تحت الغيم-القطار دوّر حديدو

  • 04 يناير 2020
  • لا توجد تعليقات

عبد الباسط شاطرابي


قطار عطبرة (حالة) نفسية وشعورية لا يعرفها إلا ركاب القطارات، ولذلك حفر في القلوب رمزية جعلت الكثيرين يحبونه ويجعلون منه وسيطا فصيح اللسان للتعبير عن دواخلهم.


إحدى رمزيات القطار الجميل ارتباطه بحبيبات الأمس ولوعة السفر والرحيل، فكل قطار كان يعني وداعا لأم أو أخت أو زوجة أو حبيبة، وكل صافرة وصول كانت تعني لقاء بالأحبة والجيران والجارات والأهل واللدات. عطبرة رغم ارتباطها بصلابة الحديد وحرارة النار يملك أهلها أفئدة شديدة الرقة، شفيفة الإحساس، وفيهم مشاعر جياشة يفيض دفقها مع كل صافرة قطار يعبر، وكل صافرة قطار يؤوب.


حتى تعبيرات الاحتفاء بالمناسبات تركت آثارها في شباب عطبرة، ولطالما حضرتُ مناسبات المدينة الساحرة، وأحسبني من أبنائها انتسابا، وكم دسست بدني ضمن قاطراتها البشرية التي كنا نكوّنها في شكل طابور شبابي، فننزل في ساحات التبشير على أنغام العطبراوي، ونمر بشكل معتدل ومتمايل طربا، فترتفع زغاريد العطبراويات مجلجلة، ونمتلئ زهوا وحبا وفخرا بتلك المدينة وأهلها الرائعين.


مرت عقود على تلك الأيام الناضرات، ودخلت عطبرة بعدها في السبات الكهفي، وتوقفت المطارق عن طرْق الحديد، وانطفأت نيران المدينة بعد أن كانت صرحا لنار العطاء والوطنية والثورة، وتوارت صافرات القطار في فضاء النسيان، وابتلعت العاصمة وموانئ العالم ومطاراته قطاعا كبيرا من خيرة أبناء المدينة، لينفض السامر ويهجر الرباب بستانه.


قطار عطبرة عاد لاحقا، وكانت العودة خجولة بعد غياب السنوات الطويلة، لكنه لم يستعِدْ وهجه إلا بعد القطار الشهير الذي جاء مشاركا في الاعتصام، فصارت صافرة عطبرة تشق عنان السماء في فضاءات الوطن كله، رمزا وشعورا وإحساسا عجيبا باليقظة والحياة .. وكأن السبات قد لبث فيها يوما أو بعض يوم!


قطار ممتلئ بعافية الأنفاس الشابة، نتمناه كرصيفة الصيني القادر على قطع المسافة التي تفصله عن العاصمة في ساعتين بدلا من سبع ساعات ماراثونية من الركض في الحديد، حيث تسابق العالم في صناعة القطارات السريعة، لا حبا في السرعة كغاية، ولكن كوسيلة تتناغم مع العصر وأساليب الحياة.


حتى اليابان لها قطارها الصاروخي، والقادر على الوصول من الخرطوم لعطبرة في ساعة واحدة إن أراد، لكنه مثل نديده الصيني يحتاج بنيات تحتية خاصة، وبيئة محيطة مهيأة، وكله يمكن أن يحدث ما دامت الإرادة متوفرة، وما دامت شعلة النماء والتغيير تتوهج في النفوس دون أن تخمدها مؤامرات أو تطفئ جذوتها ابتلاءات.


السكك الحديدية موعودة بمستقبل هائل في السودان لو توفرت الإمكانات، فغدا يمكن أن تتحول الرحلة من الخرطوم لأرض المحنّة إلى نصف ساعة لا تزيد دقيقة، وغدا سيأتي جيل من سائقينا يقودون القطارات إلى كل أنحاء الوطن يحملون الخيرات المتبادلة بين الشمال وأقاصي الجنوب، وبين الشرق وأقاصي الغرب.


كل الحب لقطار عطبرة، وكل الحب لأهل عطبرة، وكل الحب لشباب عطبرة، وكل الحب لحسناوات عطبرة.

shatarabi@hotmail.com

التعليقات مغلقة.