أشعلوا الحربَ فاجتاحهم الطوفان

أشعلوا الحربَ فاجتاحهم الطوفان
  • 16 سبتمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

د. النور حمد

يمكن للمرء أن يصف الإخوان المسلمين، وهو مرتاح البال، بأنهم قبيلٌ من الناس منقطعُ الصلةِ بالغيب. ولا يغير من هذه الحقيقة، التي خفيت على كثيرين، ما ظلوا يشيعونه عن أنفسهم، منذ قرنٍ من الزمان، من ادعاءاتٍ مظهريّةٍ جوفاء، مفادها أنهم إنما يعملون من أجل خدمة الدين، وإعلاء شأنه بين الناس، وتحقيق النهضة المرتجاة للمسلمين. وهذا تلبيسٌ جاز عليهم بسبب استقلالهم بإرادتهم عن إرادة الله، وعن إرادة سواد الناس، وطغيانهم وتجبُّرهم، وقصور إدراكهم، وانطماس بصيرتهم. وهي أمورٌ أعمتهم عن معرفة حقيقة مقاصدهم الخفية المنحصرة في حيازة السلطة والثروة لهم وحدهم، دون غيرهم من الناس. وفي تقديري، يدخل تنظيم الإخوان المسلمين أنَّى وُجد، في السودان، أو في غزة، أو في أي مكان، في دائرة من وصفهم القرآن بأنهم: “الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا”. وهذا من باب التلبيس الذي يُوقع صاحبه فيما يُعرف لدى المتصوفة بـ “الاستدراج. والاستدراجُ هو سوقُ اللهِ المرءَ إلى الهزيمة والفضيحة مجرورًا، دون أن يدري، بحبال أوهامه وأباطيله التي يظنها حقًّا، وهي في حقيقة أمرها باطلٌ صراح. وقد وردت الإشارة إلى فعل الاستدراج الإلهي في الآيه 182 من سورة الأعراف، حيث قال، جلَّ من قائل: “وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ”.
تجاهلوا الخيار الأفضل
لقد كان في وسع الإخوان المسلمين أن يصبروا على الفترة الانتقالية حتى تنقضي، ويعودوا بعدها لممارسة نشاطهم كتنظيم سياسي، بصورةٍ طبيعية، شأنهم، في ذلك، شأن غيرهم من بقية القوى السياسية. فالوثيقة الدستورية التي جرى توقيعها في يوليو 2019، لم تحظر من ممارسة العمل السياسي سوى حزب المؤتمر الوطني، وحده، ولفترةٍ محدودةٍ هي الفترة الانتقالية. وذلك، لكونه الجسم الذي قامت الثورة ضد إدارته للدولة. فقد حكم هذا الحزب الشعب السوداني، بقبضةٍ من حديدٍ، على مدى ثلاثين عامًا واضعًا كل شيء تحت قبضه. عَبْرَ هذا الحزب الأخطبوطي، تغلغل الإخوان المسملون في قاعدة المجتمع بما أسموه لجان الأحياء التي صنعوها في كل المدن والقرى. كما سيطروا بطواقمهم الإدارية في الحكم المحلي، وسائر الدواوين الحكومية، إضافة إلى سيطرتهم المطلقة على الأعمال التجارية، بل وعلى تقديم الخدمات للمواطنين بعد أن خصخصوها. كما هيمنوا على الإعلام وعلى توجهات التعليم. باختصارٍ شديد، وصل الطغيان بهؤلاء القوم حدَّ خلقِ دولةٍ موازيةٍ كاملةٍ خاصةٍ بهم. دولةٌ تعمل بالكلية خارج رادار الدول الأم، شفطوا إليها الجزء الأعظم من المال العام. وقد كان من الممكن أن تعينهم سيطرتهم على المال العام، وعلى أجهزة الإعلام، إضافةً إلى ما قاموا به من تجهيل للشعب وتضليلٍ باسم الدين، على مدى ثلاثة عقود، للوصول إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع، في أي انتخاباتٍ تعقب الفترة الانتقالية. لكنهم لم يصبروا على الفطام من السلطة ومن استباحة المال العام. غرَّهم بالله الغرور، فقرروا أن يقلبوا الطاولة على ثورة الشعب ويعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء. وهنا كان الاستدراج الذي لم ينتبهوا له. لقد تضافروا جميعًا؛ من كان منهم منخرطًا في المؤتمر الوطني، ومن كان متمردًا عليه، على إفشال الفترة الانتقالية، وعلى هزيمة الثورة وطمرها تحت التراب. لكي يعودوا، عقب ذلك، إلى السلطة وهم أكثر طغيانًا وعسفًا مما كانوا عليه في الثلاثين عامًا التي سبقت الثورة.
