في ذكرى شيكان..  الأرض تبتلع جيش الغزاة!

في ذكرى شيكان..  الأرض تبتلع جيش الغزاة!
  • 04 نوفمبر 2017
  • لا توجد تعليقات

محمد المصطفى موسى

تحل علينا في أوائل نوفمبر من هذا العام.. الذكرى ١٣٤ لمعركة شيكان المصيرية، التي جرت وقائعها في ٥ نوفمبر ١٨٨٣. شهدت تلك الموقعة انتصاراً شعبياً وعسكرياً ساحقاً لقوات الثورة المهدية على الجيش الغازي بقيادة الجنرال البريطاني وليام هكس.. ولعل من نافلة القول هنا الإشارة إلى أن شيكان كانت أول معركة في تاريخ السودان بالقرن التاسع عشر.. تشهد استغلالا عبقرياً لعوامل الجغرافيا والمناخ لصالح أصحاب الأرض الذين أشعلوا تلك الثورة السودانية ضد الاحتلال الأجنبي وقد تزامن ذلك مع تأييد شعبي كاسح لها في كل المناطق التي تقدم فيها هكس بحملته.. ذلك التأييد الذي اتفق مع تخطيط استراتيجي متقدم لإستدراج قوات الغزو لمعركة اختارت زمانها ومكانها قيادة الثورة المهدية بعناية فائقة.

فلنبدأ بحديث المؤرخ البريطاني فيرغس نكول صاحب كتاب (مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون) عن الجنرال هكس وتفاصيل تكوين جيشه لقمع الثورة المهدية.. طامعين في سبر أغوار البدايات الأولى وما ضجت به من تفاصيل كثيرة.. وليس هناك بأفضل من نقل وصف نكول للجنرال هكس الذي قال فيه : ” كان ضابطاً بريطانياً مميزاً.. بلغ الثالثة والخمسين من عمره عند تكليفه بقيادة الحملة.. مديد القامة.. حسن المظهر والتقاطيع.. وعلى وجهه آثار صرامة واضحة وذقن بارز اشيب الشعيرات”.. وقد تم اختياره لهذه المهمة بعناية فائقة وتفضيلاً  على الجنرال فالنتاين بيكر عطفاً على انضباطه وسمعته الحسنة بالمقارنة مع الأخير”.

والمفارقة ان فالنتاين بيكر نفسه لقي الأمرين وعاني ما عاني من الهزائم علي يد عثمان دقنة في سنوات لاحقة بشرق السودان”.. كما وصفه اللورد دوفرين “المقرب جداً من ملكة بريطانيا” بالقائد الرصين والمتزن في أدائه وخبراته العسكرية كخيار ممتاز لقمع الثورة المهدية.. (مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون.. لفيرغس نكول، دار سوتون Sutton للنشر ، جلوستارشاير ، المملكة المتحدة 2004 ).

وقد قامت صحيفة Lloyd’s اللندنية بإعداد تقرير مفصل عن حملة هكس في نوفمبر 1883 استعرضت فيه خبرات الجنرال وليام هكس الميدانية والقتالية المتنوعة من خلال سرد سيرته الذاتية الحافلة بالنجاحات في قمع الثورات التي قامت في شتى أرجاء الإمبراطورية البريطانية وجاء في ذلك التقرير : ” انضم هكس للجيش البريطاني في مدينة بومباي الهندية في 1849وخدم بلده في البنغال في حملة 1847-1849 كما اشترك مع اللورد كلايد في حملة اخضاع اقليم اويد الهندي . لقد تقلد رتبة اللواء او Brigade Major في موقعة ( ماجدالا) التي انتصرت فيها القوات البريطانية انتصاراً باهراً في الحبشة ” ..( Lloyd’s Weekley London Newspaper  November 1883, ارشيف الصحافة البريطانية ).

وفور وصول هكس إلى القاهرة انخرط في حملة مباحثات مكثفة مع الخديوي توفيق.. ثم تبع ذلك بلقاءات متصلة مع السير إيفلين وود والذي فرضته بريطانيا قائداً عاماً للجيش المصري برتبة سردار بعد ثورة عرابي. مغتراً بتلك البدايات المبشرة وروح التعاون التي وجدها من الجميع بالقاهرة.. بعث هكس إلى زوجته صوفيا ببريطانيا برسائل متتابعة في 1883.. تميزت الرسائل الأولى منها بقدرٍ كبير من التفاؤل .. حين يقول في إحداها:

