تحركات واشنطن بين الصفقات المعلبة والحلول المستدامة في السودان

تحركات واشنطن بين الصفقات المعلبة والحلول المستدامة في السودان
  • 16 يوليو 2025
  • لا توجد تعليقات

محمد الأميـن عبد النبـي

القراءة الفاحصة للمشهد السوداني بعد قرابة العامين ونيف تشير إلى أن المعطيات العسكرية على أرض الواقع في تصاعد وليس انحسار، وإلى سعي حثيث لطرفي الحرب في تشكيل حكومات في بورتسودان ونيالا وترجيح الخيار العسكري والتمسك بشرعية البندقية، وإلى تشرذم القوى المدنية وانحياز بعضها لأي من طرفي الحرب فيما يتمسك البعض الآخر بالطريق الثالث والحياد السياسي ورفض مشروعية الحرب والدعوة إلى إيقافها، ورغم الاتفاق على الأهداف والوجهة السياسية والتقارب والحوارات الثنائية إلا أنها لم تصل بعد إلى جبهة مدنية عريضة موحدة لوقف الحرب وتحقيق السلام، ومازال الاستقطاب سيد الموقف، عطفاً على تصاعد الكارثة الإنسانية وإنهيار الاقتصاد وتفكك النسيج الاجتماعي وتصاعد خطاب الكراهية.
في خضم هذا الوضع المأزوم الملبد بالغيوم وإنسداد الأفق والذي يؤكد على حالة الجمود التام والعجز الكامل في إنتاج مخارج من مأزق الحرب وعبثيتها، إتجهت الأنظار إلى تحركات الولايات المتحدة الأخيرة في الشأن السوداني مع السعودية والإمارات ومصر كفرصة ومبادرة جديدة لكسر الجمود وفتح مسار إنهاء الحرب في السودان.
لعله من نافلة القول إن الجهود الوطنية الداخلية قد تعثرت تماماً لغياب الإرادة السياسية وتصورات اليوم التالي، وأن الجهود الإقليمية والدولية السابقة هي الأخرى لم تحقق تقدم يذكر؛ لغياب الانسجام والتناغم بين الفاعلين الإقليميين والدوليين حول طبيعة الحرب وكيفية التعامل معها والإنقسام بشأن طرفي الحرب، وكان عنوانها الأبرز تعدد المنابر، ولم تصل إلى صيغة تنسيقية موحدة رغم الاجتماعات المشتركة لهذا الغرض، وتجلى الصراع الإقليمي والدولي حول السودان في مؤتمر لندن الأخير إذ تعثر الوصول إلى بيان ختامي متفق عليه.
تعكس الأزمة السودانية تداخلاً عميقًا بين القضايا الداخلية والأبعاد الإقليمية والدولية، حيث أصبحت ساحة تنافس نفوذ بين القوى الدولية وصراع محاور بين القوى الإقليمية. وفي هذا الإطار يمكن قراءة التحرك الأمريكي الأخير الذي يشير إلى الانتقال من مرحلة إدارة الازمة إلى البحث عن حلها وفق إستراتيجية جديدة، فقد إعتمدت الولايات المتحدة ذات سياساتها التقليدية في السودان القائمة على الجذرة والعصا بفرض عقوبات على طرفي الحرب، وواصلت إدارة ترمب في ذات التوجه بفرض عقوبات في مايو 2025 على بورتسودان باستخدام أسلحة كيميائية، ورغم أهمية هذه العقوبات إلا أنها غير فاعلة لإحداث اختراق حقيقي في المشهد السوداني، كذلك عمدت واشنطن على دعم شركائها وحلفائها في المنطقة في التعامل مع الملف السوداني دون تدخل مباشر مع الفاعليين السودانيين عسكريين أومدنيين؛ بإعتبار أنه لا يمثل أولوية في قائمة الإهتمامات الأمريكية والذي يصنف ضمن الملف الأفريقي الذي هو الآخر خارج دائرة إهتمام الخارجية الامريكية، وبدأت أصوات أمريكية تطالب إدارة ترمب بالنظر إلى السودان في إطار مسالة البحر الأحمر والشرق الأوسط الجديد وإتفاقيات أبراهام وملف الإرهاب، مما جعل أكثر الفاعلين والمهتمين بالملف السوداني دول شرق أوسطية مع تراجع واضح لدور الاتحاد الأفريقي والإبقاد والدول الأفريقية بصورة عامة.
ولكن؛ في الأونة الأخيرة ظهر إهتمام أكبر من واشنطن بالشأن السوداني ولعل ذلك يرجع إلى تداعيات الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وتوجهات ترمب بحثاً عن جائزة نوبل للسلام، وتوسع حرب السودان بصورة تهدد بحرب إقليمية، وإشتداد الصراع على البحر الأحمر وتهديد الممرات البحرية في الخليج، والصراع القرن الأفريقي، وزيادة التوتر في الشرق الأوسط، عطفاً على تصاعد الكارثة الإنسانية وزيادة استهداف المدنيين وتمدد المجاعة، مما جعل الولايات المتحدة تدرك إرتباط السودان بالصراع في المنطقة وتأثير الحرب على مجمل الأوضاع في منطقة مليئة بالاضطرابات على حدود البحر الأحمر والقرن الإفريقي ومنطقة الساحل، وتعد جاذبة للقوى الدولية بسبب موقعها الاستراتيجي، فالسودان بحكم موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر، تمتد سواحله لما يقرب من 670 كيلو مترًا، وتجاوره سبع دول هي مصر وليبيا شمالاً، وفي الجنوب الشرقي إريتريا وإثيوبيا، ودولة جنوب السودان جنوبًا، وفى الغرب والجنوب الغربي دولتي تشاد وإفريقيا الوسطى. وهو ثالث الدول من حيث المساحة في إفريقيا، ومن العشرين دولة الأكبر مساحة في العالم، ويعد السودان من الدول الغنية بالثروات الزراعية والموارد الطبيعية والنفط والمعادن وبالتأكيد يلعب دوراً حيوياً في إنتاج الطاقة وإستقرار المنطقة.
