أنا لست روبوتًا… أنا إنسان!

أنا لست روبوتًا… أنا إنسان!
  • 02 أكتوبر 2025
  • لا توجد تعليقات

عثمان أبوزيد

مقالي بعنوان “تحول رقمي” الذي تناول انتشار استخدامات الذكاء الاصطناعي؛ أثار الكثير من التعليقات وردود الأفعال:
أول التعليقات جاءني من ابني عاصم، يقول: “قبل ست سنوات، أثناء زيارتنا لمدينة شينزين التقنية في الصين، فوجئنا بمقدار التحول الرقمي هناك.. كنا نحمل النقود الورقية معنا ولكن لم نجد مكانًا واحدًا يقبل التعامل بها. حتى المتسول كان يحمل على عنقه رمز الاستجابة السريعة QR code لتقوم بمسحه وتحويل ما تجود به إليه مباشرة عبر الهاتف”.
وبعث الأخ الأستاذ أحمد كمال الدين برسالة يشير فيها إلى “أن الذكاء الاصطناعي لا يُجارى في السرعة وفي احتواء المعلومات. فلو طلبت منه استقصاء أنواع الطعام التي تحتوي على دهون مثلا أجابك عليها في ثانية بمادة لا حصر لها. لكن فيه عيب كبير أنه لا يفكر، فهو في هذا المجال غبي وليس بذكي. وقد اختبرته في موضوعات تتطلب التفكير فوجدته غير مستجيب، وأعظم عيوبه أنه يتعرض لمرض الهلوسة الذي يُمثل تحديًا كبيرًا في تطوير الذكاء الاصطناعي، وخاصةً للتطبيقات التي تعتمد على معلومات دقيقة وموثوقة”.
ولكن أطرف ما وصل إلينا رسالة الدكتور عبد الله الطاهر حوى ردًا على ما تناوله مقالي على سبيل التهكم بأن بائع البطيخ ليس عنده تطبيق للذكاء الاصطناعي مع أنه أولى الناس باستخدامه. ونقل د. الطاهر نموذجًا لاستخدام الذكاء الاصطناعي في محل لبيع البطيخ، إذ يبدأ المشتري بعرض صورة طاولة البيع على الذكاء الاصطناعي وسؤال عن أنضج وأحلى بطيخة فتأتي الإجابة على الفور بسهم يشير إلى البطيخة!
أما الأخ الدكتور إبراهيم عثمان المدير العام السابق للمكتبة الوطنية السودانية، فقد تفضل مشكورًا بإرسال كتاب جديد بعنوان: مكتبة 2035 تصور الجيل القادم من المكتبات. والكتاب من تأليف كوكبة من العلماء الأمريكيين؛ وفيه أن المكتبات تواجه تحديات جذرية تدفعها لإعادة تعريف هويتها ووظائفها بحلول عام 2035م. ويحمل الكتاب تحذيرًا من أن عدم التكيف مع الجديد قد يؤدي إلى نسيان المكتبات، وأن تُستبدل بها حلول رقمية أكثر سهولة وملاءمة.
ويقدم الكتاب ما يتطلبه ذلك من تحديث المرافق وتلبية متطلبات المستقبل الرقمي، بإضافة برمجيات تتيح خدمات خاصة وفقًا لاحتياجات المستخدم، وتلبي تفضيلاته بطريقة أفضل وأسرع.
ولعل أولى مظاهر التحول الرقمي ما رأيناها في بعض المكتبات الجامعية والمكتبات العامة بإيجاد أجهزة كمبيوتر تتيح البحث آليًا عن الكتاب بدل دواليب التصنيف والفهرسة العتيقة. ثم رأينا خطوة أخرى بوجود (باركود) بالمسح عليه، نصل إلى رقم الكتاب المطلوب. ثم شاهدنا فيديوهات عن المكتبات الذكية في الصين تكون الروبوتات فيها رهن الإشارة، لتحضر إليك الكتاب في لمحة البصر وأنت جالس في مكانك.
ومع كل هذا أحاول أن أقنع نفسي بأن ما تفعله المكتبات الذكية الآن أفضل من خياراتنا مع المكتبات القديمة. أتذكر أشياء كثيرة وأتحسر عليها لأننا سنفقدها حتمًا… سنفتقد اللمسة الإنسانية والروح التي تجعل لتعب البحث معنى وقيمة.
أتذكر جلوسي في دار الكتب المصرية بقاعة المطالعة بعد أن ناولت موظف المكتبة العنوان المطلوب، فإذا به يأتيني سريعًا ومعه ابتسامة وحنان.
وفي مجمع اللغة العربية بالقاهرة يعتذر لي أمينه العام عن أنه لا يتمكن من العثور على ما طلبت، فأرجع منكسر الخاطر وفي الطريق أقف أمام بائع كتب في الرصيف بميدان التحرير. وتقع عيني على الكتاب الذي أطلبه وأشتريه بخمسة جنيهات…