” لقد كان الخديوي توفيق سخياً معي حينما وعدني بحافز شخصي يبلغ عشرة آلاف من الجنيهات الاسترلينية إن أفلحت في حسم أمر السودان “.. وفي آن آخر تجده يركن إلى التشاؤم المصحوب بالقلق الذي بدا وكأنه يسكن بغورٍ عميق بباطن ذهنه المتوتر.. مما دفع فيرغسون إلى تقمص دور المحلل النفسي حين يصفه بالشخص المتقلب المزاج.. Had wild mood swings. وذلك حين كتب لصوفيا بعد لقائه المغلق بالقاهرة مع كل من السير ايفلين وود.. واللورد دوفرين.. واللورد ادورد لتوفير الغطاء السياسي للحملة.. قائلا: ” إنني اشعر بغاية القلق.. هل سأستطيع فعل كل هذا؟ إن هذا الأمر يبدو لي هائل الاعباء “.. وبعد أيام قلائل يستعيد هكس نبرة التفاؤل المألوفة في خطاباته لزوجته والتي بدت في هذه المرة أقرب إلى الخيلاء الذي شارف حد البطر.. حين يكتب لها قائلاً: ” إن بعض الرجال يولدون عظماء وبعضهم ينتزع العظمة بأعماله في الحياة ولكني اعتقد أنني سأبقى عظيما طوال حياتي”.. ملمحاً إلى حتمية انتصاره على الثورة السودانية الوليدة ! .. (نيكول : خطابات هكس لزوجته صوفيا ،مصدر سابق).

أما عن تكوين جيش حملة هكس فقد اوردت صحيفة Lloyd’s اللندنية تفصيلاً مسهباً عن التشكيل القيادي للحملة حين ذكرت: ” بالإضافة للجنرال هكس كقائد عام للحملة.. اصطحب هكس معه عدد من الضباط الأوربيين فكان هناك القائد الانجليزي الشهير فركهار برتبة Major او رائد والذي خدم كنقيب في وحدة المشاة بالجيش البريطاني المعروفة باسم Grenadier Guards .. جنباً إلى جنب مع الضابط البريطاني Massey والذي خدم برتبة فريق في وحدة المشاة الاخرى بجيش الامبراطورية والتي عرفت باسم Middlesex Regiment .

أما على مستوى سلاح الفرسان فقد كلّف الميجور مارتن بقيادته.. بينما تشكل السلاح الطبي بقيادة الدكتور روزنبرغ برتبة رائد جراح. و تشكل سلاح الاستخبارات بقيادة الضابطين.. وارنر و إيفانز ” .. ( Lloyd’s Weekley London Newspaper,مصدر سابق).

ولا يختلف تقرير الصحيفة اللندنية عن الهرم القيادي للحملة إلا اختلافاً طفيفاً عما أورده المؤرخ الوطني الأستاذ عبد المحمود ابو شامة في سفره القيم ( من أبا إلى  تسلهاي ) .. وقد أسهب الأستاذ أبوشامة حين تحدث عن جنود الحملة الذين كانوا خليطاً من الأتراك والالبان والشركس والمصريين من بقايا جيش عرابي ومجموعات أوروبية مقدرة، وخلص إلى  ان تعدادهم كان يربو عن الـ 15000 جندي  بالتمام والكمال . وما كان لجيش جرّار كهذا ان يُرسل من دون توفير التغطية الإعلامية الفعالة لوقائع تحركاته .. فصحب ذلك الجيش كأذرع إعلامية.. كل من فرانك باور مراسل جريدة ( التايمز اللندنية)..وفرانك فيزتلي مراسل جريدة( The Graphic ) ..كما تواجد  هناك أيضاً الصحفي الأيرلندي المثير للجدل إدموند اودنوفن المحسوب على التيار القومي الأيرلندي .. كمراسل حربي لصحيفة Daily News.

بدأ جيش هكس تقدمه نحو المهدي في كردفان من شات بالنيل الأبيض في 27 سبتمبر 1883 ومنها أصدر هكس منشوراً عاماً  نضحت كلماته بصلف إنجليزي بالغ .. توعد فيه  كل زعماء القبائل بالمنطقة وطالبهم بالتسليم  له وعدم الانضمام للمهدي  ومن أبى فلن يسعه إلا أن يُفتك به ليتم تدميره مع المهدي وجيشه  ! وشاعت في تلك الأوقات روايات شعبية  كثيرة اختزنتها الذاكرة السودانية   الشعبية تتحدث معظمها عن ثقة هكس العمياء بمقدراته  و بأس جيشه وأسلحته الثقيلة .. ومن ذلك ما أورده الأستاذ ابوشامة في ( من أبا إلى تسلهاي)  بأن جيشه كان قادراً على دك الأرض بأحذية جنوده  ورفع السماء إن أقبلت نحو الثرى  بسناكي البنادق ..  هذه الحرب الدعائية المعنوية التي استبق بها هكس تحركاته نحو كردفان أكد وقائعها  الأمير علي الجلة..  أمير المسيرية الذي استجوبته اصدارة Sudan Notes & Records البريطانية الشهيرة لاحقاً في العقود الأولى من القرن العشرين  .. وبذات المعنى المار ذكره بعث وليام هكس بخطاب ينضح بلغة الوعيد والتهديد من شات بالنيل الابيض للإمام المهدي بمدينة الابيض .. وعندما تُلي خطاب هكس على المهدي رد عليه بثقة القائد الذي يعرف كيف يثبت جنوده حين قال ببرود : ” سبحان الله هذا المسكين نسى قدرة الله فأين قوة الله .. لا حول ولا قوة الا بالله “.. ثم نهض المهدي مخاطباً  جيشه : “اذا طار الطير اين ينزل ؟ ” فقالوا : ” ينزل في الأرض ” فعقب قائلا : ” نحن الارض .. وهؤلاء أينما توجهوا سيأتون إلينا ” .. (أوراق السيد علي المهدي ، نسخة مودعة بدار الوثائق السودانية بخط يد الشيخ سليمان اديب ).

