السودان في محكمة الانتماء

السودان في محكمة الانتماء
  • 19 مايو 2025
  • لا توجد تعليقات

مساعد النويري

ما بين جرح الهوية ونداء الجغرافيا ظل السودان واقفًا عند مفترق التاريخ لا هو مضى في طريق العروبة ماضيًا ولا ارتدّ إلى رحاب أفريقيا راجعًا فكان كالحائر في محراب الذات كلما همّ بأن يسجد للانتماء تساءل لمن تكون الركعة ، فاللغة نحبها ونرددها ونحملها في ملامح خطابنا وطقوس نشيدنا أما الأرض التي تفور تحت أقدامنا بطين النيل وسواد الغابة وصوت الطبل العتيق وإنشاد المدائح على ضوء القمر بين الزرائب والمراعي وحنين الكساء المطرز بخيوط القارة التي أرادتنا قادة ونحن عنها تولّينا وإنها لأقدار متشابكة وسير متداخلة بين عاطفة اللغة ووشيجة الجذور وحين تتنازع القلب لسانه ومكانه يضيع المعنى ويتوه الإنسان

قد كان منّا ما كان من بني يعرب يوم ألقت فينا العروبة سحرها فانبهرنا به وتعلقنا بسقفها العالي وحلمنا أن نكون في صدارة مجلسها وأن ننشد معها في مدرجات الوحدة القصائد الخالدة وأن نمضي تحت رايتها كتفًا بكتف مع أهل الضاد في مهرجانات اللسان وعواصم السياسة وسراب المجد ولكن ما حسبنا أن للعروبة أبوابًا موصدة وأن مقاعدها قد رُتّبت منذ دهر وأن القادم من الجنوب لا يُقدَّم بل يُتقدَّم عليه وأننا مهما نطقنا بالفصحى وجوّدنا الأداء سيبقى لوننا الداكن وعرقنا المجبول بتراب أفريقيا حائلًا بيننا وبين قبولٍ مكتمل
إن العرب لم يكونوا يوما أهل جفوة ولا أصحاب طرد ولكنهم قومٌ لهم في الميراث نصوص وفي الهوية شروط وفي التاريخ مقامات فإذا لم تكن فيك قرابة النسب أو وشيجة الأصل فأنت الضيف وإن طال بك المقام والغريب وإن تشبّهت بالأهل فالدم أولى من اللسان والمكان أصدق من البيان والعرق عندهم لا يُمحى بالخطاب ولا يُزال بالنحو وإن طال المقام بيننا وبينهم سنظل عندهم السودان ذاك الركن القصي الذي يتحدث بالعربية ولكنه ليس منها تمامًا ولا فيها كليًا
ولنتذكر قصه المحجوب رئيس الوزراء السوداني آنذاك في القمة العربية والتي سارت بها الركبان وذلك عندما أشاروا اليه بان يبدأ الحديث فاعترض رئيس الوزراء اللبناني ببدء السودان محور الحديث بحجة انه ليست دوله عربيه فرد عليه الأديب المحجوب إن لم نكن نحن العرب فمن العرب ؟؟ هل العرب اكراد العراق أم غرابيب اليمن أم أقباط مصر أم تكارين السعوديه ويهود خيبر ،، فنحن السودانيون لا يشرفنا ان نكون عرباً إذا كان هذا هو حال العرب ومن يجيد اللغه العربيه شعراً ونثراً فليأتي للمنصه ويطارحني بلغة الضاد .. حينما اراد اصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم الهجره امرهم بالهجره الى الحبشه فان عندهم ملك لايظلم عنده احدا وتعلمون جيدا اين هي ارض الحبشه قبل مسمياتكم الحديثه نحن احفاد ام العرب السيده هاجر وهي كانت( امَة ) سوداء والعروبه لسان وليست لون .. فصفق الحضور تصفيقا حاراً معجبين بذكاءه وسرعة بديهته وشجاعته .

لقد كان العرب ، معنا في الشعار أكثر مما كانوا في القرار، يرفعون رايات الوحدة ولا يترجمونها مواقف، يستحضروننا حين يحين وقت الخطابة، ويغفلون عنا حين تدق ساعة الحزم، حتى بات انتماؤنا إليهم كالماء في الرمل، لا يُرْوِي ظمأً ولا ينبت زرعًا.

