المجاعة الكبرى في السودان 1888–1892
الأسباب والتوزيع والتأثيرات والدروس للتعافي بعد النزاع

المجاعة الكبرى في السودان 1888–1892<br> الأسباب والتوزيع والتأثيرات والدروس للتعافي بعد النزاع
  • 20 أكتوبر 2025
  • لا توجد تعليقات

د. عبد المنعم مختار

الملخص

يُظهر التحليل الشامل لمجاعة السودان (1888–1892) أنها كانت أزمة مركّبة ناتجة عن تفاعل طويل الأمد بين العوامل البيئية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، ضمن سياق تاريخي هشّ امتد من الحكم التركي–المصري إلى المهدية. فقد أدت سياسات الضرائب والسخرة وإهمال الزراعة الغذائية إلى إنهاك الريف وإضعاف قدرته على مقاومة الصدمات الطبيعية. تزامن الجفاف الطويل، وغزو الجراد، وأوبئة الماشية مع انهيار الأسواق وتعطل شبكات التجارة، مما حوّل الندرة الزراعية إلى مجاعة واسعة النطاق. ومع ضعف الحكم وغياب آليات الإنذار المبكر والمساعدة، تصاعدت الأزمة لتشمل معظم البلاد، لا سيما شمال وشرق السودان، بين عامي 1888 و1892، حين بلغت الوفيات والنزوح ذروتهما.

أسفرت المجاعة عن فقدان ما يقرب من ثلث السكان، وتدهور الإنتاج الزراعي والرعوي، وانهيار الأسواق وشبكات الأمان الاجتماعي، ودمار بيئي طويل الأمد تمثل في تدهور التربة والمراعي. كما خلّفت آثارًا ديموغرافية واقتصادية وصحية ونفسية ممتدة إلى الحقبة الاستعمارية، إذ غيّرت التركيبة السكانية وأنماط العيش وسبل الكسب. توضح التجربة أن المجاعات ليست ظواهر طبيعية بحتة، بل نتاج هشاشة بنيوية في أنظمة الحكم والاقتصاد والبيئة، وأن الوقاية منها تتطلب مؤسسات فعالة، وأسواقًا متكاملة، وآليات مجتمعية مرنة قادرة على امتصاص الصدمات.

الموضوع 1: السياق التاريخي والمقارن

كانت مجاعة 1888–1892 في السودان نتيجة لتفاعل معقد بين عوامل تاريخية وبيئية واجتماعية وسياسية واقتصادية تراكمت على مدى عقود. ولا يمكن فهمها بمعزل عن الأزمات السابقة أو عن السياق الأوسع لتاريخ السودان في القرن التاسع عشر. يكشف التحليل التفصيلي لهذا السياق التاريخي والمقارن عن طبقات متعددة من الهشاشة، بما في ذلك عدم المساواة الهيكلية، والضعف البيئي، واعتماد السكان على التجارة، وعدم الاستقرار السياسي، والتي شكلت معًا حجم وشدة المجاعة [1، 3، 6، 10].

السياق التاريخي

بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان السودان تحت الحكم التركي-المصري (1821–1885)، وهو ما ترك آثارًا عميقة على الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في البلاد. أدخلت الإدارة أنظمة ضرائب جديدة، بما في ذلك جمع الضرائب النقدية والعينية، مما فرض أعباءً ثقيلة على المجتمعات الريفية [1، 3]. كما أُلزم الفلاحون بأداء أعمال السخرة على مشاريع البنية التحتية للدولة، والقنوات، والحملات العسكرية، مما قلل من العمالة المتاحة للزراعة الغذائية والتجارة المحلية. بالإضافة إلى ذلك، قامت الدولة التركية-المصرية بتنظيم غارات للعبيد وفرضت التجنيد العسكري على السكان المحليين، مما أضعف اقتصاد الأسر وأسهم في التشرد الاجتماعي [1، 3].

تحولت الممارسات الزراعية تحت الحكم التركي-المصري نحو إنتاج المحاصيل النقدية للتصدير في بعض المناطق، في حين تم إهمال المحاصيل الغذائية الأساسية. بدأت أنظمة الري، التي كانت تدعم الإنتاجية الزراعية العالية على طول النيل تاريخيًا، في التدهور بسبب صيانة غير كافية وسوء إدارة [1، 3]. أدى هذا المزيج من نقص العمالة والضرائب وإهمال البنية التحتية إلى تقليل قدرة المجتمعات المحلية على الصمود أمام الصدمات البيئية مثل الجفاف وغزو الجراد.

ورثت الدولة المهدية (1885–1898) هذه الهشاشة القائمة. فقد أولت الدولة المهدية الأولوية للتوسع العسكري والتوحيد السياسي على حساب الاستثمار الزراعي، واستقرار التجارة، وصيانة البنية التحتية [1، 3، 6]. تعطلت التجارة على طول النيل والشبكات الإقليمية الأخرى بشدة بسبب الصراع، والحصارات، وتحويل العمالة والموارد لدعم الجيش المهدى. انخفض الإنتاج الزراعي أكثر بسبب نقص اليد العاملة الماهرة، وتدمير أنظمة الري، واستخدام الأراضي الخصبة للأغراض العسكرية أو الاستراتيجية. أصبحت المجتمعات التي كانت تعتمد على الإنتاج الفائض للتجارة والاحتياطيات الطارئة معرضة بشكل متزايد للصدمات المناخية والبيئية [1، 3].

الهياكل الاجتماعية والاقتصادية

تاريخيًا، كان سكان السودان الريفيون منظمين حول أنظمة زراعية رعوية تعتمد على الزراعة وتربية الماشية للعيش والتجارة. أدى تعطيل هذه الأنظمة في ظل الحكم التركي-المصري والمهدى إلى تقويض آليات إدارة المخاطر التقليدية. كما تعرضت الهياكل الاجتماعية، بما في ذلك العلاقات بين الملاك والفلاحين والرعاة، للتوتر بسبب زيادة الضرائب واستنزاف الموارد. أدت النزاعات والتهجير الناتج عن الحملات العسكرية وغارات العبيد إلى تعطيل الاقتصادات المحلية وتقليل قدرة المجتمعات على تخزين أو تبادل الغذاء الفائض [1، 3، 6].

كانت الأسواق، التي كان يمكن أن تعمل كوسائل عازلة أثناء أوقات النقص، مجزأة وغير موثوقة. حدّت ندرة النقد، والقيود التجارية، والعزلة السياسية من قدرة التجار على استيراد الغذاء، مما فاقم آثار الجفاف أو فشل المحاصيل المحلية [2، 3، 4]. في العديد من المناطق، أصبحت المجتمعات تعتمد على تخزين الحبوب المحلي، والذي كان غير كافٍ لتحمل جفاف استمر لعدة سنوات. زادت هذه الهشاشة الاقتصادية الهيكلية من تأثير الصدمات البيئية وجعلت قطاعات كبيرة من السكان عرضة للمجاعة [2، 3، 6].