لم يهدر الإمام المهدي الكثير من الوقت، فقد كانت أدق المعلومات الاستخباراتية عن جيش الحملة كلها أمامه في الأبيض منذ يوليو 1883 بفضل جهاز الاستخبارات المهدوي بقيادة الأمير حمدان ابوعنجة والأمير محمد عثمان ابوقرجة .. فاستدعى المهدي الخلفاء والأمراء لمجلس حرب تشاوري منذ سبتمبر 1883.. كانت خطته العسكرية تبدو بسيطة من الناحية النظرية ولكنها على قدر كبير من الإحكام المتحسب لكل دقائق التفاصيل الصغيرة .

أصدر المهدي أوامره باستدراج جيش هكس لفخ نصبه ببراعة في سهول كردفان الفسيحة على أن يتم حرمان جيش الحملة من الإمداد تماماً .. كما وجه الأمراء أبوقرجة وعبدالحليم مساعد(جد الأستاذ محمد احمد المحجوب لأمه) و عمر إلياس باشا أم برير وحمدان أبوعنجة بمهام محددة .. كانت مهمة هؤلاء حسب توجيهات محمد أحمد المهدي الصارمة.. إقلاق منام الحملة ليلاً بالاشتباكات السريعة الخاطفة دون الدخول معها في مواجهات مباشرة .. ضرب كل الخارجين عن التشكيل الانجليزي للمربع العسكري..و دفن الآبار ..أكبر عدد من الآبار في طريق الحملة.. وإخلاء القرى واستدراج الغزاة لإنهاكهم وتحطيم روحهم المعنوية على طول الطريق نحو شيكان .. و ليس من العسر بمكان على أي متدبر ٍ حصيف إدراك الإدارة المتقنة لتكتيك الحرب الشعبية من خلال حملة مراسلات المهدي النشطة مع الأمراء.. ففي سبتمبر 1883 كتب المهدي للأمير احمد ود جفون :” وانه بمجرد وصول جوابي هذا إليكم انتم وجميع من معكم من الأنصار انضموا مع بعضكم البعض في جهة من الجهات وأخلوا لهم الطريق كي يجدوه سهلاً خالياً ، وأكمنوا لهم بالطلائع الشافية ، وبعد تحققكم بذهابهم و مرورهم من نواحيكم ، فأمسكوا قفاهم واتبعوهم من ورائهم فيصيرون في وسطنا” .. إلى ان يقول : ” الحرب خدعة، فشمروا عن ساعد الجد وقوموا بواجب ما أمرتم به ولا تغفلوا عن الطلائع دائماً قبل وصولهم بنواحيكم و مرورهم و لا تقطعوا من الإفادة من الأخبار المحققة” .. (منشور الامام المهدي للأمير احمد ود جفون : الآثار الكاملة للامام المهدي لابوسليم ، المجلد الاول، دار جامعة الخرطوم للنشر ، الخرطوم 1990 ) .. ذلك تكتيك برع المهدي في تنفيذه وأقر بعبقريته فرانك باور المراسل الحربي لصحيفة التايمز حين قال :  ” لم ينشغل السودانيون كثيرا بالمدفعية والأسلحة الثقيلة التي امتلكها جيش هكس .. لقد كان أفضل سلاح أجادوا استخدامه ببراعة هو طبيعة بلادهم – يقصد الطبيعة الجغرافية للسودان- لقد أجادوا استخدام هذا السلاح بعبقرية فائقة”.. ( نيكول : مصدر سابق) .

