انعكاسات الواقع على التجربة الثقافية والمسرحية

المسرح السوداني: الإبداع بين حدود الإمكانيات وتجريم الفنّ

المسرح السوداني: الإبداع بين حدود الإمكانيات وتجريم الفنّ
  • 17 أبريل 2017
  • لا توجد تعليقات

اتفق معظم الدارسين والباحثين على أن المسرح السوداني تعود جذوره إلى تلك الأشكال الفرجوية المرتبطة بالممارسات الطقوسية الدينية والاجتماعية. وهي عادة ما تكون مكوّنا هامّا من مكونات المخزون الروحي المتعلق بحضارة شعب ما، ولعلّ ابرز هذه الطقوس “الزارا” أو “رقصة العروس” أو “أذكار الطرق” ذات المرجعية الصوفية(1).
ويعود تبرير النقاد والدارسين في ذلك إلى مفاهيم تقول بأن المسرح بإمكانه أن يكون على غير ما هو عليه الآن، إذ أن اشتغال الطقوس أو الشعائر فرجويا، من الممكن وصفه بالمسرح الاحتفالي، وهو ما يمكننا بالقول إن الدراما السودانية لا يعني إنها تطورت من الفعل الطقسي- الفرجوي إلى ما يتطلبه المسرح اليوم من ركح وتقنيات، كما لا يعني أيضا أن المسرح يحمل مفهوما أحادي الجانب بالقول إن النموذج الإغريقي هو الشكل الوحيد الذي يتعين إتباعه أو تحويله إلى نموذج يحتذى به، وفق ما نظّر أرسطو طاليس وأسس لذلك باعتماده لمقولة الثالوث المحرّم(2).إن البحث في أصول المسرح السوداني، يجعلنا نقول بأن هذا الفن له أكثر من مفهوم، إذ بإمكانه أن يتخذ أشكالا مغايرة تختلف باختلاف السياق الثقافي للمجتمعات الإنسانية.
من جهة أخرى، رأى البعض أن النشأة الحقيقية التي دفعت بهذه الطقوس والشعائر السودانية للاشتغال مسرحيا، كانت قد تمظهرت جيناتها الأولى أثناء الاحتكاك بالثقافات الأخرى مثل الثقافة المصرية والانجليزية، وهو ما جعلهم يذهبون بالقول إن سنة 1880 كانت المنطلق الفعلي، إذ عرفت السودان بعض الممارسات الإبداعية في هذا المجال، وخاصّة مع النشاط الطلابي بعد أن قدم بعضهم مشهدا لإحدى مقامات الحريري تحت إشراف الأستاذ محمد الخديوي. وتلت هذه المحاولة، محاولا أخرى جديدة وخاصة في سنة 1899، مع ما يعرف بمسرحة التاتو، وهي تعبيرة فنية ممسرحة كان يقوم بها الانجليزيون احتفالا منهم بذكرى انتصارهم على جيش الخليفة عبد الله التعايشي.
أمّا السنوات التالية، فقد شهدت من خلالها الساحة الثقافية بالسودان مجيء بعض الفرق المسرحية من بلدان أخرى لتقديم عروضها، نزولا عند رغبة الجاليات المقيمة هناك (3 ، إلا أن السودانيين ظلّوا محرومين من المشاركة في هذه العروض، حتّى أنه لا يسمح إلا لفئة قليلة منهم بالحضور، وتمثلت في الأكاديميين والطلبة فحسب، وبالرغم من هذا الإقصاء إلا أن البعض وخاصة عبيد عبد النور، كان قد تمكن من تجاوز الثابت والسائد عبر محاولات متعددة قام بها في اتجاه التأسيس لمسرح سوداني(4)يناقش قضايا السودان ويحمل في مضامينه همومها الاجتماعية والسياسية والتاريخية، حتى أن المشهد الثقافي في تلك الفترة، شهد بروز العديد من المسرحيات والفرق المسرحية.