ظهر هذا الاهتمام بشكل واضح في الثالث من يونيو الماضي بإجتماع نائب وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر لاندو ومسعد بولس مستشار الرئيس الأمريكي للشئون الأفريقية مع سفراء السعودية والإمارات ومصر، وقد أشار الاجتماع بوضوح إلى أن الحرب في السودان تهدد المصالح المشتركة في المنطقة وأن عدم إنهاء النزاع بحل عسكري والإشارة إلى سعي الرباعية بالضغط على الطرفين بوقف الأعمال العدائية والتفاوض. وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في نهاية ذات الشهر عقب التوقيع على اتفاق السلام بين الكنغو الديمقراطية ورواندا بأن الوجهة القادمة وقف الحرب في السودان، وكانت تصريحات مسعد بولس أكثر وضوحاً حيث أكد على أن واشنطن تعمل على الدفع نحو مسار تفاوضي شامل وأعلن عن استضافة مؤتمر دولي يهدف إلى التوصل لوقف الحرب في السودان. وتوج هذا التوجه بتصريحات الرئيس الأمريكي حيث كشف عن مساعي أمريكية جادة لإنهاء النزاع في السودان عبر حل سياسي.
مما يشير الي ان هناك تحرك خلف الكواليس لصياغة تسوية سياسية على غرار إتفاق رواندا والكنغو الديمقراطية، وما رشح مؤخراً حول مقترح إعطاء دارفور حكماً ذاتياً وخلافات بين القاهرة وواشنطن حول مشاركة الجيش او المدنيين في مؤتمر واشنطن، ما هي الا محاولات للتاثير على توجهات الرباعية في مؤتمرها المرتقب. وهذا لا يخفي جهل إدارة ترمب بتعقيدات الوضع في السودان والتفكير في الحلول المعلبة على غرار تجربة نيفاشا بصيغة دولة بنظامين أو انظمة متعددة كما يطرح فرانسيس دينق وهذا لا تعدو غير شرعنة لمناهج التجزئة والتقسيم والتفتيت أو وضع ألغام موقوتة مؤذية ستفتح الباب واسعاً لإندلاع حروب عرقية وجهوية وفي الشرق والغرب ولن توقف عجلة التقسيم والتشظي، ولا يخفي كذلك توجه دول المنطقة في الرباعية في موقفها المعادي للاسلاميين وللقوى المدنية والتماهي مع القوى العسكرية مما يرجح البحث عن صفقة بين طرفي الحرب لتقاسم الثروة والسلطة كما حدث في جنوب السودان أو تقنين الوضع الإنقسامي الحالي على شاكلة النموذج الليبي، وستتحمل ادارة ترامب النسخة الثانية من تقسيم السودان، وربما يكون ذلك توجه عام في السياسات الامريكية في السودان، وماذال السودانيين يحملون ادارة بايدن المسئولية في عدم منع إنقلاب 25 اكتوبر وحرب 15 ابريل، وبالتالي يجب التعامل مع التوجهات الامريكية بحذر شديد.
محددات الموقف الأمريكي لا ترتبط بالمصالح الامريكية المباشرة في السودان أو منع انتهاكات حقوق الانسان أو توصيل المساعدات الانسانية أو تشجيع تشكيل حكومة مدنية، وأصبح من المعلوم بالضرورة ان لا مصالح أمريكية حيوية في السودان وتراجع أمريكي كبير عن قيم الليبرالية والديمقراطية وتجميد المساعدات الانسانية والإزعان الي سردية أن القوى المدنية مشتتة وغير متفقة، ولكن الحقيقة فإن محددات الموقف الجديد يرتبط بإستقرار منطقة البحر الاحمر كمصلحة أمريكية مهمة عفطاً على ان تأثير الحرب على حلفائها يتزايد بشكل مضطرد، وعليه؛ فإن واشنطن تسعى الي الإستقرار في السودان ضمن مشروع الاستقرار الاقليمي والتعاون الاقتصادي وليس تعزيز التحول المدني الديمقراطي والسلام العادل الشامل.
لا جدال حول ان الأولوية وقف الاقتتال ووضع حداً لآلة الحرب كمدخل للعملية السياسية، وهذا لا يتاتي الإ بتقييم دقيق للمبادرات السابقة والبناء عليها لا سيما إتفاق جدة الذي وضع اساس المساعدات الانسانية وحماية المدنيين، ووثيقة والمناعة التي وضعت أساس وقف اطلاق النار والترتيبات الامنية والحل السلمي، ومؤتمر القاهرة الذي إطلق حوار سياسي خاطب الازمة السياسية ووضع أسس الحل السياسي عبر مؤتمر مائدة مستديرة، هذه المسارات الثلاثة يمكن البناء عليها وتطويرها في مؤتمر الرباعية المزمع بواشنطن في مشروع ينهي الحرب ويحقق السلام المستدام ويرسي ترتيبات الإنتقال المدني. وبالتالي فإن أي توجه على نهج خريطة الطريق التي قدمتها بورتسودان للامم المتحدة أو اللجوء الي الحلول المعلبة لتكريس حالة الانقسام والتفتت أو الاستمرار في إدارة الأزمة بدلاً عن حلها؛ سيعيد عقارب الساعة للوراء وقد يأزم الوضع أكثر في ظل إضطرابات إقليمية وتحولات متسارعة وإضاعة فرصة انهاء الحرب والوصول لسلام مستدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*