ويتفق المؤرخ والخبير العسكري البريطاني فيثرستون في كتابه بعنوان ” الوقفة الأخيرة للجنرال غردون ” مع باور في الثناء على عبقرية خطة المهدي لإستدراج جيش هكس إلى مصيره النهائي الذي كفل للثورة  السودانية انتصاراً حاسماً على قواته  حين يقول :  ” لقد كان على الحملة التعامل مع حرارة الطقس القاسية ، العطش ومضايقات واشتباكات الجيش المهدوي الخاطفة التي استمرت على نسق ثابت مما أثار شقاقاً داخلياً وسط الرتب المتقدمة من ضباط الحملة .

لقد كان المهدي ممسكاً بكل أوراق اللعبة .. Holding all the cards .. و كان جهاز الإستخبارت المهدوي على أعلى مستوى ..First rate intelligence .. فأرسل ألف فارس بقيادة الأمير محمود عبدالقادر لاحتلال منهل البركة و أجبر هكس على تحويل مسار جيشه لغابة شيكان “.. ( فيثرستون: الوقفة الاخيرة للجنرال غردون، Osprey Publishing ،أوكسفورد ، المملكة المتحدة 1993).

في يوم ٢٩ سبتمبر ١٨٨٣..  أصدر المهدي أوامره لجيش الأنصار بنقل معسكره خارج أسوار مدينة الأبيض وتم تكثيف أعمال التدريب العسكري اليومي استعدادا لمواجهة حملة هكس .. ونقل القائد الشاب الذي وقفت به سنوات عمره عند النصف الثاني من الثلاثينيات .. رئاسته الميدانية إلى ظل شجرة التبلدية الضخمة الشهيرة بشرق الابيض.. و أدت الدعاية الإعلامية الناجحة للثورة الوليدة لتوافد القبائل بالآلاف لمناصرة المهدي لتجديد البيعة والتأكيد على اتفاق الكلمة في مواجهة الغزاة .. كما كان لحادثة هروب الألماني جوستاف كلوتز من معسكر هكس لمعسكر الأنصار أثراً كبيراً  في رفع معنويات جيش الثوار عندما نقل لهم معنويات الحملة المنهارة بسبب المناوشات الليلية المزعجة التي كانت تقوم بها طلائع الجيش المهدوي .. وتنادت إلى تلك التبلدية الضخمة أشتات قبلية سودانية اتفقت جميعها للمرة الأولى على قيادة وطنية موحدة لمواجهة القوات الغازية .. فتوافد فرسان الغديات تحت زعامة الأمير اسماعيل ود الأمين .. والرزيقات بقيادة الأمير موسي ود مادبو .. الحمر بقيادة الأمير ابراهيم مليح .. ثم رجالات المسيرية بقيادة الأمير علي الجلة والأمير محمد ود طبيق .. وفرسان المجانين بزعامة الأمير ود نعمان .. والبديرية بقيادة الأمير عبدالصمد ود ابصفية والحوازمة بزعامة الأمير نواي ود ضيف الله .. بني جرّار بقيادة الأمير ودنوباوي .. الِجمع بقيادة ناظرهم الأمير عساكر ابوكلام .. التعايشة بقيادة الأمير يعقوب ود تورشين والخليفة عبدالله .. الجوامعة بقيادة الأمير موسي الأحمر والامراء رحمة ود منوفل وضوينا الجامعي والشامي ود هباني .. وفرسان المعاليا بقيادة الأمير الشيخ دودو .. فرسان دار حامد بقيادة الشيخ قريقر .. الهبانية تحت قيادة الأمير كليب حمدان .. الزيادية بقيادة الأمير جاد الله ود عيسي .. قبيلة الكواهلة بزعامة الأمير جاد الله ود بليلو جنباً إلى  جنب مع الكبابيش بقيادة الأمير عوض السيد قريش( والذي شارك بفرسان الكبابيش بعد توليه زعامة الكبابيش في المهدية في أعقاب تمرد ابن عمه فضل الله ود سالم ).. وشكل كل هؤلاء قوام الراية الزرقاء ..

أما الراية الخضراء فتكونت من قبائل وسط السودان على نحو .. كنانة بزعامة الأمير البشير عجب الفيه ، دغيم بقيادة الأمير موسي ود حلو ، العمارنة بزعامة الأمير بابكر ود عامر.. اللحوين بقيادة عبدالله ود برجوب والعركيين بقيادة عبدالله ود النور ثم الراية الحمراء والتي ضمت قبائل شمال السودان على نحو الجعليين بزعامة الأمراء الياس باشا ام برير وابنه عمر ، عثمان حاج خالد العمرابي و عبدالحليم مساعد ، الدناقلة بزعامة الأمير ميرغني صالح سوار الذهب والامير فضلو احمد .. البديرية الدهمشية بقيادة الأمير النور عنقرة و زمرة من أقاربه .لقد كان سودان القرن التاسع عشر مكتمل القسمات بكل تشكيلاته الاجتماعية والقبلية الموحدة علي أرض كردفان الغرة. ( تفاصيل مشاركة القبائل السودانية في شيكان ، انظر شيكان : تحليل عسكري لحملة الجنرال هكس للرائد عصمت زلفو ، كرري للطباعة والنشر ، السودان ، ١٩٨٤).

