السودان جحيم الحرب ونار الكراهية

ما بين الحريق والدخان، وبين الفجيعة والحرمان، أطلت العنصرية برأسها كما تطل الأفعى من جحرها، لا تخشى من يراها، ولا تستحي من هول ما تفعل، ولسان حالها يقول : هذا زماني! كأنّ الحرب لم تكن نارًا في الحشا فحسب، بل وقودًا لأحقادٍ كانت راكدة، ومراجل غبنٍ كانت نائمة، فاستيقظت تتهادى على ألسنة الناس، وتتمدد في صدورهم، وتتلون في حناجرهم نبرة ونقمة ونقضًا لوحدةٍ ما عادت موحدة.
إنّ الحرب لا تُنشئ العنصرية، ولكنها تفضحها. إنها مرآة قاسية تعكس ما في النفوس من هشاشة، وما في الأعماق من شروخ. ولولا الحرب لما سمعنا بأبناء الجهات يلعنون الجهات، ولا رأينا المقهور يفرغ قهره في شتيمةٍ جماعية، ولا انتقلت المظلومية من طور المطالبة بالعدالة إلى مقام المطالبة بالانتقام. لقد باتت الكلمات تقتل كما يفعل الرصاص، وربما أشد، فالطلقة تُصيب جسدًا، أما الكلمة الجارحة فتُصيب وطنًا، وتجعل الشقوق فيه تتسع حتى تُصبح وديانًا يصعب عبورها.
كأنّ لسان السودان قد انقلب على نفسه، فصار يسخر من لحمه، ويجلد جلده، ويحتقر بعضه بعضًا. ترى الرجل لا يُؤخذ بما اقترف، بل بما انتُمي إليه، وكأنّ الهوية تهمة، وكأنّ الدم يكتب شهادة البراءة أو الإدانة. أيُّ غبنٍ هذا الذي يستبدل الحوار بالثأر؟ وأيُّ بلدٍ هذا الذي يئن من الجراح، ثم ينهض ليطعن نفسه في موضع آخر؟ ألا نذكر كلمات الاديب الطيب صالح : من أين جاء هؤلاء؟! وكأنّه كان يستشرف زمناً يُصبح فيه الانتماء نقمة، والجذور لعنة.
ومن العجب أن وسائل التواصل التي خُلقت للتقريب، صارت أدوات للتفريق، منصاتٌ يبثّ فيها كلٌ سُمَّه، وينفث ما يملأ صدره من دخان، حتى غدت الكلمات كالقنابل، تنفجر في وجه الحقيقة. يُتداول الشتْم وكأنه رأي، وتُرمى القرى والقبائل بتهمٍ لا يُفرق فيها بين مذنب وبريء، ولا بين القاتل والقتيل. أليس فينا رجل رشيدٌ يفرق بين الخاص والعام؟ ألم يقل العلامة البروفيسور عبد الله الطيب رحمه الله : السودان بلد لو لم يُقتل بحرب، لقتله سُوء الظن ! . فكم من أرواحٍ أُزهقت ليس بخنجر، بل بوصمة، وكم من بيوتٍ احترقت ليس بالنار، بل بنظرة ازدراء.
لقد تراجعنا عن رُقيّ إنساني بُني عبر عقود، فهدمناه بلحظةِ خصام. يُخيل إليك وأنت تُصغي لبعض الخطابات أن السودان قد عاد قرونًا إلى الوراء، حيث القبيلة هي الوطن، واللون هو الموقف، والانتماء هو الحكم، والجهة هي العقيدة. كأننا لم نقرأ سيرة الإمام المهدي عليه السلام الذي وحد بين الفور والدناقلة، ولا سمعنا بالشيخ فرح ود تكتوك الذي قال : الناس إخوة ما لم تفسدهم فتنة أو تحرشهم فتنة . لقد تهاوت أعمدة الوعي، وانهارت قواعد الأخوّة، فما عاد السوداني يرى أخاه إلا من خلال خارطة ملغومة، تفضحها نظرة، أو تشي بها نبرة.
ومن المحزن أن حتى المآسي ما عادت تُقاس بمعيارٍ واحد، فالدم إن كان من جهةٍ يُبكى عليه، وإن كان من جهةٍ أخرى، يُشكك فيه، كأن في الأمر انتقائية، كأنها امتيازات تُمنح للبعض وتُحجب عن آخرين. أليس هذا موتًا مضاعفًا؟! موت الجسد وموت الإنصاف. فيا قوم، لا تُضيفوا إلى الدم ظلماً، ولا إلى الجراح ملحًا، ولا إلى الشقاء عارًا.