وحين أدار الزمان وجهه مرة أخرى فإذا بأفريقيا تنادينا من خلف السحب بلغة لا تحتاج إلى ترجمان بلغة الدم والملامح والأقدار والتاريخ وقالت لنا لقد كنتم لنا رأسًا وأردنا بكم نهضة فآثرتم العروبة وسرتم حيث لا يُدرك ظل ولا يُلمس ضوء أردنا أن نسير خلفكم وأنتم تقودون موكب التحرر والنهوض ولكنكم ارتديتم عباءة غير عباءتكم ومضيتم في درب لم يُخط لكم فخسرت أفريقيا قائدًا وضاع من السودان موقعا وانشطر الوجدان بين منتمٍ بلا قبول ومرفوضٍ بلا ذنب

فصرنا كالمُنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى لا بلغنا مجد العروبة ولا احتفظنا بكرامتنا الأفريقية ولا حافظنا على ما يمكن أن يكون جسرًا بين الحُلم والحقيقة بين الانتماء والقرار بين التاريخ والجغرافيا وتلك مصيبتنا الكبرى حين أردنا أن نكون شيئًا من كل شيء وأن لا نكون كل شيء في أي شيء فظل السودان كيانًا يحمل قلبًا عربيًا في جسد أفريقي يتكلم بلغة الضاد ويحلم بأحلام الطين والمطر ويعيش في الحنين والتناقض ولا يستقر له مقام

ما كان خصامًا بيننا وبين إخوتنا في أفريقيا بل كان منا نأي واختيار لم نعادهم ولا خاصمناهم بل التفتنا عنهم حين أداروا لنا الوجوه مشرعة بالمحبة والرجاء وحين بسطوا أكفهم لنا طلبًا أن نكون السهم والرأس اخترنا أن نكون ظلًا في خيمة العروبة تارة باسم الدين وتارة باسم اللغة وتارة باسم الحنين فكان أن خسرنا البوصلة وتبددت الخطى وأضعنا الطريق

أما أفريقيا فلم تكن في يوم من الأيام خصمًا ولا كانت حاسدة بل كانت الحاضنة التي أرادتنا وأحبتنا وبكتنا حين غادرنا ولم تغلق بابها عنا ولكن النفس التي تتطلع إلى سراب بعيد كثيرًا ما تنكر النبع القريب فغادرناها حين كنا نملك زمام القيادة وحين كنا القُطر العربي الوحيد جنوب الصحراء وغادرنا معها شعورًا عميقًا بالانتماء والتراب والرائحة وصرنا نحاول أن نرسم لأنفسنا هوية مستعارة من وجدان لا يسكننا ومن مشاعر لا تشبهنا

وليس أصدق من شعر حميد حين قال أنا ما عربي أنا أفريقي أنا اللمة البتخلي الدنيا في العين مشتاقة أنا النيل البجري في حشا المجنون وأنا الراكوبة الضليلة تحت السدر الوافر وأنا السمحة أم عباية سُودا لما تضم عيالها وأنا الحبوبه لما تسوي العشا بي طيبه وتبكي لي جوعنا ،فصورة السودان الحقيقية ليست في لسانه فقط ولا في دينه وحده بل في وجدان الأمهات وفي دموع الرجال حين يجوع الأطفال وفي خُطى الحيران في مواسم المولد وفي دعاش يوليو وحُر أغسطس وقصائد الخليل وأغنيات مصطفى وصوت وردي حين يقول اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا ، مجدًا لأمتنا ولا أمة لنا إن لم نحدد من نكون

فالسودان ليس غريبًا عن العروبة ولا هو دخيل على أفريقيا لكنه متروك بين جناحين يتنازعانه دون أن يحتضناه وبين وجدان يتشظى وقلب يتمزق وعقل يبحث عن صيغة تُرضي تاريخه وتُسعد مستقبله وتعيد إليه سلامه الداخلي

ويا لسخرية الحال إذ بتنا نبحث في وجوه الناس عن تصديق انتمائنا وفي أعين الآخرين عن شهادة قبول فحينا نسير خلف مؤتمرات القمة وأحياناً نهتف مع تحالفات الإتحاد الإفريقي وفي بعض الحين نرتدي جلابية الشوق ومرة نلبس جُبة الحكمة وكذلك نرفع شعار العمق ومرة ننكر الجذور ومرة نُحاكم أنفسنا على خيارات الأمس ونحن نعلم يقينًا أن التوبة لا تُعيد الميت إلى الحياة ولكنها ترد للحي كرامته