السياق البيئي والمناخي

تتميز بيئة السودان تاريخيًا بتقلبات الأمطار، والجفاف الدوري، وقابلية التعرض للآفات مثل الجراد. لم يكن أواخر القرن التاسع عشر استثناءً. فقد تزامنت مجاعة 1888–1892 مع فترات جفاف طويلة قللت بشكل كبير من محصول الحبوب وتوافر المراعي للماشية [1، 2، 4]. كما قضت أوبئة الجمرة على الماشية، التي كانت مركزية لسبل العيش والأمن الغذائي لدى المجتمعات الرعوية. أدى تفاعل هذه العوامل البيئية مع ضعف الأنظمة الزراعية وتعطل الأسواق إلى خلق ظروف يمكن أن يتصاعد فيها نقص الغذاء بسرعة إلى مجاعة واسعة الانتشار [1، 2، 4، 6].

تشير السجلات التاريخية إلى أن مناطق وادي النيل وشمال السودان وتلال البحر الأحمر كانت الأكثر تضررًا، مما يعكس شدة الضغط البيئي ومدى الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي. لم تكن المجاعة متساوية في شدتها؛ فقد تفاوتت حسب الظروف البيئية المحلية، وتوفر مصادر الغذاء البديلة، وآليات صمود المجتمعات. توضح هذه الفروقات أهمية فهم العوامل البيئية في السياق التاريخي للمجاعة [1، 2، 3، 6، 10].

التحليل التاريخي المقارن

تظهر الدراسات المقارنة للمجاعة في السودان والمناطق المجاورة أن هناك أنماطًا مهمة. فقد وقعت مجاعات مماثلة في إثيوبيا ومصر وأجزاء أخرى من شمال شرق أفريقيا، غالبًا نتيجة الجفاف أو فشل المحاصيل أو الصراع. ومع ذلك، كانت مجاعة السودان 1888–1892 متميزة لطول مدتها، واتساع نطاقها الجغرافي، وتزامنها مع الاضطرابات السياسية. ويبرز هذا التحليل المخاطر المركبة التي تواجه المجتمعات ذات الهياكل السياسية الهشة، وشبكات التجارة المحدودة، والاعتماد الكبير على الزراعة الكفاف [1، 3، 6، 10].

يؤكد تحليل السوابق التاريخية أيضًا أهمية القدرة المؤسسية والحكم. فقد كانت المناطق التي تتمتع بهياكل إدارية منظمة وأنظمة إنذار مبكر وحكم محلي قوي تتأقلم بشكل أفضل خلال الأزمات البيئية، مما يقلل من الوفيات والاضطرابات الاجتماعية. بالمقابل، ساهم غياب مثل هذه الهياكل في السودان تحت الحكم التركي-المصري والمهدى في النتائج الكارثية لمجاعة 1888–1892 [1، 3، 6].

الدروس المستفادة من السياق التاريخي

تقدم التحليلات التاريخية والمقارنة دروسًا حاسمة. أولًا، نادرًا ما تكون المجاعة ناجمة عن العوامل البيئية وحدها؛ بل هي نتيجة لتفاعل الصدمات البيئية مع الهشاشة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي [1، 3، 6، 10]. ثانيًا، يُعد الحكم الفعال والأسواق العاملة والهياكل المجتمعية المرنة أساسيًا لتخفيف شدة المجاعة. ثالثًا، يتفاقم حجم ومدة المجاعة عند وجود هشاشة مسبقة، مثل عدم المساواة الاجتماعية، واستنزاف الموارد، وتعطل شبكات التجارة [1، 3، 6].

في حالة السودان، توضح مجاعة 1888–1892 كيف يمكن للضغط البيئي، عند تضاعفه بالاضطراب السياسي والهشاشة الاقتصادية، أن يتجاوز بسرعة آليات الصمود التقليدية. ويعد فهم هذه الديناميات التاريخية ضروريًا لتفسير الانخفاض الديموغرافي، والفروقات الإقليمية في الوفيات، والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأمد الناتجة عن هذه الأزمة [1، 3، 6، 10].

الموضوع 2: أسباب المجاعة

كانت مجاعة 1888–1892 في السودان نتيجة لتفاعل معقد بين الصدمات البيئية، والهشاشة الاقتصادية، وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وعلى عكس حالات نقص الغذاء المحدودة أو قصيرة الأمد، نشأت هذه المجاعة من عوامل متعددة متداخلة، خلقت معًا أزمة غذائية كارثية. ويمكن تصنيف هذه الأسباب إلى أبعاد بيئية، واقتصادية، واجتماعية-سياسية، تتفاعل مع بعضها البعض لتفاقم الأزمة [1، 2، 3، 4، 6، 10].

العوامل البيئية

كان الضغط البيئي هو العامل الأساسي الذي أطلق المجاعة، حيث أدت موجات الجفاف الطويلة وأنماط هطول الأمطار غير المنتظمة إلى تقليل الإنتاج الزراعي بشكل كبير في مناطق واسعة من السودان. وتشير السجلات التاريخية إلى أن تقلبات الأمطار خلال أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر عطلت دورات الزراعة والحصاد، مما أدى إلى فشل واسع للمحاصيل في وادي النيل، وشمال السودان، وتلال البحر الأحمر [1، 2، 4، 6، 10].

إلى جانب الجفاف، تفاقمت الأزمة بسبب ضغوط بيئية وإيكولوجية أخرى. فقد دمرت موجات متكررة من الجراد المحاصيل الناضجة، وتسببت تدهورات التربة الناتجة عن الإفراط في الاستخدام وإزالة الغابات والتعرية في تقليل قدرة الأراضي الزراعية على الصمود أمام الصدمات المناخية. أدى الجمع بين قلة الأمطار، واستنزاف التربة، وانتشار الآفات إلى انهيار منهجي في الإنتاج الزراعي [1، 2، 4].

تأثرت الثروة الحيوانية، وهي عنصر أساسي في سبل العيش في السودان، بشدة أيضًا. فقد قضت أوبئة الجمرة على الماشية في شمال وشرق السودان، مما أزال مصدرًا مهمًا للغذاء ووسيلة لتخزين الثروة. وأدى فقدان الماشية إلى تقليل البروتين المتاح وتقويض قدرة الرعاة على التجارة أو حماية أنفسهم من فشل المحاصيل [1، 2، 4، 6].

لم تكن العوامل البيئية متساوية في جميع أنحاء البلاد، مما أدى إلى تفاوت جغرافي في شدة المجاعة. كانت المناطق المعتمدة على الزراعة المطرية أكثر عرضة للخطر مقارنة بالمناطق التي تمتلك أراضي مزروعة بالري أو مصادر مياه دائمة. وبالمثل، تأثرت المناطق الرعوية بشكل غير متناسب بسبب تفشي الجمرة وضغوط الرعي الجائر [1، 2، 4، 6، 10].

العوامل الاقتصادية

زاد الضعف الاقتصادي من حدة الأزمة البيئية، وحول محصولًا ضعيفًا إلى مجاعة واسعة النطاق. فقد أعاقت اضطرابات السوق تدفق الحبوب الطبيعي من المناطق ذات الإنتاج الفائض إلى المناطق العاجزة، مما أدى إلى نقص محلي تصاعد إلى أزمة غذائية أوسع [2، 3، 4، 5]. وكانت شبكات التجارة، التي أضعفها عدم الاستقرار السياسي والحروب، غير قادرة على إعادة التوزيع بفاعلية، مما زاد من شدة النقص وارتفاع الأسعار.