وتنهال على الخاطر عشرات المواقف في حياتي مع الكتب والمكتبات وأتساءل أين يكون منها هذا البَهْرَج في الذكاء الآلي المصطنع؟! وما هو إلا امتداد لذكاء الإنسان، ومهارة أمين المكتبة الإنسان الذي لا يداني خبرته شيء… وهل ذهبٌ صِرفٌ يساويه بَهرج؟!
يقول كتاب “مكتبة 2035” أن وجود أمناء مكتبات مؤهلين لا يستغنى عنهم فهو أمر لازم حتى مع الذكاء الاصطناعي.
ويستدعي هذا إلى الذاكرة ما سمعته عن أمين مكتبة في معهد سامطة العلمي بجنوب السعودية كان كفيف البصر، وبمجرد أن يُسأل عن كتاب أو إصدار معين ينطلق إلى الرف ويستخرج المطلوب دون مساعدة من أحد!
ويحدثني الدكتور حمد النيل علي الأمين الذي عمل وقتًا طويلا بمكتبة جامعة الملك عبد العزيز، وكان أول شخص يقابله الداخل إلى قاعات الاطلاع بالمكتبة المركزية. ومشهور عنه حفظه المذهل لأرقام الكتب وأماكن وجود المراجع ما شاء الله، فما إن تسأله عن مرجع حتى يرشدك إليه بسرعة فائقة…
عندما وصل البروفيسور علي شمو إلى جامعة الملك عبد العزيز لقضاء إجازة تفرغ علمي، ذهب إلى المكتبة، فوجد حمد النيل وهو لا يعرفه، فسأل عن جملة من المراجع الإعلامية، فأرشده إليها، وشكره الأستاذ شمو قائلا له: نصحوني أن أقابل شخصا اسمه حمد النيل لكنك ساعدتني، وقمت بالواجب خير قيام!
وله قصة مع الشيخ عطية محمد سعيد عقب أداء الحج في إحدى السنوات. يحدثني د. حمد: “جاء الشيخ عطية وقال إنه يريد التردد على المكتبة المركزية لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة ويحتاج سكنا قريبا منها، وبفضل الله قلت له: والله يا شيخنا أنا اتشرف بوجودك معي في شقتي، وأنا معاي عائلتي وأطفالي ولي عظيم الشرف أن تسكن معي لأنك أحد علماء السودان وكان ذلك في عام 2004م وسكن معي في شقتي أكثر من ستة أشهر، وانا بحكم عملي وتخصصي في المكتبات والمعلومات حجزت له غرفة اطلاع خاصة بعد أن أخذت الإذن من صاحب الصلاحية في المكتبة وكذلك وفرت لشيخ عطية كل ما يحتاجه من كتب ومصادر ومراجع وأقلام وأوراق وأنا شخصيًا تعلمت منه الصبر على البحث”…
وعودة إلى كتاب مكتبة 2035 الذي يقول إن من أبرز مميزاتها سهولة الدمج بين مكتبات عديدة وارتباط عدد كبير منها بتقنيات مشتركة فيحصل التكامل بين المكتبات.
غير أن أفضل الميزات أن المكتبة تظل مفتوحة على الدوام، مع إمكانية استعارة الكتب من البيت، ولا يحتاج القارئ أن يذهب إليها، وتتهيأ فرصة غرفة مطالعة افتراضية لمرتاد المكتبة.
وما دام الحديث قد انتهى إلى ذكر غرف المطالعة، فلا بأس من الختام بنادرة وقعت لأحد زملائنا ولا صلة لها بالذكاء الاصطناعي.
كانت المكتبة المركزية تعطينا نحن طلاب الدراسات العليا غرف مطالعة خاصة داخل المكتبة، يستقل فيها الباحث بمراجعه وأوراقه، وقد يحمل معه (ثيرموس) الشاي والقهوة، وفراشا يتكئ عليه إذا أصابه التعب.
كان الوقت مساء يوم الخميس نهاية الأسبوع. صاحبنا قبل انتهاء دوام المكتبة أصابه النعاس فاستغرق في نوم عميق وحين استيقظ وجد حوله ظلامًا دامسًا حيث انتهى وقت المكتبة وانصرف الجميع بعد الإغلاق إلى بيوتهم.
قضى صاحبنا طيلة نهار الخميس والجمعة محبوسًا داخل المكتبة. ولما فتح موظفو المكتبة أبوابها صباح السبت وجدوا صاحبنا أمام الباب متحفزًا للخروج…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*