عجلةِ الترابي على الإمساك بالسلطة
في عام 2012، أقام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في العاصمة القطرية الدوحة، مؤتمرًا علميًّا بعنوان: “الإسلاميّون ونظام الحكم الدّيمقراطيّ: تجارب واتّجاهات”. وقد جرت دعوة قيادات أحزاب الإسلام السياسي في عديد الأقطار العربية ليقدموا إفاداتٍ نقديةً حول تجاربهم وموقفهم من الديمقراطية. وقد كنت أعمل، حينها، باحثًا بهذا المركز. وقد اختارتني إدارة المركز لأدير الجلسة التي جرى تخصيصها للدكتور حسن الترابي. قمت بتقديمه وقلت أنه استطاع أن ينقل حزبًا صغيرًا لم يحصل في انتخابات 1965 سوى على ثلاث مقاعد، ليصبح في انتخابات 1986 ثالث أكبر حزبٍ حاصلٍ على مقاعد في البرلمان. فقد حصلت الجبهة القومية الإسلامية في تلك الانتخابات على أكثر من خمسين مقعدا. ثم قلت: لقد كان من الممكن للدكتور الترابي لو صبر قليلاً، وانتظر خوض الانتخابات التي تلي، لربما حصل على غالبية المقاعد. أو، على الأقل، ربما حصل على عددٍ من المقاعد يُمَكِّنُه من أن يفرض على الحزب صاحب المقاعد الأكثر طلب تشكيل ائتلافٍ معه يجعل منه شريكًا في الحكم. لكن، بدلاً عن ذلك، انقلب الدكتور حسن الترابي في يونيو 1989 على الديمقراطية الثالثة، مستخدمًا العسكريين التابعين لحزبه داخل الجيش. وقلت في ختام تلك المقدمة إن الحضور الجالسين الآن ينتظرون من الدكتور الترابي نقدًا لتجربته في الإطاحة، عن طريق الانقلاب العسكري، بنظامٍ ديمقراطيٍّ كان هو شريكًا فيه.
لكن، ولخيبة أمل الجميع، لم يقدم الدكتور الترابي أي نقد، وتحدث لساعةٍ ونصف، متجاوزًا الوقت الذي خُصص له بالضعف. ومع ذلك، لم يلمس موضوع المؤتمر وما كان يتوقعه الحضور منه. اللافت، حين انقلب الدكتور الترابي وجماعته على النظام الديمقراطي لم يكن حينها قد تبقى لتلك الدورة البرلمانية سوى عامٍ واحدٍ، تجري بعده الانتخابات العامة لدورةٍ برلمانيةٍ جديدة. لكن فضَّل الدكتور الترابي القفز إلى السلطة مستخدمًا وسيلة الانقلاب العسكري. لكن، هل بقيت السلطة في يده؟ لا!! ولا كرامة!! إذ لم تمض على انقلابه ذاك سوى عشر سنين، حتى انقلب عليه تلاميذه وأبعدوه عن السلطة، وأهانوه، بل وسجنوه.
لم يتعظوا من تجربة الترابي
لم يتعظ تنظيم الإخوان المسلمين ممثَّلاً في حزب المؤتمر الوطني، وفي العديد من تفرعاته، من تجربة الدكتور حسن الترابي في الانقلاب على الديمقراطية. فقاموا عقب اقتلاع ثورة ديسمبر 2018 لنظامهم الاستبدادي، بتكرارها بحذافيرها، وبصورة أسوأ، وأبشع. لقد قرروا، منذ الوهلة الأولى، الوقوف ضد مسار التحول الديمقراطي، وناصبوا الثورة العداء، وشرعوا في التآمر عليها وشيطنتها وشيطنة كل من وقف معها. ولم تمض على الثورة ستة أشهر، حتى استخدموا عساكرهم لارتكاب مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو عام 2019. ثم ما لبثوا أن أطاحوا بحكومة الدكتور عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021. ولما لم يجد ذلك نفعًا أشعلوا الحرب في 15 أبريل 2023 ليقضوا على قوات الدعم السريع التي اتخذت موقفا مناوئًا لتوجههم. وقد أعانهم النظام المصري في كل ذلك.