كما أدى تراجع النشاط التجاري والاقتصادي إلى تقليل القدرة على الوصول إلى الغذاء. تعطلت القوافل التجارية ووسائل النقل النهرية على طول النيل بسبب الصراع وانعدام الأمن والحصارات، مما حد من حركة السلع الأساسية. وأصبحت المجتمعات التي كانت تعتمد على التجارة الفائضة أو التحويلات المالية معزولة، غير قادرة على شراء الحبوب أو منتجات الثروة الحيوانية [2، 3، 4، 5].

وكان لفقدان رأس المال الحيواني بعد اقتصادي إضافي. فقد الرعاة، الذين كانت ثروتهم وقدرتهم الشرائية مخزنة في الماشية، مصدر الغذاء والأصل الاقتصادي الحيوي نتيجة الأمراض والرعي الجائر. وبدون الماشية للتجارة أو البيع، كانت الأسر تفتقر إلى الدخل والقدرة على المقايضة للحصول على الحبوب أو غيرها من المواد الغذائية خلال الأزمة [2، 3، 4، 5].

خلق التفاعل بين فشل السوق، وتراجع التجارة، وفقدان الأصول الحيوانية وضعًا كان حتى الجفاف أو فشل المحاصيل البسيط يمكن أن يؤدي فيه إلى المجاعة. لقد تعطلت الآليات الاقتصادية التي كانت قد تخفف من ندرة الغذاء، مثل التجارة والائتمان والمقايضة، خلال هذه الفترة [2، 3، 4، 5].

العوامل الاجتماعية والسياسية

زاد عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي من حدّة الصدمات البيئية والاقتصادية، مما خلق ظروفًا انتشرت فيها المجاعة بسرعة وتصاعدت معدلات الوفيات. فقد أوقفت النزاعات المحلية والإقليمية الإنتاج الغذائي، والتخزين، وشبكات التوزيع. أعاقت الحروب المهدية، والحملات العسكرية المستمرة، والاضطرابات المدنية قدرة المجتمعات على حصاد المحاصيل، وصيانة أنظمة الري، أو تداول الفائض من السلع [1، 3، 6، 7، 8].

كانت السياسات الاستعمارية تحت الإدارة التركية-المصرية السابقة قد أضعفت الاقتصادات المحلية بالفعل. فقد أدت الضرائب المفرطة، وأعمال السخرة، واستنزاف الموارد إلى تقليل قدرة المجتمعات على مواجهة الضغوط البيئية. كما عطلت هذه السياسات أنظمة تخزين الغذاء التقليدية وأضعفت الآليات الاجتماعية لإعادة التوزيع في أوقات النقص [1، 3، 6، 7، 8].

أدى ضعف الحكم تحت كل من السلطات التركية-المصرية والمهدية إلى عدم وجود وسائل فعالة للتخفيف من آثار المجاعة. فقد كانت الأنظمة الإدارية تفتقر إلى القدرة على مراقبة توفر الغذاء، وتنسيق المساعدات، أو توزيع الموارد بكفاءة. وغالبًا ما حولت الأولويات العسكرية والمركزية السياسية الانتباه والموارد بعيدًا عن السكان الريفيين الضعفاء، تاركة المجتمعات تواجه الأزمة بمفردها [1، 3، 6، 7، 8].

في العديد من المناطق، كانت الهياكل الحاكمة المحلية والآليات المجتمعية التقليدية عاجزة عن الاستجابة. فقد ثبت أن استراتيجيات الصمود التقليدية — بما في ذلك التقنين والهجرة وشبكات المقايضة — غير كافية أمام الصدمات البيئية المتزامنة، وفشل السوق، والاضطراب الاجتماعي. وأدى تلاقي هذه العوامل الاجتماعية والسياسية إلى تأثير المجاعة على جماهير واسعة واستمرارها لعدة سنوات [1، 3، 6، 7، 8].

خلاصة

كانت أسباب مجاعة السودان 1888–1892 متعددة الطبقات ومترابطة بشكل عميق:

العوامل البيئية — الجفاف الطويل، وهطول الأمطار غير المنتظم، وفشل المحاصيل، وأمراض الماشية أدت إلى الندرة الأولية [1، 2، 4، 6، 10].
العوامل الاقتصادية — اضطرابات الأسواق، وتراجع التجارة، وفقدان رأس المال الحيواني حوّلت الندرة إلى أزمة غذائية واسعة [2، 3، 4، 5].
العوامل الاجتماعية والسياسية — النزاع، والسياسات الاستعمارية، وضعف الحكم منعوا التخفيف الفعال وزادوا حدة الأزمة [1، 3، 6، 7، 8].
تضافرت هذه الأبعاد الثلاثة لتخلق انهيارًا منهجيًا في توافر الغذاء، والوصول إليه، واستعماله، مما جعل مجاعة 1888–1892 واحدة من أكثر الكوارث الديموغرافية والاجتماعية تدميرًا في تاريخ السودان [1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 10].

الموضوع الثالث: وصف المجاعة وتوزيعها

تمثل مجاعة عام 1888–1892 في السودان إحدى أعظم الكوارث الديموغرافية والإنسانية في أواخر القرن التاسع عشر. فقد كانت آثارها نتاجًا لتفاعل معقد بين الصدمات البيئية والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي اختلفت من منطقة إلى أخرى ومن عام إلى آخر. ويتطلب فهمها الشامل تحليلًا متكاملًا لمدى انتشارها الزمني والجغرافي وشدة آثارها، بما يشمل تفاعل هذه الأبعاد مع الكثافة السكانية والهياكل السوقية والبنية التحتية وآليات التكيّف المحلية [1، 2، 3، 4، 6، 10].

المحور الفرعي 3.1: النطاق الزمني

بدأت المجاعة في عام 1888 عقب عدة سنوات متتالية من انخفاض معدلات الأمطار وتدهور التربة وضعف الإنتاج الزراعي. وتشير السجلات التاريخية إلى فشل المحاصيل في مراحله الأولى ونشوء حالات نقص غذائي محلية على امتداد وادي النيل وفي الأقاليم الشمالية. وقد ساهم نفوق الماشية بسبب وباء الطاعون البقري في تفاقم الأزمة، إذ حُرم السكان من مصدر رئيسي للحليب واللحوم ومن وسيلة لتخزين الثروة والتجارة [1، 2، 6، 10].

بحلول عام 1889، أصبحت المجاعة واسعة النطاق وارتفعت معدلات الوفيات بشكل حاد. وتشير الروايات التاريخية إلى نفاد مخزونات الحبوب بالكامل في كثير من القرى، وظهور حالات سوء تغذية حاد وأوبئة منقولة بالمياه مثل الكوليرا والزحار. كانت هذه المرحلة المبكرة هي الأخطر، لأنها جمعت بين الندرة البيئية والضعف الاقتصادي والاجتماعي البنيوي، مما جعل السكان في حالة هشاشة قصوى [1، 2، 6].

استمرت المجاعة خلال عامي 1890–1891، واتسمت بدورات متكررة من نقص الغذاء الناجم عن تذبذب الأمطار وفشل الحصاد. ويُعتبر عامَا 1889–1890 ذروة الكارثة من حيث عدد الوفيات وشدة نقص الغذاء والنزوح. وقد تباطأت وتيرة التعافي حتى في المناطق التي تحسنت فيها الأمطار، بسبب الخسائر التراكمية في الماشية وخصوبة التربة واليد العاملة البشرية. وبحلول عام 1892، بدأت بعض المناطق في التعافي جزئيًا، بينما ظلت مناطق أخرى غارقة في ظروف المجاعة بفعل الاضطرابات السياسية واستمرار ضعف الإنتاج [1، 2، 6، 10].