وها نحن اليوم في وطن تلتهمه الحرائق وتغشاه المحن لا العرب انتصروا لنا ولا الأفارقة بكوا علينا وكلٌ منهم مشغول ببعضه ونحن وحدنا عراة من النصير تائهين في المعنى تائهين في الأرض تائهين في الزمان فلا سندانٌ يحمينا ولا مطرقة تصوغنا بل نحن في أتون نار لم نُحسن إليها وقودًا ولم نحسن منها خروجًا ، وإن لم نُدرك نحن من نكون فلا جدوى من أن نطلب من العالم أن يعرفنا وإن لم نحسم لأنفسنا سؤال الهوية فلن تُحسم لنا قضية ولا تُبنى لنا دولة وإن لم نعرف كيف نكون سودانيين قبل أن نكون عربًا أو أفارقة فسنظل نبكي على ضياع لا يعرفه غيرنا ونرثي لحالٍ لا يفهمه أحد سوانا ونسأل كما سأل البعض أي أرضٍ لنا وأي ناسٍ لنا وأي ملامح تحمل أرواحنا

نحن الآن في لحظة صدق مع الذات إما أن يكون السودان كما هو بتكوينه وتعدده ومزيجه الفريد وإما أن نبقى كما نحن ضحية خيال لا يتحقق وضحية خصام لا وجود له وضحية انتماء لم يُقبل وحنين لم يُحتضن وتاريخ لم يُحسم فويلٌ لأمةٍ أضاعَت بوصلتها واختارت أن تكون ظلًا في قواميس الآخرين بدل أن تكون عنوانًا في صفحاتها الأولى

وها هو السودان اليوم واقف بين زمنين ماضٍ يجلده بالأسى ومستقبل يراوده بالخوف وحاضر مشروخ بالمجازر والتشظي وبين كل هذا يصرخ فيه السؤال من نكون ؟ أإلى العرب ننتسب أم إلى أفريقيا ننتمي أم نرجع إلى ذواتنا وننقّب فيها عن النبع الأول عن المعنى الأزلي عن ذاك السودان الذي عرفناه يوم كان الاسم يشير إلى الأرض لا إلى الجرح ويوم كان اللون عنوانًا للجمال لا سببًا للإقصاء

فيا ليتنا حين اخترنا العروبة لم نقطع من أفريقيتنا شريانها ويا ليتنا حين هتفنا للفصحى تركنا للأفريقية لحنها ويا ليتنا نعود الآن لا لنختار بين طريقين بل لنمشي على صراطٍ سودانيٍّ مستقيم لا يميل شرقًا ولا يغرب جنوبًا بل يمضي حيث يجب أن يكون حيث نكون نحن لا كما يريد الآخرون
اليوم، ونحن نُكابد ويلات الحروب، وتتناثر أشلاء المدن والقرى في كل فج، ندرك أيُّ خطيئة ارتكبناها يوم اخترنا أن نكون في المنتصف، لا نُجاهر بانتمائنا الإفريقي، ولا ننتصر لانتمائنا العربي. واليوم، نحن بحاجةٍ إلى صدقٍ مع الذات، نُقَدِّم فيه السودان كما هو، بهويته المركبة، وتاريخه الممتد، وجغرافيته التي تتكئ على الضاد من جهة، وعلى إيقاع الطبول الإفريقية من جهة أخرى.

ليس العيب أن نكون عربًا، ولا العار أن نكون أفارقة، ولكن العيب أن نكون بلا ملامح، والعار أن نكون بلا مشروع. فالعروبة التي تورث الذل ليست شرفًا، والإفريقية التي لا تعترف بالعقل ليست مأمنًا، والكرامة في السودان لا تُقاس بجلدٍ ولا بجواز، بل بمقدار ما نملكه من قيم، ونذوده من أرض، ونصونه من تراب، ونحمله من رسالة.