خرج الإمام المهدي على قيادة الجيش من مدينة الأبيض.. في الأول من نوفمبر تاركاً الأمير عبدالله ود جبارة كحاكم للمدينة خلفه فاتجه نحو  شيكان والتي تقرر أنها ستكون ارض المواجهة الحاسمة مع الغزاة . ولم يلبث كثيراً قبل أن يدرك  منهل “المصارين ”  قبل جيش هكس الذي فشل ايضاً في الوصول إلى منهل البركة بعد احتلاله بواسطة قوات الأمير محمود عبدالقادر التي ارسلها المهدي .. فأصبح هكس في مأزق كبير ولا سبيل أمامه إلا التقدم نحو كازقيل ومنها إلى غابة شيكان..  فبدأ فعلياً بالتحرك تجاهها من منطقة “مصران ام برة” . وطارت الأنباء بسرعة إلى المهدي  في منهل المصارين  فلم يفوت كثيراً من الوقت وأمر في الحال  بإرسال الطلائع من أصحاب الخيول لإحداث جلبة عظيمة ليوهم هكس بأن الهجوم الرئيسي على  وشك الوقوع فأضطر هكس للتوقف وبناء زريبة مؤقتة . وفور تأكده من أن هكس سيقضي ليلته هناك .. أصدر الامام المهدي أوامره لفرسان الأمير ” ابو قرجة” للقيام بعملية نقل ضخمة لقوات الأمير حمدان ابوعنجة من المشاة بواسطة الخيول إلى غابة شيكان حيث سيستغلون سواد الليل كغطاء للارتكاز.. وقام بتنسيق العملية كل من الزاكي طمل والنور عنقرة  تحت متابعة الخليفة عبدالله .. وتم حفر عدد من الخنادق حول الغابة .. تلك العملية العبقرية التي سيكون لها التأثير الأكبر في إبادة حملة هكس . حدث كل ذلك بينما كان جيش المهدي الرئيسي يبعد حوالي الـ 15 ميلاً عن موقع هكس وجنوده !

في 4 نوفمبر 1883 عقد المهدي مجلس شوراه الأخير بحضور الخلفاء وكبار الأمراء .. حيث تقرر إحكام الكمين لحملة هكس في أرض شيكان حيث سيختبئ رجال أبوعنجة تحت أشجار غابة شيكان .. بينما كانت مهمة الأمير أبوقرجة وقواته هي مواصلة عمله في مطاردة جيش هكس من الخلف .. من خلال الاشتباكات الخاطفة .. لدفعه دفعاً إلى شيكان حيث الكمين القاتل .

وفي يوم 5 نوفمبر 1883 .. أم المهدي جيشه بصلاة الفجر  ثم نهض خطيباً ليقول ..” من تأخر منكم ليصلح نعله.. لن يدرك الغزاة أحياء” .. ثم أخذ موقعه على صهوة جواده بين الراية الخضراء و الراية الزرقاء وقال : ” الله اكبر .. هيا توكلوا علي الله “.. و تلى قوله تعالي :” ان هؤلاء متبرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون ” فحقت عليهم بقية الآية ” فغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ” .. ثم وأوصاهم بترديد دعاء الحرب ثلاثاً .. وانصرف الأمراء براياتهم للارتكاز في مواقعهم المرسومة حسب الخطة.

وصلت الحملة الغازية إلى قدرها المحتوم بشيكان في حوالي التاسعة صباحا .. فكانت كالفريسة في الفخ.. قوات الأمير محمد عثمان أبوقرجة تطاردها من الخلف فلم يتذوق جنود هكس بسبب ذلك طعما للنوم لأيام متتابعات .. بينما الراية الزرقاء بقيادة الخليفة عبدالله والأمير يعقوب كمنت في ميسرة الجيش في حالة ارتكاز واستعداد للهجوم وأحكمت الراية الخضراء بقيادة الأمير موسي ود حلو حصار ميمنة حملة هكس .. الراية الحمراء بقيادة الأمير عبدالرحمن النجومي والخليفة شريف ..كانت تسد منفذاً ضيقاً بجوار غابة شيكان وحين وصل هكس بجنوده إلى المصيدة .. قام بإعادة تنظيم جيشه المتقدم بتشكيل المربع الانجليزي المعروف على  هيئة  3 مربعات إتخذت شكل شكل حدوة حصان .. ثم أرسل طلائع الاستكشاف نحو غابة شيكان حيث كان يختبئ رجال حمدان أبوعنجة فأبيدت طليعة الاستكشاف بأكملها في لمح البصر  عند شجرة البروجي الشهيرة ..ليسقط جيش هكس بمربعاته الثلاثة بين كماشة هجوم رايات جيش المهدية الثلاثة.. وقام رجال “ابوعنجة” بإطلاق كثيف للنيران لتسهيل عملية الاقتحام .. ولنترك وصف تفاصيل الالتحام للمؤرخ الانجليزي فيرغس نيكول الذي يقول :