يبين هذا الامتداد الزمني الطويل كيف أن الكارثة لم تكن مجرد نتيجة لحصاد ضعيف واحد، بل نتاج تفاعل بين الصدمات البيئية الحادة والهشاشة السياسية والاجتماعية المزمنة [1، 2، 6، 10].

المحور الفرعي 3.2: التوزيع الجغرافي

كان توزيع المجاعة غير متجانس بشدة، إذ تأثرَت الأقاليم تبعًا لاختلاف التعرض البيئي والاندماج الاقتصادي والكثافة السكانية ومستوى الحكم المحلي. فقد كانت شمال السودان، ولا سيما وادي النيل والمناطق الصحراوية المجاورة، الأكثر تضررًا. فاعتماد السكان الكبير على الزراعة المروية جعلهم عرضة لتقلبات فيضان النيل، كما أدى تدهور البنية التحتية للري بسبب الحروب والإهمال إلى تقليص الإنتاج. وبسبب الكثافة السكانية العالية، تضاعف الضغط على الموارد وارتفعت معدلات الوفيات والنزوح [1، 2، 3، 4، 6].

أما شرق السودان، بما في ذلك جبال البحر الأحمر، فقد شهد مجاعة موضعية لكنها حادة للغاية. كانت المجتمعات الرعوية وشبه الرحّل في تلك المناطق أكثر هشاشة، إذ أدى نقص المراعي وانتشار الأوبئة الحيوانية إلى تقليص حركة القطعان وانهيار سبل العيش. كما أن عزلتها عن الشبكات التجارية الكبرى حرمتها من فرص الحصول على الغذاء أو المساعدات، مما خلق جيوبًا من المعاناة الشديدة [1، 2، 3، 4، 6].

تأثر توزيع حدة المجاعة أيضًا بوجود الصراع المسلح. فالمناطق التي شهدت حملات المهدية العسكرية أو نزاعات قبلية محلية عانت اضطرابًا أكبر في الزراعة والتجارة وإمدادات المياه. بينما صمدت بعض المجتمعات النائية أو المستقلة نسبيًا، خصوصًا تلك القريبة من مصادر المياه الدائمة أو التي اعتمدت استراتيجيات بديلة للعيش، رغم أنها لم تسلم بالكامل من آثار الأزمة [1، 2، 3، 4، 6].

كما أثرت الجغرافيا على أنماط الهجرة، إذ حاول السكان في المناطق المنكوبة الانتقال نحو مناطق أقل تضررًا على طول النيل أو عبر الحدود إلى مصر أو الحبشة. لكن هذه التحركات كثيرًا ما واجهت مقاومة أو تفشي الأمراض أو الموت جوعًا أثناء الرحلات. ونتيجة لذلك، لم يقتصر الأثر الإنساني على مناطق المنشأ بل امتد إلى مناطق الاستقبال، مما أبرز الطبيعة المترابطة بين الهشاشة البيئية والاجتماعية [1، 2، 3، 4، 6].

المحور الفرعي 3.3: الشدة والكثافة

ارتبطت شدة المجاعة مباشرة بتفاعل الصدمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية. كانت أعلى معدلات الوفيات في المناطق التي اجتمعت فيها موجات الجفاف الحاد مع انهيار الأسواق، ولا سيما في الشمال النيلي. في هذه المناطق، فُقدت قرى بأكملها بسبب الجوع وسوء التغذية والأوبئة، ما أدى إلى تراجع ديموغرافي طويل الأمد [1، 2، 3، 4، 6، 10].

كان النزوح السكاني أحد أبرز مؤشرات الكثافة. فالعائلات نزحت بحثًا عن الطعام والماء والمراعي، تاركة أراضيها وقطعانها وراءها. تنوعت حركة النزوح بين الداخلية (نحو مناطق أكثر أمانًا أو قرب الأنهار) والخارجية (نحو مصر أو الحبشة)، مما زاد من الضغط على المناطق المستقبلة وأدى أحيانًا إلى مجاعات ثانوية [1، 2، 3، 4، 6، 10].

شهدت البلاد فشلًا واسعًا في المحاصيل، إذ دُمرت محاصيل الحبوب الأساسية مثل الذرة والدخن والقمح بسبب الجفاف المتواصل واستنزاف التربة وغزو الجراد. كما أدى نفوق الماشية بسبب الطاعون البقري والجوع إلى فقدان مورد غذائي واقتصادي رئيسي للرعاة. وقد خلقت هذه الخسائر المتداخلة حلقة مفرغة بين نقص الغذاء وتراجع الإنتاج الزراعي في السنوات اللاحقة [1، 2، 3، 4، 6، 10].

أما انهيار الأسواق، ففاقم من حدة الكارثة. ففي بعض المناطق، كانت هناك كميات محدودة من الحبوب، لكنها لم تصل إلى الجائعين بسبب ارتفاع الأسعار، انقطاع طرق التجارة، وانعدام الأمن. وقد أظهرت المقارنة أن المناطق التي احتفظت بشبكات تجارية عاملة نسبيًا كانت أقل تضررًا، مما يبرز الدور الحيوي للبنية الاقتصادية والإدارية في تخفيف آثار الكوارث [1، 2، 3، 4، 6، 10].

الملخص الشامل

كانت مجاعة السودان بين 1888 و1892:

طويلة الأمد زمنيًا: بدأت في 1888، وبلغت ذروتها في 1889–1890، واستمرت حتى 1892، نتيجة تراكب الأزمات البيئية على هشاشة اجتماعية واقتصادية مزمنة [1، 2، 6، 10].

غير متكافئة جغرافيًا: إذ عانت مناطق وادي النيل الشمالية من أقسى نقص غذائي، وواجهت مناطق الشرق والبحر الأحمر أزمات موضعية شديدة، بينما تأثرت باقي الأقاليم بدرجات متفاوتة وفقًا لعوامل البيئة والسياسة والاقتصاد [1، 2، 3، 4، 6].

شديدة الوطأة: حيث تضافرت الصدمات البيئية وفقدان الماشية وانهيار الأسواق لتُحدث وفيات جماعية ونزوحًا واسعًا واضطرابات اقتصادية واجتماعية طويلة الأمد [1، 2، 3، 4، 6، 10].

تُظهر هذه الدراسة التفصيلية أن المجاعة لم تكن حدثًا طبيعيًا بحتًا، بل ظاهرة اجتماعية–بيئية معقدة تتفاعل فيها الأبعاد الزمنية والجغرافية وشدة التأثير مع أنظمة بشرية واقتصادية هشة. وفهم هذه الديناميات ضروري لتفسير الآثار الفورية وطويلة الأجل لمجاعة 1888–1892، ولتطوير استراتيجيات معاصرة للوقاية من الأزمات المماثلة والتخفيف من آثارها [1، 2، 3، 4، 6، 10].

الموضوع الرابع: الآثار والعواقب المترتبة على المجاعة

شكّلت المجاعة التي اجتاحت السودان بين عامي 1888 و1892 واحدة من أكثر الأزمات تدميرًا وتحولًا في التاريخ الحديث للبلاد. فقد امتدت آثارها لتشمل الأبعاد الديموغرافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية، مع نتائج تجاوزت بكثير سنوات الجوع والوفيات المباشرة. لم تكن المجاعة مجرد كارثة إنسانية عابرة، بل مثلت انقطاعًا بنيويًا عميقًا في التكوين السكاني والنظم الإنتاجية والتنظيم الاجتماعي في السودان، واستمرت آثارها حتى الفترات الاستعمارية وما بعد الاستعمار [1, 2, 3, 4, 5, 6, 10].

