذلك في مساء يوم الاثنين الموافق 3/2/2020 وحال انتهائها قام الأخير بنشر الخبر على الملأ، عبر تغريده في حسابه على موقع (تويتير) قال فيها اختصاراً إنه التقى البرهان بدعوة من الرئيس اليوغندي يوري موسفيني، وقال أيضاً إن الجانبين اتفقا (على التعاون في سبيل تطبيع العلاقات بين البلدين) ثمَّ قام مكتبه في تل أبيب بتفصيل أكثر لدواعي اللقاء (يؤمن رئيس الوزراء بأن السودان يسير في اتجاه جديد وايجابي، وأن رئيس مجلس السيادة السوداني يريد مساعدة بلاده للدخول في مرحلة تطوير وتحديث، عبر إخراجها من العزلة ووضعها على خريطة العالم).

على إثر ذلك اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي والوسائط الإعلامية المتعددة في كل بقاع الدنيا، ومن بينها الخرطوم نفسها التي غادرها البرهان، إذ استنفرت الحكومة الانتقالية نفسها عبر الناطق الرسمي فيصل محمد صالح بتصريح مقتضب، أدلى به في مساء نفس اليوم وقال فيه (لم يتم اخطارنا أو التشاور معنا في مجلس الوزراء بشأن هذا اللقاء، وسننتظر التوضيحات بعد عودة السيد رئيس مجلس السيادة) ولم يطل الانتظار فما قيل لا يحتمل التباطؤ أو التلكؤ، حيث عقد المجلسان اجتماعاً طارئاً استمر لساعات طوال واختصره تعميم صحفي مذيلاً باسم البرهان يوم الثلاثاء 4 /2 /2020 وفيه من التساؤلات أكثر مما تضمن من إفادات تروي الظمأ (تمَّ بالأمس لقاء جمعني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في يوغندا، وقد قمت بهذه الخطوة من موقع مسؤوليتي بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني السوداني، وتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني) ثمَّ ختمه بلزوم ما لا يلزم وقال (أوكد على أن بحث وتطوير العلاقة بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية، وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية).
أطل على المشهد عرَّاب اللقاء الحقيقي من وراء المحيط – ولا ندري إن كانت إطلالته تلك قبل الاجتماع أم بعده – مع أن الأمر سيان لن يفرق كثيراً. حيث قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مورغان أورجتوس أن بومبيو والبرهان أكدا خلال مكالمة هاتفية رغبتهما في تحسين المشاركة الفعالة للسودان في المنطقة والمجتمع الدولي، والتزامهما بالعمل نحو علاقات صحية أقوى بين الولايات المتحدة والسودان) وأشار المتحدث الرسمي إلى أن (بومبيو شكر البرهان على قيادته في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، كنتيجة للاجتماع الذي جمع بينه ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) وأضاف كذلك أن (بومبيو دعا رئيس مجلس السيادة السوداني إلى زيارة واشنطن للقائه في وقت لاحق من العام). وحينئذٍ كانت الحكومة الانتقالية قد توسدت (بطيخة صيفي) وراحت في ثبات عميق بعد الاجتماع المشترك الذي عُقد مع البرهان وصدور البيان أعلاه، ربما ظناً منها أن ذلك نهاية المطاف، وحتى تلك اللحظة لا يدري أحد أن الحجر الذي أُلقي به في البركة الآسنة خلق دوائر، دوائر.. قضى اتساعها على تلاشيها)!

لكن عندما اتسع الخرق على الراتق، قام الفريق البرهان بعقد مؤتمر صحافي يوم الأربعاء 5/2/2020، دلق فيه الكثير المثير الخطر. ولعل أهم ما جاء في قوله (ما في دولة قدمت لينا مساعدة لإتمام لقاء نتنياهو، ده كله عملناه وحدنا عبر مواطنين عاوزين مصلحة البلد) وكشف عن أن ( الاتصالات ظلَّت مستمرة قبل شهرين من اللقاء مع الجانب الأمريكي والإسرائيلي أي بومبيو ونتنياهو) ومشيراً إلى أن (محادثات تلفونية مع هذه الأطراف سبقت اجتماع عنتيبى بشهور) وقال إنه (لمزيد من توفير الضمانات لإتمام اللقاء ظل هو لنحو 4 ساعات في مكان آخر غير المكان الذي كان فيه نتنياهو، وكان يطلب توضيحات وتأكيدات لما سيتحقق من مكاسب للسودان) وأضاف أنه (لم يذهب إلى اللقاء إلا بعد أن استوثق من اتصالات جرت مع واشنطن من قبل الجانب الإسرائيلي، للدفع باتجاه إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية) وشدد على أن (لقاء عنتيبي مبادرة شخصية منه ويتحمل مسؤوليتها) وأكد مجدداً أن (شخصاً تولى المبادرة دون تدخل أي دولة رغم أن هناك 7 جهات – لم يحددها – حاولت الدخول في هذا الملف) ونختتم هذه المقتطفات بأم الكبائر حيث أكد أن رئيس الوزراء على علم (اخبرته قبل اللقاء بأنني سألتقي رئيس وزراء إسرائيل فوافق وقال لي (Go ahead).