ويا ليتنا نستفيق قبل أن نصبح لا شيء في أعين الجميع، غرباء في خريطة العالم، وأغراب في كتب التاريخ، فيقال كان هاهنا قومٌ لا هم للعروبة أضافوا، ولا لإفريقيا أنصفوا، فلا العرب بقوا ولا الأفارقة أصبحوا، وصرنا، كما قال الأول، كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
وإنك إن سألت شعراءنا، وجدت أن أفئدتهم ظلت معلقةً بالضاد، ولسانهم مبذولًا للفصاحة، وبيانهم مسبوكًا بماء الذهب. قال محمد سعيد العباسي: نحن الأفارقة الأبناء إن نفحت ريح القبائل في ماضٍ لنا انتصرنا لكننا عرب الأنساب ما هجعت عنا الليالي ولا نامت لنا الحُمما

وكان التجاني يوسف بشير يستلهم المجد من قوافي العرب، ويغني لأرضه من على صهوة الفصحى، يقول: أنا من إفريقيا قلبًا وسُمرة لكنني في الضاد أهوى العربا

إن انتماء السودان إلى العروبة لم يكن طارئًا، بل هو انتماء تعزز بالقرآن، وتمدد في الأسواق والمدارس والمنابر والمساجد، وتجلّى في الشعر والأدب والتاريخ. ولكن كذلك لم يكن انتماؤه لإفريقيا نبتًا شيطانيًا، بل كان دمًا يسري في العروق، ولهجةً تندغم في اللسان، وعاداتٍ ومراسمَ ومصاهراتٍ ونسبًا ومصيرًا مشتركًا.

لقد انطلق السودان في ماضيه يستلهم المدد من تراث العرب، فكان الجُهد السياسي والعسكري والعلمي مغموسًا بروح العروبة، ولكنه أيضًا ظل على الدوام ابن النيل وابن التكايا، وابن زاندي ومورو ودينكا وشلك، سليل الكجور والشيخ، الحيران والدراويش، المطامير وطبول الغابة. هذه الازدواجية لم تكن لعنةً، بل كانت فرصة، ولكنّا لم نحسن الاستثمار فيها، ولم نغرسها نبتًا صالحًا.

علينا ان نعي بإن العروبة لا تُختزل في اسمٍ أو نسب، كما أن الإفريقية لا تُختزل في لونٍ أو عرق، وقد علمنا التاريخ أن الانتماء الحقيقي هو انتماء الرسالة والقيم والموقف، لا الانتماء الجغرافي أو الاصطفاء العرقي. وأيُّ انتماءٍ لا يثمر في الحاضر مشروعًا وفي المستقبل رؤيةً، فهو زيفٌ لا طائل منه.

لقد أضعنا زمناً طويلًا ونحن نراوح بين هوية لم نُحسن الدفاع عنها، وأخرى لم نرتقِ لمتطلباتها، فصرنا كمن يقف على الحياد في معركة مصير، فلا ربحنا السلامة ولا نلنا الغنيمة. وكم يُؤلم أن ترى أبناء جلدتك قد تاهوا بين سؤال الهوية وسياط الحرب ومواسم النزوح، يتحدثون الضاد ولكن يُحاربون بها، ويتغنون بالقارة ولكن لا يلبّون نداءها.
وإنه ليحزن القلب أن نرى وطننا في منتصف طريق ممتد ، فلا العروبة احتفت بنا كما يليق بالأشقاء، ولا إفريقيا رضيت منا ارتيابنا في هوية القارة.
نحن لسنا خصومًا لأحد، بل كنا دائمًا على أعتاب الجميع، ولكننا لم ندخل بيتًا دون أن نخلع نعال انتمائنا عند العتبة، ولا دخلنا بلا استئذان، فكان مصيرنا أن نظل في الممرات، لا أهل الداخل اعترفوا بنا، ولا نحن عدنا أدراجنا.

فليتنا نفيق من سبات الهويات المصطنعة ونعرف أن السودان أكبر من أن يُحشر في قوالب جاهزة أو يُختزل في معسكرات سياسية أو يُختطف في صراع الانتماءات بل السودان هو نحن حين نصير إليه ونُشبهه ويُشبهنا يومها فقط نكون كما قال الطيب صالح من أين جاء هؤلاء فيكون الجواب نحن الذين جئنا من كل الجهات لكننا أخيرًا عرفنا الطريق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*