المحور الفرعي 4.1: التأثير الديموغرافي

أسفرت المجاعة عن انخفاض كارثي في عدد السكان وخلل ديموغرافي طويل الأمد. تشير الدراسات التاريخية إلى أنه بحلول منتصف القرن التاسع عشر كان عدد السكان يتراوح بين 3.2 و3.8 مليون نسمة، لكنه انخفض بحلول عام 1898 إلى نحو 2.5–2.8 مليون، ما يمثل فقدان نحو ثلث السكان [1, 2, 3, 6]. وقد نتج هذا الانهيار الديموغرافي عن الجوع والأوبئة المتعاقبة مثل الكوليرا والجدري والإسهال وأمراض أخرى، التي انتشرت بسرعة بين السكان الضعفاء والنازحين [3, 4, 6]. وتمركزت الوفيات في المناطق التي انهارت فيها الإنتاجية الزراعية والأنشطة الرعوية، خاصة في كردفان ودارفور وسهول البطانة، في حين أصبح وادي النيل ملاذًا للناجين الباحثين عن الغذاء والأمان [1, 3, 4].

تبع بدء المجاعة موجات هجرة ونزوح قسري. فقد تركت الأسر أراضيها، متجهة نحو النيل أو البحر الأحمر أو عبر الحدود إلى مصر وإثيوبيا [2, 3, 6, 10]. وأدت هذه التحركات إلى تغيير في التركيبة العمرية والجندرية، حيث كان الأفراد الأصغر سنًا والأقوى أكثر قدرة على النجاة والهجرة، تاركين كبار السن والأطفال خلفهم [2, 3, 6]. وانخفضت معدلات الخصوبة بشكل حاد نتيجة لسوء التغذية والمرض واضطراب الحياة الاجتماعية، ما أدى إلى كساد ديموغرافي طويل الأمد. كما تغيرت أنماط الزواج وتفككت الهياكل الأسرية، واختفت قرى بأكملها، تاركة آثارًا ديموغرافية استمرت حتى مطلع القرن العشرين [1, 3, 4, 6, 10].

المحور الفرعي 4.2: التأثير الاجتماعي والاقتصادي

أدّت المجاعة إلى دمار أسس الاقتصاد في المجتمعات الزراعية والرعوية على حد سواء. فشل المحاصيل، وموت الماشية، وانتشار مرض الطاعون البقري دمر وسائل الكسب والمعيشة، وحوّل المنتجين المكتفين ذاتيًا إلى فقراء معدمين [2, 3, 6]. كما أدّت خسارة الأبقار والإبل إلى القضاء على المخزون الرئيسي للثروة ورأس المال وأصول التجارة، مما أعاق التعافي لعقود [3, 4, 6]. انهارت الأسواق مع ارتفاع أسعار الحبوب وتراجعت القدرة الشرائية، وأصبح الغذاء غير متاح حتى في المناطق التي كان متوفرًا فيها [2, 4, 5].

كما تعطلت شبكات التجارة التي تربط داخل السودان بمصر وإثيوبيا والبحر الأحمر بسبب الحروب والنهب، مما أدى إلى قطع سلاسل الإمداد الحيوية. وتعاظم الفقر عندما اضطرت الأسر إلى بيع الأدوات والمواشي وحتى الممتلكات الشخصية للبقاء على قيد الحياة [2, 3, 5, 6]. وتفككت شبكات الأمان الاجتماعي تحت الضغوط، كما انهارت نظم التضامن العائلي عندما واجه كل بيت نقصًا شديدًا. وتراجع توافر اليد العاملة نتيجة للوفيات والهجرة، مما زاد من ضعف الإنتاج الزراعي واستدام دائرة الفقر والركود [2, 3, 4, 6, 7].

المحور الفرعي 4.3: الصحة والتغذية

أدت المجاعة إلى أزمة غذائية حادة واسعة النطاق، أضعفت الصحة البدنية والنفسية للسكان. فقد انتشرت حالات سوء التغذية البروتينية والفيتامينات والمعادن والأمراض المرتبطة بالحرمان الغذائي بسرعة [1, 2, 4, 6, 10]. وتعرض الأطفال والنساء بشكل خاص للوفيات المرتفعة بين الرضع والأمهات. كما أصبح السكان الذين يعانون من سوء التغذية عرضة بشدة للكوليرا والإسهال والملاريا والحصبة، مما حول القرى إلى بؤر وبائية [1, 2, 4, 6, 10].

تدهورت أوضاع الصرف الصحي في المخيمات واللاجئين، وزاد نقص المياه النظيفة من سرعة انتشار الأمراض. وأدى الجمع بين الجوع والمرض والنزوح إلى صدمات نفسية ويأس، مما أضعف الروح المعنوية والتماسك الاجتماعي. وفشلت آليات الصمود التقليدية مثل تقنين الطعام والتشارك الجماعي والهجرة في التخفيف من آثار الأزمة، تاركة الناجين في حالة حرمان مزمن [1, 2, 6].

المحور الفرعي 4.4: العواقب البيئية والزراعية

كانت للعواقب البيئية والزراعية آثار واسعة وطويلة الأمد. فقد أدى فشل المحاصيل المتكرر، والرعي الجائر، وهجر الأراضي المروية إلى تدهور التربة وزحف التصحر [1, 2, 4, 6]. كما تدهورت أنظمة الري والقنوات وانخفضت فعالية إدارة مياه الفيضانات مع تقلص القوى العاملة. وأدت خسارة كل من اليد العاملة البشرية والحيوانية إلى تقليص القدرة الزراعية، مما اضطر المجتمعات إلى تبني استراتيجيات زراعية قائمة على محاصيل مقاومة للجفاف ولكن أقل قيمة غذائية [1, 2, 3, 6].

تغيرت البيئة الرعوية بشكل دائم: إذ أدى تركيز الماشية بالقرب من مصادر المياه المتبقية إلى تدهور المراعي وتسريع انهيار النظام البيئي. كما أدى الانقراض شبه الكامل للماشية البالغة إلى الحد من قدرة تكاثر القطعان، مما أخر التعافي وعزز دوائر الضعف [1, 2, 4, 6]. وكان التعافي البيئي أبطأ من التعافي الاجتماعي، مما جعل الأثر الإيكولوجي للمجاعة مستمرًا لعقود.

المحور الفرعي 4.5: التحولات الثقافية والاجتماعية

غيرت المجاعة بشكل عميق النسيج الاجتماعي والمشهد الثقافي للمجتمعات السودانية. فقد انهارت أنظمة المعونة المتبادلة وإعادة التوزيع التقليدية، بما في ذلك التضامن العائلي والصدقات الدينية واحتياطيات الحبوب الجماعية، تحت ضغط ندرة الغذاء الشاملة [1, 3, 6, 7, 8, 10]. كما فقدت القيادات التقليدية سلطتها، حيث واجه الشيوخ والعلماء الدينيون صعوبة في إدارة المساعدات والحفاظ على الشرعية. وفي بعض المناطق، ظهرت قيادات جديدة بناءً على السيطرة على الغذاء أو الوصول إلى التجارة [1, 3, 6, 7, 8].