“لقد كان الانقضاض المفاجئ للسودانيين على قوات هكس مثيراً للرعب في صفوفهم ، فبينما تراجع رجال أبوعنجة للوراء قليلة .. تقدم الآلاف من حملة الرماح ليأخذوا مواقعهم ، القوة الأساسية لجيش المهدية كانت بقيادة الامير عبدالرحمن النجومي والأمير ابراهيم الحاج الترجماوي والخليفة علي ود حلو والخليفة عبدالله .. تقدم هؤلاء وقاموا باختراق غابة شيكان نحو جيش هكس بقلوبٍ لا تعرف الخوف إطلاقا.. ومن الخلف اتى حملة السيوف والرماح من رجال قبائل البقارة الذين كانوا يطاردون هكس لما يقارب الشهر، ولكن المفاجأة الصاعقة أتت الآن من داخل تشكيلات جيش الحكومة .. بهجوم مباغت زرع الفوضى والارتباك بقلب طوابير هكس وجيشه . لقد اختبأ الثوار بداخل خنادق مغطاة بأسقف خشبية . وما ان تجاوزهم الضباط والمربع العسكري الأول إلا وبرز لهم الأنصار من الخنادق وبدأوا طعنهم من الخلف ” .. ( نيكول : مصدر سابق ) .

أبيد جيش هكس عن آخره في معركة لم تستغرق أكثر من 15 دقيقة ذلك كان زمن الالتحام المباشر بينما قدرت بعض المصادر زمن المعركة منذ ترآى الجيشان مابين الـ 45 ال 60 دقيقة .. وسقط هكس قتيلاً ومعه أركان حربه وخيرة ضباطه .. وبينما تضاربات الروايات الشعبية المتواترة عن كيف قُتِلَ هكس .. فبعضها تقول أن الأمير ود نعمان أمير قبيلة المجانين قد انتاشه برمح فأرداه قتيلا .. والبعض الآخر يتحدث عن مقتله بسيف الخليفة شريف أو الأمير أحمد عوجة إلا أن الراحل الأستاذ مكي أبوقرجة يعرض رواية مختلفة من خلال سفره القيم ( صولة بني عثمان في ملاحم الثورة المهدية  ) .. حين يقول : ” في أعقاب المعركة اندفع فرسان الأمير أبو قرجة يطاردون فلول الجيش المندحر .. فقد كان موقعهم في مؤخرته . أما هو فقد اندفع بحصانه يبحث عن مكان الامام المهدي . كان مشغول البال بمصير الجنرال هكس ولم يتأكد له مصرعه ولم يجد إجابة شافية من المقاتلين الذين تضاربت اقوالهم. وفي وقت وجيز كان يقف أمام المهدي فتبادلا التحية بسلام طويل حار ولم يلبث ان استفسر الامام عن مصير الجنرال هكس فإبتسم الامام المهدي ونادى بصوت عال ( يا عبدالله .. يا عبدالله ) فبرز فتى صغير السن وسرعان ما تعرف عليه أبوقرجة فهو احد أقربائه من اولاد القطينة الذين تركهم صغاراً لم يشبوا عن الطوق وابلغ الامام المهدي أبوقرجة أن عبدالله هو الذي قتل هكس ” .. (الأستاذ مكي ابوقرجة : صولة بني عثمان في ملاحم الثورة المهدية  ، دار صفصافة للنشر ، القاهرة 2014) ..هكذا قُدر لجنرال بريطاني أفنى عمره المهني الممتلئ بالخبرات العسكرية في خدمة إمبراطوريته .. أن يتجندل برمح فتى سوداني يافع امتلأت نفسه الغضة بالإيمان والحماسة للثورة التي قاتل تحت راياتها أهله الأقربون والأبعدون.. وفي ذات الوقائع  المهمة  يقول ونستون تشرتشيل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق أن هكس قد واجه في شيكان عدواً لا يعرف الخوف على الإطلاق ( Fearless enemy) م كما ذكر أن السودانيين دفنوه بتوقير احتراماً لشجاعته التي أبداها على حسب توجيهات قيادتهم .