مخاض التأسيس
يضعنا البحث في مسار المسرح السوداني أمام العديد من التجارب الإبداعية التي تحفزّنا على دراستها ومساءلتها، بالتطور في أصولها والحفر في أغوارها. وربما تعود هذه التجارب، أو بالأحرى تصنّف على أساس أنّها منتمية لما يسمّى بالمسرح الشعري، ذلك أن التراث السوداني غنّي وحافل بالشعر، وهو ما جعله يؤثر بشكل أو بآخر على مسار التجربة الإبداعية الممسرحة، باعتباره الأقرب إلى ذلك وخاصّة في بنياته الفنية، فالشاعر لا يسرد ملحمته الشعرية أو قصيدته نثرا ولا خبرا، بل يدعونا كقرّاء إلى مشاهدة الشخصيات وهي تروي الأحداث، وكأنها تقف على الركح (5)
من هنا أمكن التحدث عن تجربة التأسيس ومخاضها انطلاقا من وصفها بالمسرح الشعري، حيث تضافرت الأشكال السردية والدلالية والأحداث والحوار والأقنعة في سبك العوالم الدرامية، وهو ما نلمسه بالعودة إلى شعر الدوبيت أو المسدار، أو بالرجوع إلى خالد أبو الروس وسيّد عبدالعزيز، حيث مثّل التناص تقنية مهمّة في مسرحة نصوصهم ركحيا.
أمّ بخصوص عالم الكتابة المسرحية، كالتحدث عن نصّ مسرحي قائم الذات، فقد مثّل الأمر ضربا من ضروب التجريب وذلك مع بدايات القرن التاسع عشر، حيث تمّ الوعي بضرورة الخروج من الأشكال الفرجوية- الطقسية والشعرية إلى حتمية التأسيس لنصّ مسرحي معدّا للفرجة. وهذا الوعي برزت جيناته الأولى من خلال الاحتكاك بالثقافات الأخرى العربية وغير العربية، ممّا توّج لظهور كتابات نقدية تناولت الأعمال المسرحية بالنقد والوصف، وخاصّة مع محمد بن عبد الله علي ومحمد عشري الصدّيق، اللذان حفّزت دراساتهما تفعيل النشاط المسرحي بالأندية الثقافية مثل نادي خرّيجي المدارس بالخرطوم ونادي الضبّاط، وخاصّة في مستوى الكتابة التي شهدت مراحل مختلفة. فقد كانت الأولى بمثابة مرحلة الاحتكاك بالأشكال المسرحية والتعرف عليها، وتراوحت بين فترتي 1880 و1910، والثانية هي مرحلة بدايات تشكل الوعي الفني بعد إدراك أهميته الكبرى ودوره في تثوير الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي، وامتدّت إلى حدود العشرينات من القرن الماضي، أمّا المرحلة الثالثة فيمكن أن نصفها بمرحلة البحث عن الهوية وصعوبات التأسيس، حيث لجأ المبدعون السودانيون إلى التراث بهدف تذويبه مسرحيا، لكنّ الإشكال في ذلك بقي دون وعي نقدي ثاقب من شأنه أن ينجح في اختراق الماضي والراهن عبر توظيفهما لصنع مستقبل رائد، وامتدت هذه الفترة ما بين الثلاثينات والخمسينات من القرن الماضي.
تبقى المرحلة الرابعة أهمّ بكثير من المراحل التي سبقتها، إذ مثلت ضربا من ضروب تقويض الماضي والثورة على التراث بالدخول في تخوم المسرح الحديث ومحاولة الأخذ منه، وهو ما ساعدها على الظفر باتجاهات جديدة للمسرح السوداني، لكنها ظلت رهينة العديد من الصعوبات، وأهمّها الجدل الواسع حول مسألة الكتابة المسرحية وانجازها ركحيا، ممّا زجّ بها في التجريب وإعادة المحاولة في كلّ مرّة.
نشير هنا إلى أن المسرح السوداني لم يرتكز في نشأته أو تطوره على الأشكال الفرجوية، طقوسا وممارسات شعبية، فقط، وإنما اتجهت الحركة المسرحية بالإضافة إلى ذلك إلى الأخذ من الثقافات الأخرى، وهو ما يجعلها تخرج من المحلية وثقافة الانغلاق كي تحتك بالآخر.هذا الأمر، مكّن من ظهور تجارب إبداعية قد تكون ناجحة في نظر البعض، لكنها تظل محلّ مساءلة على الدوام، كالبحث في مدى نجاحها على مستوى الحفر في جلّ العناصر المسرحية، ومقومات العرض.