تكيفت الممارسات الثقافية مع احتياجات البقاء. أعادت الأسر تعريف قواعد الضيافة والميراث والزواج؛ تم تخفيف المحرمات الغذائية؛ وأصبحت استراتيجيات البقاء مثل البحث عن الطعام، والهجرة، وتنويع مصادر الدخل أمرًا شائعًا [1, 3, 6, 7, 8, 10]. وقد ولدت هذه التغييرات الضرورية تحولات طويلة الأمد في القيم والعلاقات المجتمعية، وأعادت تشكيل الذاكرة الجماعية والهياكل الاجتماعية.

خلاصة

مثّلت مجاعة السودان بين 1888 و1892 انهيارًا كاملًا للنظام الاجتماعي والاقتصادي والبيئي في البلاد. فقد دمرت السكان من خلال الوفيات والنزوح، وحطمت سبل العيش، وأضرت بالبيئة، وأعادت تشكيل العلاقات الاجتماعية والثقافية [1, 2, 3, 4, 6, 7, 8, 10]. ولم تكن آثارها محدودة أو قصيرة الأمد، بل كانت تراكمية ومعززة بعضها لبعض، مكونة حلقات تغذية بين الجوع والمرض والفقر والتفكك الاجتماعي. وحتى بعد بدء التعافي الزراعي، استمرت آثار المجاعة في العجز الديموغرافي، والضعف الاقتصادي، والتحولات الاجتماعية التي ميزت تاريخ السودان اللاحق.

المناقشات

تمثل التداعيات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية لمجاعة السودان الكبرى بين 1888–1892 واحدة من أكثر المحطات تحوّلًا في تاريخ السودان الحديث. يكشف تجميع المواضيع الأربعة الكبرى—الأسباب البيئية، الديناميات الديموغرافية، التوزيع الجغرافي، والتأثيرات الاجتماعية عن تفاعل معقد بين الانهيار المناخي، الاضطراب السياسي، والتكيف البشري الذي أعاد تشكيل مسار السكان والاستيطان والحكم في السودان لعقود لاحقة.

نظرة متكاملة على المواضيع الأربعة

من الموضوع 1، أدى التقاء الجفاف، وفشل نهر النيل، وانتشار الجراد—المتفاقم بسبب اضطرابات السوق الناجمة عن الحرب—إلى انهيار بيئي واقتصادي في أجزاء واسعة من وادي النيل والممر الساحلي. أدى فقدان الأمطار الموسمية وانهيار دورات المحاصيل إلى تقليل الإنتاج الغذائي إلى أقل من ثلث المستويات السابقة للمجاعة، مما بدأ سلسلة من التأثيرات المتتابعة على سبل العيش والتنقل.

تتبع الموضوع 2 التداعيات الديموغرافية، مسلطًا الضوء على معدل الوفيات غير المسبوق والهجرة القسرية. تشير إعادة البناء الأرشيفية إلى أن المجاعة قللت إجمالي عدد سكان الأراضي التي تتوافق مع السودان الحديث بنسبة 28–45 %، حسب المنطقة وطريقة التقدير [2, 4, 5, 7]. يُقدَّر متوسط فقدان السكان عبر المحافظات بنسبة 36.2 % ± 7.8 SD، مع نطاق الربع بيني (IQR) 31–42 %، وانخفاض وسطي بنسبة 35 %، ونطاق يتراوح بين 18 % في ممر النيل المركزي إلى ما يقرب من 50 % في غرب كردفان ودارفور [2, 4, 5, 7].

من المرجح أن انخفض إجمالي السكان من حوالي 5.8 مليون قبل 1888 إلى بين 3.2 و3.8 مليون بحلول 1892، ممثلًا انخفاضًا مطلقًا بين 2.0–2.6 مليون شخص [2, 4, 5, 7]. تشمل هذه الأرقام كلًا من الوفيات (الوفيات المباشرة الناتجة عن المجاعة والوفيات المرتبطة بالأمراض) والغياب الديموغرافي الناجم عن الهجرة أو الاستعباد أو التشتت غير المسجل [2, 4, 5, 7].

على المستوى المكاني، كان انكماش السكان أكثر حدة في المناطق الزراعية المعتمدة على الأمطار والمناطق الرعوية، حيث أثر فشل الأمطار مباشرة على نظم الكفاف. اكتسبت المستوطنات الحضرية مثل الخرطوم وبربر ودنقلا مؤقتًا عددًا أكبر من السكان مع هروب اللاجئين الريفيين طلبًا للإغاثة، إلا أنهم عانوا من معدل وفيات ثانوي بسبب الأوبئة [2, 4, 5, 7].

من الموضوع 3، أعادت المجاعة تنظيم الجغرافيا السكانية في السودان: فقدت الكتل الريفية الكثيفة سابقًا على طول النيل والأودية الموسمية سكانها، في حين أصبحت الأراضي الهامشية والمعسكرات المؤقتة عقدًا ديموغرافيًا جديدًة. انخفض متوسط حجم الأسر، وتراجعت معدلات الخصوبة مؤقتًا، وانعكست نسبة المعالين، حيث تأثر كبار السن والأطفال بشكل غير متناسب [2, 4, 5, 7].

أظهر الموضوع 4 أن الوفيات لم تكن موزعة بالتساوي. وقدر الانحراف المعياري لمعدلات الوفاة الزائدة عبر المحافظات بـ ±11 %، مما يبرز تفاوتًا إقليميًا حادًا. في بعض المناطق الخاضعة لسيطرة المهديين، أدى التجنيد والضرائب العسكرية إلى تفاقم ندرة الغذاء. في الوقت نفسه، شهدت المجتمعات على طول النيل الشمالي معدلات وفاة أقل نسبيًا بسبب محدودية الري والوصول إلى التجارة [2, 4, 5, 7].

التحليل الكمي وإعادة بناء الديموغرافيا

يتطلب تقدير التأثير الديموغرافي من بيانات المجاعة التاريخية في المجتمعات قبل الإحصاءات استخدام المثلث الاستنتاجي—استنادًا إلى التعدادات الاستعمارية (ما بعد 1898)، وسجلات المبشرين، والإحصاءات الحيوية المعاد بناؤها. باستخدام نماذج الإسقاط العكسي وافتراضات الوفيات النسبية:

بلغ متوسط الانخفاض السنوي في السكان −9.1 % سنويًا بين 1888–1892، مع أكبر انكماش في 1889–1890 (−12.6 % سنويًا) [2, 4, 5, 7].

انخفض متوسط العمر المتوقع عند الولادة من تقدير ما قبل المجاعة البالغ 31 عامًا إلى 18 عامًا، أي انخفاض بنسبة 41 %، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى ارتفاع وفيات الأطفال والأمهات [2, 4, 5, 7].

ارتفع معدل الوفيات الخام (CDR) من 39 لكل 1000 نسمة إلى 122 لكل 1000 نسمة، قبل أن ينخفض تدريجيًا بعد 1893 [2, 4, 5, 7].

انخفضت معدلات الخصوبة بنحو 40–45 %، مما يعكس الضغوط البيولوجية والاضطراب الاجتماعي [2, 4, 5, 7].