وفي معرض تعليقه على احداث موقعة شيكان كتب تشرتشيل في كتابه حرب النهر قائلا : ” لقد انتزع السودانيون حريتهم بفضل بسالتهم المقترنة بشجاعة وبراعة قائدهم الورع ” .. ثم يستطرد قائلاً : ” لم يماثل البؤس والشقاء الذي رزح تحته السودانيون- إبان الحكم التركي – سوءاً إلا معنوياتهم المنخفضة حينها.. ببساطة لم يكن أحد منهم ليجرؤ على رفع السلاح على المستوى العملي لولا مجئ المهدي الذي وحد القبائل ونفخ فيهم روح الحماسة التي طالما افتقدوها “.. ( ونستون تشرتشل : حرب النهر ، الناشر.. Mau Publising , نسخة الكترونية بتاريخ 2013) . أما البريطاني دونالد فيثرستون فيبدو أنه يتخذ شيكان نموذجاً حين  يقدم على تحليل  المقدرات العسكرية والقيادية للمهدي والتي أرجعها لاطلاعه الواسع على تاريخ حروب الاسلام الاولى ومقدرته على اختيار ما يناسب زمانه منها .. فكتب قائلاً : ” لقد كان قادراً على الاستفادة من هذا الإرث في الصبر على العدو والانتظار بتأن حتي تحين اللحظة المناسبة لتوجيه الضربة القاضية .. لقد كان بارعاً في الاستفادة القصوى من لحظات الارتباك الكامل في صفوف عدوه .. إن المرء منا ليجد قرارته العسكرية والسياسية المصيرية – في معظم الأحيان- مصحوبة بحدسٍ عبقري قلما يخطئ ” ثم يستطرد قائلاً .. ” لقد كانت تكتيكات الانصار العسكرية تعتمد على عنصري المفاجأة والصدمة .. والإحاطة الدائرية بالعدو من اتجاهين “.. ولا يخفي فيثرستون إعجابه الشديد بفكر القادة العسكريين للمهدية حين يقول عنهم : ” على الرغم من عدم تلقيهم تدريباً عسكرياً نظامياً إلا ان تكتيكاتهم العسكرية والقتالية المتأصلة قد جعلت منهم مقاتلين رائعين”.. ( فيثرستون ، مصدر سابق) .

أما المؤرخ الوطني الراحل و الخبير العسكري الرائد عصمت زلفو فقد كتب معلقا علي لوحة المعركة التي استدعي تفاصيلها من بين اسطر سفره القيم بعنوان “شيكان ” حين قال : ” على مدار تاريخ الصراع البشري المسلح إلى يومنا هذا لا زال الصدام الهائل الذي احتدم على سهول كردفان في ضحى يوم الاثنين من اواخر 1883 ، يبرز مثالاً رائعاً لإبداع الفن العسكري في مزج الخيال والتخطيط بواقع التنفيذ والتطبيق .. فاختيار مسرح الالتحام المثالي الذي فجر فيه المهدي طاقات جيشه والسرعة الخاطفة التي أزاح بها آلافاً من الجنود المسلحين والمدربين من حيّز الوجود ، وذلك الختام الخرافي الشبيه بأساطير الاولين حين تبتلع الأرض جيوشا بأكملها ، كل ذلك يدل دلالة لا شك فيها ولا جدال على انه كان نتاجاً لتخطيط محسوب بلغ قمته في ساعة توهج عقلي في اصيل يوم الأحد عقب مجلسه الحربي الأخير فتمخض عنه ذلك المخطط الفذ “.. ( زلفو : شيكان .. تحليل عسكري لحملة الجنرال هكس ، شركة كرري للطباعة والنشر ، الخرطوم ).

وعن الأصداء الدولية لانتصارات الثورة المهدية بعد شيكان .. يشير البروفيسور والمؤرخ الروسي سيرجي سمرنوف في مؤلفه القيم ( دولة المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفيتي) إلى  ان إرهاصات فشل حملة هكس قد أفزعت الحكومة البريطانية فكتب اللورد كرومر عند تعيينه قنصلاً لبريطانيا في مصر تقريرا في نوفمبر 1883 .. جاء فيه :