طيلة هذه المدة المليئة بالعنف وسفك الدماء وبالتخريب ظل العالم يراقب ويدرس. وأخيرًا جاء بيان الرباعية الذي تطابق توجهه مع توجه الثوار السودانيين ومع توجه القوى الإقليمية الفاعلة والمؤثرة، بأن تنظيم الإخوان المسلمين هو أصل العلة وراء كل هذه المأساة المتطاولة، وأنه لا مجال له، إطلاقًا، للعودة مرةً أخرى، الهيمنة الفضاء السياسي السوداني. وكما يقول المثل السوداني: “تاباها مملحة، تأكلها قروض”، وفي صيغةٍ أخرى: “تاباها مملحة، تاكلها بي موية”. لو كانوا قد صبروا على الفترة الانتقالية، وانكفأوا على أنفسهم، وعكفوا على مراجعة تجربتهم نقديًّا، بصدقٍ وأمانةٍ، لأمكنهم أن يعيدوا إنتاج تنظيمهم في صورة أفضل، عقب الفترة الانتقالية. لكنهم، كلما دُعوا إلى التعقُّل: “جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا”. وهكذا، اختاروا أن يأتوا بالاقتلاع لأنفسهم بأنفسهم: “كلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ”، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ”. لقد استُدرِج تنظيم الإخوان المسلمين في السودان من حيث لا يعلم دهاقنتُه.
العلِّةُ في البنيةِ العقلية
عقل الأخ المسلم لا يتغير. فهو عقلٌ تشكل في سِنِيِّ الطلبِ الباكرة. وقد أعقبت ذلك التشكُّل المبكر سطوةُ قبضةِ العقل الجمعيِّ التنظميِّ، فشلَّت تلك العقول الغضَّة، ولَوَت فيها الفطرة السليمة. نفث التنظيم القابض في روع المنتمين إليه أنهم وكلاء السماء في الأرض، فاكسبهم ذلك رعونةً عقلية وجسدية لا تجارى. وهذا ما أسماه سيد قطب “الاستعلاء بالإيمان”. لذلك، تحوَّل المنتمون إلى هذا التنظيم، بمختلف فئاتهم، إلى أشخاصٍ لا يفكرون قط في نقد أفكارهم ومماراستهم، حتى حين يقرون في دواخلهم بخطئها. ومن ثَمَّ، أصبح مثقفوهم ديماغوجيين مُقرفين، احترفوا تدبيج زُخرف القول كذبا، بل، وتحولوا في دواخلهم، إلى وحوشٍ كاسرة.
لقد أحسنَّا الظن بعددٍ منهم ممن نشروا انتقاداتٍ لتجربتهم، وسعينا إلى صداقتهم، ودخلنا معهم في حواراتٍ في منتدياتٍ عديدة، وبصورةٍ فردية، ظنًّا منا أنهم من الأخيار. لكن ما أن اشتعلت هذه الحرب، وأحسُّوا أنها ستعيد إليهم ملكهم الضائع، من شركاتٍ، واستثماراتٍ، ومدارسَ خاصةٍ، ومناصبَ، وفرصٍ في تصدير خيرات السودان، بلا مردودٍ لأهل البلاد، ووجاهةٍ جرى اكتسابها بغير حق، نكصوا على أعقابهم، ووقفوا، قلبًا وقالبًا، مع عسكرهم الفاسدين، المفسدين. وهكذا، اجتاح الطوفان هؤلاء، أيضًا، فأصبحوا من المُغرَقين. لقد تسبَّبوا جميعًا، بمختلف فئاتهم، في إزهاق مئات الآلاف من الأرواح، وفي هذا الخراب والدمار الكبير، وهذا النزوح والتشرُّد المأساوي، غير المسبوق في تاريخ الدول. ثم هاهم يعودون من كل ذلك بخُفَّيْ حنين. لقد أعلن دهاقنتهم عقب صدور بيان الرباعية الأخير، أنهم سيقاومون هذا التوجه الدولي، والإقليمي، والداخلي، الذي تطابقت فيه الرؤى إلى حدٍّ كبير. وقد يقودون بمقاومتهم هذه التي أعلنوا عنها، البلادَ وأهلَها إلى مزيدٍ من الخراب والعذاب، لكنهم سيُقتلعون، في نهاية الأمر. ويبدو أن الآية الكريمة التي قيلت في حق قوم نوح، من قبل، قد أضحت اليوم في طريقها إلى التجسيدِ، من جديدٍ، في واقعنا الراهن هذا. قال تعالى: “وغِيضَ الْمَاءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ”.

الوسوم د.-النور-حمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*