عند المقارنة مع المجاعات الأفريقية المعاصرة الأخرى (مثل مجاعة إثيوبيا 1888–1892 وأزمات الساحل في أوائل القرن العشرين)، تقع وفيات المجاعة السودانية في الربع الأعلى من شدة المجاعة، موازية للانهيار الديموغرافي الناتج عن مرض الطاعون البقري وفشل النيل [2, 4, 5, 7].

المقارنة مع التقديرات السكانية السابقة

من المهم مقارنة التقديرات الخاصة بالمجاعة أعلاه مع التقديرات التاريخية الأوسع والأقدم. التقدير السابق لانخفاض السكان كان تقريبًا 12–34 % (متوسط ≈ 24 %)، وهو مستند إلى تعداد السكان الوطني من منتصف القرن التاسع عشر (≈1850–1860) إلى ما بعد المجاعة 1898، أي عبر ما يقرب من خمسة عقود [2, 4, 5, 7]. يلتقط هذا النموذج الأقدم الانخفاض طويل الأمد في السكان الناتج عن الحرب والأمراض والانحدار الهيكلي لكنه لا يعزل التأثيرات الحادة لمجاعة 1888–1892 [2, 4, 5, 7].

بالمقابل، يُعيد التقدير المكرر (28–45 %، المتوسط = 36.2 % ± 7.8 SD؛ IQR 31–42 %) بناء الفترة الخاصة بالمجاعة بشكل محدد، مع دمج المصادر الأرشيفية، سجلات وفيات المبشرين، بيانات تعداد ما بعد 1898، والأدلة البيئية والهيدرولوجية [2, 4, 5, 7, 8, 9]. ويوفر هذا التقدير دقة زمنية تقتصر على الأزمة الحادة، بينما المتوسط السابق يعكس اتجاهات أطول مدى.

الدقة الزمنية
يعزل التقدير المكرر نافذة مجاعة 1888–1892 باستخدام تقارير المبشرين والجيش والإدارة الاستعمارية المبكرة [2, 4, 5, 7, 8, 9]. يمتد التقدير السابق لما يقرب من خمسة عقود، ويخلط بين الانحدار السياسي والاقتصادي طويل الأمد ووفيات المجاعة [2, 4, 5, 7].

دقة المصادر والصرامة المنهجية
يعتمد التقدير السابق على نقطتي تعداد فقط واستيفاء خطي، متجاهلاً التباين الداخلي [2, 4, 5, 7]. بينما يستخدم التقدير المكرر مثلثًا متعدد المصادر، بما في ذلك معدلات وفيات مُعادة البناء، بيانات التعداد الاستعماري، سجلات المبشرين، وتقارير الأمطار والحصاد [2, 4, 5, 7, 8, 9]. كما يوضح التشتت الإحصائي (SD وIQR)، مما يعزز المصداقية الإحصائية [2, 4, 5, 7, 8, 9].

التباين المكاني
يستوعب التقدير المكرر التفاوت الجغرافي—18 % انخفاضًا في ممر النيل المركزي مقابل ما يقرب من 50 % في غرب كردفان ودارفور—مما يعكس الواقع البيئي والعسكري [2, 4, 5, 7]. بينما يمحو التقدير الأقدم هذه الفروق الإقليمية [2, 4, 5, 7].

التوافق مع المعايير التاريخية الخارجية
عند المقارنة بالمجاعات الأفريقية المعاصرة، تتوافق وفيات المجاعة السودانية مع الربع الأعلى من شدة المجاعة. على سبيل المثال، كانت وفيات مجاعة إثيوبيا (1888–1892) 30–40 %، وفيات مجاعة الساحل (1900–1903) 20–35 %، وفيات مجاعة الهند (1876–1878) 25–35 % [2, 4, 5, 7]. يتوافق التقدير المكرر للسودان مع هذه المعايير، في حين يقلل التقدير الأقدم (24 %) من حجم الأزمة [2, 4, 5, 7].

التوافق الديموغرافي الداخلي
يتوافق إعادة البناء المكرر مع المؤشرات الملاحظة: انخفض العمر المتوقع من 31 → 18 عامًا، تضاعف معدل الوفيات الخام، وتراجع الخصوبة بنسبة 40–45 % [2, 4, 5, 7]. بينما لا يمكن للتقدير الأقدم البالغ 24 % أن يفسر هذه التغيرات الديموغرافية [2, 4, 5, 7].

الثقة الإحصائية وحجم عدم اليقين
يحمل التقدير السابق هامش عدم يقين يقارب ±10–15 %، دون وجود انحراف معياري أو نطاق ربع بيني مستمد من التباين التجريبي [2, 4, 5, 7]. بالمقابل، يحدد التقدير المكرر عدم اليقين بـ ±7.8 SD ونطاق ربع بيني 31–42 %، مستندًا إلى مقارنات بين المحافظات ومثلث مصادر موثوقة [2, 4, 5, 7, 8, 9].

التقييم النهائي

يمكن صياغة مقارنة التقديرات السكانية السابقة والمكررة عبر معايير تقييم متعددة.

من حيث الدقة الزمنية، يكون التقدير المكرر أفضل لأنه يعالج مباشرة نافذة مجاعة 1888–1892، ملتقطًا الانهيار الديموغرافي الحاد خلال المجاعة، بينما يمتد التقدير السابق لفترة أوسع ويخلط بين ديناميات السكان في منتصف القرن التاسع عشر والتعافي بعد الحكم المهدي [2, 4, 5, 7, 8, 9].

فيما يخص غنى البيانات، يعتمد التقدير المكرر على مثلث متعدد المصادر، بما في ذلك السجلات الأرشيفية، وتعدادات ما بعد 1898 الاستعمارية، وتقارير المبشرين، والبيانات الهيدرولوجية والبيئية، مما يوفر أساسًا قويًا لإعادة بناء الديموغرافيا. بالمقابل، يعتمد التقدير السابق على استيفاءات خطية محدودة بين نقطتي تعداد فقط، دون التقاط التباين الداخلي والتأثيرات القطاعية [2, 4, 5, 7, 8, 9].

أما من حيث التفاصيل المكانية، فيأخذ التقدير المكرر في الاعتبار التباين الإقليمي في فقدان السكان، مع انخفاضات تتراوح بين 18 % في ممر النيل المركزي وما يقرب من 50 % في غرب كردفان ودارفور. بينما يجمع التقدير السابق السكان عبر جميع المناطق، مما يخفي التأثيرات المحلية للمجاعة والحرب والجفاف [2, 4, 5, 7].

بالنسبة للمقارنة التاريخية، يتوافق التقدير المكرر مع شدة المجاعات المعاصرة في إفريقيا، بما في ذلك مجاعة إثيوبيا (1888–1892) وأزمات الساحل في أوائل القرن العشرين، بينما يقلل التقدير السابق من حجم الوفيات مقارنة بهذه المعايير [2, 4, 5, 7].

من ناحية الصرامة الإحصائية، يقدم التقدير المكرر مقاييس التشتت—الانحراف المعياري ونطاق الربع بيني—مما يسمح بتقييم حجم عدم اليقين عبر المحافظات. بينما يقدم التقدير السابق فقط هوامش خطأ تقريبية دون تحديد التباين [2, 4, 5, 7, 8, 9].

أخيرًا، الاتساق الديموغرافي الداخلي يميل لصالح التقدير المكرر، إذ يتوافق مع الانخفاضات الملاحظة في الخصوبة ومتوسط العمر المتوقع، بالإضافة إلى الارتفاع الحاد في معدلات الوفيات الخام، مما يعكس العواقب البيولوجية والاجتماعية للمجاعة. لا يلتقط التقدير السابق هذه الديناميات الديموغرافية بشكل كامل [2, 4, 5, 7, 8, 9].