صعوبات التأسيس
إن المسرح، في جلّ المجتمعات الحديثة، والى حدّ هذه الساعة، يتطلب فضاءات وظروف إنتاجية معينة، فالإبداع وحده لا يكفي لكي نخلق عملا فرجويا ناجحا، ذلك أن رهانات الخلق تظل رهينة الظروف الموضوعية المحيطة به.والتجربة المسرحية السودانية، لم تشهد زخما كبيرا في هذا المجال، ذلك أنها لم تتجاوز حدود الأندية والجمعيات الأدبية، فهي ضرب من ضروب الهياكل الصغيرة، التي تنشأ في صلب مؤسسات مختلفة، وهو ما يفقدها طابع الخصوصية والاستقلالية.
وهذه الأندية: كانت الجالية الأجنبية، هي التي ساهمت في تأسيسها، أي أنها كانت معدّة لأغراض ترفيهية لا إبداعية. وبالرغم من محاولة السودانيين استثمارها فيما بعد، كبروز الفرقة التمثيلية التي ترأسها الأديب المصري “محمد فاضل”، وتمكنها من تقديم بعض العروض لموظفي السكك الحديدية (6)، ومحاولة الفرقة المسرحية لكلية “غوردون” التي يترأسها “عبيد عبد النور”، إلا أن معظم التجارب قوبلت بالتهميش، فالتأثيرات والمصاعب المتعلقة بالبنية المادية التحتية التي يتطلبها المسرح، والتي من شأنها أن تساهم في خلق عمل متكامل كحضور الجمهور وخلق سينوغرافية الصورة، ساهمت في وأد العديد من المحاولات الإبداعية.
بالإضافة إلى ذلك، مثلت التقاليد السائدة عائقا أمام الإبداع والتخطي والتجاوز، فقد تمّ رفض معظم أعمال “عبيد عبد النور” بحجة أنه ينجز أعمالا غير مألوفة، فكان أن واجه هجوما كبيرا من قبل رجال الدين وخاصّة بعد مسرحيته “الابن العاق”، ووصل الأمر إلى حدّ تكفيره، وتجميد نشاطه الثقافي والإبداعي في كلية غوردون إلى حدود سنة 1936.
ولأن بعض المسرحيين، اتجهوا في أعمالهم إلى نقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية هناك، فقد ووجهوا بالرفض، ذلك أن الحكومة فرضت حصارا على الأندية ولم تسمح بدخولها إلا لغير الأعضاء الناشطين فيها، وهو ما زاد في عزلتهم وابتعادهم عن الجماهير، وبقاء المسرح مجرد فن غريب عن العامة.
بعد نهاية الاستعمار، ظلت السودان مفجوعة، نتيجة الخراب الذي لحقها، كما أن المشهد السياسي والاجتماعي في تلك الفترة ظلّ حافلا بالأزمات المتعددة، وصولا إلى الفترة الراهنة. ولعلّ الحروب وانتشار الفكر الإرهابي والظلامي والطائفي وتقسيم البلاد مؤخرا، عاملا آخر في تكريس نكسة الشعب السوداني المقاوم، وهو ما مثل انعكاسا خطيرا على التجربة الثقافية والمسرحية هناك.إذ كيف يعلو صوت الفنّ وصوت السلاح هو الطّاغي؟ وكيف يمكن التأسيس لثقافة مغايرة في حين أن الأوضاع الاقتصادية تشهد نزولا إلى الحضيض؟ وكيف للمثقف أن يبدع وهو مهمّشا إزاء كل هذه الأوضاع؟

أسماء حاولت التأسيس لمسرح سوداني
نستطيع تسليط الضوء على بعض الأسماء التي حاولت بالرغم من جلّ العراقيل والصعوبات، التأسيس لمسرح سوداني مقاوم، وتقدمي، في بعده السياسي، وإبداعي، ومغاير، في بعده الثقافي والأنثروبولوجي، وهما خالد أبو الروس وإبراهيم العبادي.
ولد الأوّل سنة 1910، وزاول تعليمه في المعهد العلمي بأم درمان، وبالرغم من ظروفه الاجتماعية والأسرية الرافضة للفن والمحرّمة له، إلا أنه أصر على احتراف التمثيل، والمراكمة في سبيل انجاز كتابة مسرحية رائدة. ونجح في ذلك إلى حدّ مبهر، فكان أن كتب “مصرع تاجوج والمحلق” متأثرا “بمصرع كليوبترا”، كما ساهم في تقديم وإجراء تدريبات في نادي الزهرة، متحدّيا الاستعمار البريطاني الذي لاحقه واستجوبه في أكثر من مرّة، مؤلفا بذلك مسرحية “خراب سوبا”. ويجمع الدارسون على أنه أوّل سوداني وضع لبنات الكتابة المسرحية هناك.
أمّا إبراهيم العبادي، فقد كان شاعرا ولكنه كتب للمسرح، ومن أهم كتاباته مسرحيته “المك نمر”، وهي عمل إبداعي مثّل نوعا من التعبير على ضمير عصره وعذاباته، واعتمد فيه على التراث وكيفيات تذويبه، ليكون في خدمة الراهن السوداني، بعد أن استند في ذلك على واقعة فتنة “الجعليين والشكرية”، مبرزا من خلالها وضعية الفرد السوداني وما لحقه من حيف.
*باحث تونسي
________
1- سعد يوسف عبيد، أوراق الدراما السودانية،مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم، السودان، ص 82، 2002 2- لمزيد من التوسع راجع كتاب فن الشعر لأرسطو، ترجمة عربية قديمة، ص33، 1967.
3- عثمان النصيري، مسرح الجاليات، منشورات إدارة الفنون المسرحية والاستعراضية أم درمان، السودان.
4- آمال فاضل، المسرح في السودان، مكتبة كلية الموسيقى والدراما، السودان.
5- جعفر ميرغيني، مدرسة أم درمان الشعرية، جريدة الرأي العام، الخرطوم، 2000.
6- مختار عجوبة، أصول المسرح الحديث في السودان، مجلة الثقافة السودانية، ص 75.
Online Drugstore,cialis 5mg price,Free shipping,buy clomid and nolvadex,Discount 10%cialis black discount

التعليقات مغلقة.