من باب الأمور بخواتيمها وإزاء اتهام من عيار ثقيل، كان هناك احتمالان لا ثالث لهما أمام السيد رئيس الوزراء إما التأكيد أو النفي، فاختار الثاني مجدداً عبر بيان للمجلس الوزاري تلاه الناطق الرسمي، والذي سرد فيه الأحداث بإسهاب لم يترك منها شاردة ولا واردة (إن السيد رئيس الوزراء لم يكن على علم بزيارة رئيس مجلس السيادة إلى عنتيبي ولقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي، ولم يحدث أي اخطار أو تشاور في هذا الأمر) وأكد الناطق الرسمي ايضاً أنهم فوجئوا ليس بهذا اللقاء وحده، وإنما بالمؤتمر الصحفي لرئيس مجلس السيادة كذلك، وقال إنه (قدَّم فيه إفادات مختلفة عما جاء في الاجتماع المشترك) مذكراً أنهم عقدوا اجتماعاً مشتركاً مع المجلس السيادي (خلال الاجتماع واللقاءات التي سبقته وتخللته، أكد رئيس مجلس السيادة أنه قام بهذه المبادرة بصفة شخصية ولم يستشر فيها أحداً، وأنه يتحمل مسؤوليتها وأنه فعل ذلك لاعتقاده أن في ذلك فائدة للشعب السوداني) كما أشار الناطق الرسمي إلى قول البرهان (إن اللقاء كان استكشافياً ولم يقدم خلاله أي وعود بالتطبيع أو إقامة علاقات دبلوماسية) ثمَّ مضى بيان الناطق في ما يمكن أن يقال عنه تحصيل حاصل، مثل أمر السياسة الخارجية ونصوص المسودة الدستورية والسلام والشراكة المتكافئة والحرب الاقتصادية وهلمجرا.

يبدو أن الطرفين كانا في حاجة لمن يعضد موقفهما، فاتجه كل صوب قبيله. حيث أُدخلت القوات المسلحة عنوةً، في معركة يراد لها أن تخوضها في غير معترك. فأصدرت بياناً من ثلاثة أسطر فقط، يعني لمن خبر أحابيلها إنه بمثابة بيان قبل البيان رقم واحد المعتادة عليه، وخلاصته مناصرة رئيس مجلس السيادة سواء كان ظالماً أو مظلوماً. على الجانب الآخر كان ما حدث محرضاً ومحفزاً لمختلف القوى السياسية، وعلى رأسها تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير وأحزاب أخرى نهضت بعد ثبات عميق، وأصدرت بيانات تراوحت لغاتها بين التهديد والوعيد تارة، والعنتريات التي لم تقتل ذبابة تارة أخرى. وبينما كان ذلك السجال دائراً كانت الأسافير قد اشتعلت وانشغلت بتحليلات شاطحة تتبضع في التطبيع، وأخرى ناطحة تنفر منه غاضبة. وبدا واقعنا برمته كما هو مشهد أهل العراق الذين كانوا يسألون عن حرمة دم البعوض بينما دماء كربلاء جرت مدراراً أمام أعينهم. مع ذلك لا ينبغي أن نغمط حق آخرين وضعوا الأصبع على الجرح، إلا أن صوتهم كان (مبحوحاً)!

نخلص ونستخلص من الوقائع المذكورة والتي راعينا فيها الترتيب الزمني والدقة في الاقتباس إلى النقاط التالية التي تمثل رؤيتنا في ما جرى باعتبار أننا لم ننساق وراء النوافل تاركين خلفنا الفروض، فلم يكن التطبيع مع إسرائيل من عدمه هو القضية، ليس تقليلاً من أثره، وإنما لقناعة راسخة بأن خطوة كهذه ليست بيد البرهان حتى لو قام بمضاعفة لقاءاته تلك سراً وعلناً، وبنفس القدر ليست من شأن الحكومة الانتقالية، وبالتالي يصبح الحديث حولها مضيعة للوقت. عوضاً عن ذلك كان ينبغي أن نركز اهتمامنا في ما قام به البرهان وأماط لثامه في المؤتمر الصحفي دون وازع وطني. كان ينبغي الوقوف ملياً في تلك الأسرار التي فض بكارتها على الملأ دون أن يطرف له جفن. مسؤولان على قمة هرم السلطة يتبادلان الاتهام بخصلة تعد من خصائل المنافق الذي (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أوتمن خان) ولا يزالان مؤتمنين على مصير الوطن، إلى جانب ذلك نستخلص التالي من الوقائع أعلاه:

أولاً: اعتبر البرهان شعب السودان قاصراً لم يبلغ الحلم بعد، وبالتالي لا يعرف أبجديات المحافظة على وطنه، وعليه قام بهذه الخطوة بصفة شخصية ولم يستشر فيها أحداً. لكأنما هذه الوطن ضيعة يمتلكها، فما هرف به لا يجرؤ أعتى الديكتاتورين على التفوه به. وهنا يظل السؤال قائماً هل هذه الخطوة ستعبر كما عبرت أمثالها الكُثر؟

ثانياً: يوحي تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية أن البرهان قدم في ذاك اللقاء أكثر مما حاول التقليل من شأنه، ويشيء ببنود سرية أُبرمت ولم يتم الإعلان عنها، إذ ليس من المنطق القول إن اللقاء استغرق ساعتين قضاهما في السلام والصحة والسؤال عن الأنجال. والمفارقة أن وزير الخارجية يعلم أن مثل هذا الخرق تُوجه لفاعله تُهم الخيانة العظمى في بلاده.

ثالثاً: إقرار البرهان في المؤتمر الصحفي بأن الاتصالات جرت لعدة شهور وحددها مع نتيناهو وبومبيو، ذلك يعني أنها بدأت إما قبل أن يعتلي سنام السلطة أو بعدها بقليل بحكم أن الحكومة الانتقالية لم يتجاوز عمرها بضع أشهر. غير أن المصيبة تتضاعف حينما نتذكر أن الشعب الصابر على المكاره وحكومته الفتية تلك كانا آخر من يعلم. والحقيقة لا أعلم تعبيراً يُطلق لمثل هذه الاتصالات غير قولنا سالف الذكر عن تهم الخيانة العظمى!

رابعاً: زاد برهان الطين بلَّة بقوله إن هناك شخصاً تولى المبادرة ونحن لا نعرف كنه هذا الوسيط، ثمّ زاد الكيل وقال إن هناك أشخاصاً عملوا كروافع لهذا اللقاء وأيضاً نحن لا نعلمهم. كذلك أقر بأن البلاد مخترقة من قبل سبع جهات، كانت كلها تتراكض من أجل الفوز بغنيمة لقاء السعد مع نتنياهو، هل يمكن لإنسان عاقل يقف على رأس هرم السلطة التي يفترض أنها ثورية، وهو المسؤول الأول فيها عن أمن الوطن والمواطن وحماية تلك الثورة، هل يعقل أن يرمي بمثل هذا الكلام البائس على عواهنه. وكنت قد سألت نفسي كيف ننام مطمئنين ونحن مخترقون حتى النخاع؟

خامساً: كانت الاتهامات المتبادلة بالكذب هي أنكى وأمر. وهي ما لا ينبغي أن تمر مرور الكرام. ثمة تسجيل سُرِّب للدكتور الشفيع خضر يقول فيه بوضوح إن حمدوك كان يعلم باللقاء، وتلك هي رواية البرهان نفسه، في حين أن الناطق الرسمي أكد مرتين في بيان لمجلس الوزراء قوله إنهم لا يعلمون بمن فيهم حمدوك. وما يُعضد فرضية الشفيع خضر أن الحديث كان قد جرى مراراً وتكراراً عن قربه من رئيس الوزراء كمستشار غير رسمي. بيد أن المستشار الصحافي البراق النذير الوراق قال إن ما أدلى به الشفيع يخصه، مع أنه لم يلحق ذلك بالقول الفصل!

سادساً: في سياق الاتهامات الأخلاقية لم يكن الكذب وحده سيد الموقف، فقد قال بيان الناطق الرسمي باسم مجلس الوزراء إن الفريق أول البرهان قدم إفادات مختلفة عما قاله في الجلسة المشتركة والمؤتمر الصحافي، ولعمري مثل هذا الاتهام ترتج له أوصال وطن (ينام شعبه على أذنيه) كما يقولون! كلنا يذكر بأن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون حوكم بتهمة الكذب تحت القسم، وهي أنكى وأمر من التهمة الأخلاقية التي وُجهت له والتي لم تكن هي الدافع للمحاكمة.

سابعاً: كان دخول القوات المسلحة المعترك هو ثالثة الأثافي التي ينبغي أن ننصب من أجلها سرادق العزاء، فقد تجاوزت القوات المسلحة مهامها المناط بها في حماية الأرض والعرض، ويبدو أنها استمرأت خروقات القائد الأعلى المتوالية لقانونها والوثيقة الدستورية ونكصه القسم الذي بموجبه أصبح على رأس السلطة.
فيا قوم أنظروا ماذا أنتم فاعلون!؟

وإلى الجزء الثاني الذي نتوخى به وضع النقاط على الحروف في السؤال التائه: لماذا حدث ما حدث!؟
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!
faldaw@hotmail.com

الوسوم فتحي-الضَّو

التعليقات مغلقة.