( أضحت الأوضاع بالسودان خطيرة تماماً .. فنحن لم نسمع شيئا عن حملة هكس منذ 27 سبتمبر).. وأشار في التقرير إلى ان هزيمة هكس تعني ضياع السودان كله.. وتبعاً لذلك تبنى اللورد غرانفيل وزير الخارجية البريطاني آنذاك الدعوة للانسحاب وعدم التورط بالمزيد من القوات لمحاربة المهدية  وذلك من خلال إفادات أدلى بها في البرلمان البريطاني  والذي شهد مداولات ساخنة بين النواب آنذاك في كيفية التعامل مع المهدية وخصوصاً مع بروز فكرة إرسال غردون للسودان بعد هزيمة هكس .. ويعتقد سمرنوف أن بريطانيا كانت تحاول أن تحول   هزائمها أمام المهدية إلى  نصر لصالحها عن طريق المناورات الدبلوماسية .. ويخلص المؤرخ الروسي الشهير إلى أن أهم النتائج المترتبة على هزيمة حملة هكس .. على حسب نص كلماته : ( استوعب الإمبرياليون البريطانيون الدرس من هزيمة حملة هكس ..فلم يأبهوا بالتفكير في الدخول في معارك أخري مع قوات الثورة المهدية ) .. وأشار أيضاً إلى ان إيطاليا كانت هي الدولة الوحيدة التي أبدت مشاعر ودية تجاه ما حدث لجنرالات بريطانيا من إهانة في السودان .. بينما كان التوتر على أشده بين روسيا وفرنسا وألمانيا من ناحية و بريطانيا من ناحية أخرى .. ( سمرنوف : المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفيتي ، ترجمة هنري رياض ، دار الجيل ، بيروت، 1994).

وعلى المستوى الشعبي ببريطانيا .. أخذت مأساة أبادة جيش هكس علي رمال كردفان .. والتي أعقبتها انتصارات عثمان دقنة على القوات البريطانية بتلال البحر الاحمر .. أخذت تلك الاحداث موقعاً مهماً في الوجدان القومي للإنجليز .. فكتب الشاعر البريطاني جورج ابيل أبياته الحزينة :

ثم اتى  “هكس ” ليقضي نحبه عطشاً في السودان..

في ساحة القتال ضد المهدي..

خّر صريعا .. عاجزا ..

رباه .. كيف عجزت بريطانيا عن عونه ؟

و “بيكر” في اثره .. سقط في الجب المميت

قاد جيشا ممن لا شجاعة لهم ..

فسقطوا ..

اصطادونا أعراب السودان بسهامهم

تعزيزاتنا طال انتظارها .. تأخرنا كثيرا

رجالنا النبلاء في سواكن لقوا حتفهم لآخر رجل فيهم

ثم أرسلنا الحملة البريطانية ..

فضاعت .. هباءاً منثوراً في الصحراء

رباه .. وقعوا جميعاً في قبضة رجال عثمان دقنة السمر !

( جورج ابيل : غردون وقصائد اخري ، Gordon and other poems، أعادت نشره ، Nabu Press، ساوث كارولينا ، الولايات المتحدة ، 2010 ) .

في الجانب الآخر من الجزيرة البريطانية وتحديداً على شواطئ الجزيرة الايرلندية.. عبر القوميون الإيرلنديون عن تعاطفهم مع انتصار الثورة السودانية في شيكان حين راجت أسطورة تتحدث عن مصير مختلف للمراسل الحربي الأيرلندي إدموند اودنوفن حيث تحدث البعض عن انضمامه لمعسكر الثوار السودانيين بشيكان ومقتله في صفوفهم وهو يحمل السلاح ضد هكس ويقول المؤرخ الأيرلندي مايكل فولي : ” لقد تضخمت تلك الفكرة الخيالية وعضدتها مساندة القوميين الايرلنديين لقوات الثورة المهدية ضد القوات الانجلو مصرية والتي عدوها واحدة من قوي الشر الإمبريالية ” ..

وفي ذات الاتجاه المتعاطف مع انتصارات السودانيين في شيكان .. كتبت صحيفة United Ireland بلهجة أكثر واقعية .. في أعقاب مقتل اودنوفن المحتمل بغابة شيكان : ” من سوء حظ ايرلندا ان المهدي لم يكن يعلم أن هناك مغامراً ايرلنديا ً شجاعا اختبأ في ملابس رجل انجليزي . اودنوفن كان يكره بني سكسون المستعمرين بدرجة  قد تفوق مقت المهدي نفسه لهم ” .. ( سيرة إدموند اودنوفن- استكشاف الخيال الصحفي : مايكل فولي ، نيويورك 2012 ) .

مما تقدم ذكره.. يتضحا جلياً ان شيكان كانت ملحمة تاريخية سودانية خالدة ومقبرة للغزاة الباغين .. التقت فيها عبقرية القيادة وتخطيطها الاستراتيجي المتقدم بتصميم شعبي سوداني جارف تم فيه استخدام أسلوب الحرب الشعبية في مقاومة المحتل بصورة أقل ما يمكن ان يقال عنها انها مثالية على مستوي التطبيق والتنفيذ .. وقد شهدت بذلك جمهرة من المؤرخين المعاصرين ممن حركتهم غريزة البحث العلمي والتقصي المحايد .. فحق لنا نحن أهل السودان ان نحتفي بها أن نعمل على استلهام معاني الوحدة الوطنية التي مهدت الطريق للانتصار للإرادة الشعبية  فيها .

 

التعليقات مغلقة.