وفي معسكرات النزوح، حيث يُفترض أن تُولد الرحمة من رحم المعاناة، تفعل العنصرية فعلها الخبيث، تُفرّق بين نازحٍ ونازح، وتنتقي من يُعان، وتُقصي من يُهان، حتى في الطين تمايز، وحتى في الكرب تفاضل. وكأنّنا فقدنا جوهر المعنى، وتخلّينا عن القيم التي تجمع، لنلتحف بأغطيةٍ ممزقة من الأحقاد القبلية. ألا يعلم هؤلاء أن الوطن حين ينكسر، لا يُلملم شتاته بتقسيمه، بل بلحمة الوجدان، ووحدة المصير؟
وليس بعيدًا عن مشهد الألم هذا، نقرأ في كتاب الدكتور منصور خالد : ان مأساة السودان في نُخَبه التي أبدلت الولاء للوطن بولاء العرق، والخطاب القومي بصدى القَبليّة . فهل نأخذ من هذا القول مرآة نرى بها عيوبنا ؟ أما آن لنا أن نستفيق ؟
ومن عجائب المفارقة أن الذين يحرضون اليوم، هم أنفسهم الذين سيبكون غدًا على وطنٍ مقسوم. أما تعلمون أن النار لا تُبقي إذا التهمت، وأن السم لا يُميز حين يسري؟ أما قرأتم تاريخنا الحديث، حين انفصل الجنوب، فبكت الأغنية، وتاهت الخريطة، وترمّلت أحلام الأجيال؟ أما سمعتم وردي وهو يصرخ من غيابة الزمن : انا إفريقي أنا سوداني، أنا حرٌ في بلادي ؟ أليس فيكم من يتذكر أن الحرية لا تسكن القلوب المريضة بالعنصرية، وأن الوطن لا يبنيه الحقد، ولا يعمره الغضب ؟
إننا إن لم نواجه هذا النزيف الخفي، فإننا نُهيّئ المسرح لانفصالٍ آخر، لا ترسمه الحدود الجغرافية، بل الجدران النفسية. وإذا انفصلت القلوب، فاعلم أن الجسد سيتبعها ولو بعد حين. وما أسهل التمزق حين يصير كل أحدٍ دولةً، وكل جهةٍ راية، وكل قبيلةٍ حدودًا مرسومة بالحقد والدم.
آن للسوداني أن يخلع عباءة الجهوية، ويُسقط رايات التصنيف، ويغتسل من لُغى العنصرية بماء الاعتراف والاعتدال. فالاعتراف أول الطريق نحو الشفاء. وما من دواءٍ لمن يُنكر علّته، ولا من سبيلٍ للسلام إن كانت الكراهية تستوطن الوجدان. وعلينا أن نقف جميعًا، وقفة صدق، لا نبرر فيها الفتنة، ولا نغض الطرف عن الخطر، بل نواجهه مواجهة الحكماء، لا هياج الغوغاء.
فالحل يبدأ من مناهج التعليم التي ينبغي أن تُرسّخ في النشء معنى الوطن الواحد، والتاريخ المشترك، وكرامة الإنسان لكونه إنسانًا، لا لجهةٍ أو قبيلة. ويبدأ من الإعلام الذي يجب أن يُطهَّر من لهجة الكراهية، ويُسند لأهل الفكر لا أهل الفِتن. ويبدأ من السياسي الذي يجب أن يُربي لسانه قبل أن يُطلقه، وأن يعلم أن الكلمة حين تُطلق لا تعود، وإن عادت لا تُصلح ما أفسدت.
فلنستمع إلى صوت الإمام الصادق المهدي حين قال : الوطن لا يُبنى على الشك، بل على اليقين، ولا يقوم على الحقد، بل على التسامح، ولا يحيا بالتفرقة، بل بالوحدة التي تستمد عظمتها من تنوعها .
وختامًا، إن لم نُسكت صوت العنصرية، فسنُوقظ شبح التقسيم. وإن لم نُجمّد نار الجهوية، فسنُوقد حطب الاحتراب. فالحرب نارٌ تأكل ما فوق الأرض، أما العنصرية فنارٌ تأكل ما تحتها. وإن صمتنا عن الأولى، وسمحنا للثانية أن تنمو، فسينهار الوطن لا في ساحة معركة، بل في قلوبٍ تخلّت عن المحبة، وصدورٍ امتلأت بالضغينة، وعقولٍ نسيت أنها تنتمي لأرضٍ واحدة، وسماءٍ واحدة، ودمٍ واحدٍ، سال في كل الجهات، ومن كل الجهات، وبلا جهة.
Email
tahtadoun@gmail.com