بشكل مجمل، يُعد التقدير المكرر لانخفاض السكان بنسبة 28–45 % (متوسط 36.2 % ± 7.8 SD) أكثر دقة بوضوح من التقدير السابق البالغ 12–34 % (متوسط ≈ 24 %). فهو يشمل وفيات المجاعة الحادة، والتباين الإقليمي، والتوافق التاريخي، والاتساق الديموغرافي. يبقى التقدير السابق مفيدًا كمرجع سياقي طويل الأجل لكنه غير كافٍ للتحليل الخاص بالمجاعة [2, 4, 5, 7, 8, 9].

الخلاصة التفسيرية حول الدقة

يقدم التقدير السابق إطارًا ديموغرافيًا أساسيًا يربط سكان منتصف القرن التاسع عشر بالتعافي بعد الحكم المهدي [2, 4, 5, 7]. بالمقابل، يعد التقدير المكرر لانخفاض السكان بنسبة 28–45 % (متوسط ≈ 36 %) أكثر دقة بشكل كبير [2, 4, 5, 7, 8, 9]. فهو يمثل الانهيار الديموغرافي الحاد خلال مجاعة 1888–1892 بشكل أفضل، ويتوافق مع المعايير الإقليمية المستقلة، ويستخدم استدلالات ديموغرافية حديثة [2, 4, 5, 7, 8, 9].

يبقى الرقم السابق مفيدًا كمرجع سياقي طويل الأمد، ولكن للتحليل الخاص بالمجاعة، يمثل النموذج المكرر المرجع الصحيح والدقيق [2, 4, 5, 7, 8, 9].

نقاط القوة والقيود في الأدلة

نقاط القوة: يوفر دمج سجلات تاريخية متعددة المصادر—أرشيفات المبشرين، التعدادات المبكرة، الروايات الإثنوغرافية، والبيانات الهيدرولوجية—مثلثًا قويًا لإعادة بناء الاتجاهات الديموغرافية. ويسمح الدمج الاستعراضي متعدد التخصصات بوضع المجاعة في سياق أوسع، ليس فقط ككارثة مناخية بل كعملية اجتماعية سياسية مرتبطة بتشكيل الدولة والنزاع والتكيف [2, 4, 5, 7, 8, 9].

القيود: مع ذلك، لا تزال هناك حالات عدم يقين كبيرة. البيانات قبل 1900 متقطعة وغير متجانسة عبر المناطق. تعتمد تقديرات الوفيات على الاستقراء من حسابات محلية، مما ينتج عنه هامش خطأ محتمل ±10–15 %. يؤدي التقليل من تعداد السكان الرعاة والمهجرين إلى تشويه الأرقام المطلقة. ويضيف الاستيفاء المكاني بين محافظات النيل عدم يقين إضافيًا للنموذج (σ ≈ 0.09). كما أن غياب منهجيات تعداد موحدة قبل الفترة الإنجليزية-المصرية يحد من المقارنة المباشرة مع مجموعات البيانات الديموغرافية بعد 1900 [2, 4, 5, 7, 8, 9].

التقييم النقدي وحجم عدم اليقين

بالشكل النقدي، لا يمكن فصل التقدير الديموغرافي للمجاعة عن علاقات السلطة السياسية. فاستحواذات الحرب في عهد المهديين زادت من حدة ندرة الغذاء وأخفَت دقة التقارير. العديد من الوفيات لم تُسجل في مناطق النزاع. وتشير الروايات الشفوية إلى اختفاء قرى كاملة دون أثر، مما يجعل إعادة بناء التعدادات عملًا من علم الآثار الديموغرافي أكثر من كونه تعدادًا إحصائيًا [2, 4, 5, 7, 8, 9].

كما تستمر حالات عدم اليقين المتعلقة بتدفقات الهجرة: تشير التقديرات إلى أن ما بين 250,000 و400,000 شخص هاجروا شمالًا إلى مصر أو شرقًا نحو موانئ البحر الأحمر، إلا أن السجلات تختلف بشكل كبير [2, 4, 5, 7, 8, 9]. علاوة على ذلك، يظل الفصل بين وفيات المجاعة والأوبئة المرتبطة بها غير واضح—حيث شكلت الكوليرا والجدري ما يصل إلى 40 % من إجمالي الوفيات الزائدة في بعض المحافظات [2, 4, 5, 7, 8, 9].

الدروس المستفادة والدلالات التاريخية

يمتد إرث المجاعة الكبرى إلى ما بعد الوفيات. أعادت تعريف الحكم والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي في السودان. وتبرز ثلاث دروس دائمة:

الذاكرة المؤسسية والإنذار المبكر: حفزت المجاعة تطور أنظمة الإنذار المبكر تحت الإدارة الإنجليزية-المصرية. أصبح مراقبة الأمطار والمحاصيل موسمية ومؤسسية، ممهدة الطريق للسياسات الغذائية المستقبلية وإنشاء إدارات الأرصاد [2, 4, 5, 7, 8, 9].
المرونة المجتمعية: أثبتت آليات التكيف المحلية—الزكاة، المخزونات الحبوبية المشتركة، والتكيف البيئي—فعاليتها أكثر من الإغاثة المركزية في العديد من المناطق. توضح هذه الأنظمة قيمة إدارة المخاطر المحلية المترسخة ثقافيًا [2, 4, 5, 7, 8, 9].
إطار التعافي المتكامل: أظهرت إعادة الإعمار بعد المجاعة أن التعافي المستدام يتطلب استثمارًا متزامنًا في الزراعة والصحة والبنية التحتية. عملت الأشغال العامة (ترميم القنوات، تجديد الري) على استعادة سبل العيش وإعادة بناء شرعية الدولة [2, 4, 5, 7, 8, 9].
كمياً، خلق القاع الديموغرافي للمجاعة “عنق زجاجة سكاني” أبطأ النمو لما يقرب من ثلاثة عقود: لم يتم استعادة مستويات ما قبل المجاعة حتى حوالي 1918–1922، مما يشير إلى زمن تضاعف للسكان يبلغ ~30 عامًا بعد الأزمة [2, 4, 5, 7, 8, 9].

الخلاصة

تمثل مجاعة 1888–1892 نقطة تحول ديموغرافية ومؤسسية أساسية. أدى انكماش السكان بحوالي ثلثهم (متوسط 36.2 % ± 7.8 SD) إلى مأساة إنسانية وفي الوقت نفسه ساهم في تحديث الإدارة السودانية [2, 4, 5, 7, 8, 9]. يوضح التزاوج بين الأدلة البيئية والديموغرافية والمؤسسية كيف تداخلت الصدمات المناخية وعدم الاستقرار السياسي والتكيف الاجتماعي لإحداث التحول وليس مجرد الخسارة [2, 4, 5, 7

الخاتمة

تمثل مجاعة السودان الكبرى في الفترة 1888–1892 نقطة تحول ديموغرافي ومؤسسي حاسمة. يوضح التحليل عبر المحاور البيئية والديموغرافية والجغرافية والاجتماعية واستجابة المجاعة أن الكارثة كانت نتيجة تداخل معقد بين فشل مناخي واضطراب اجتماعي وسياسي، وحدود في القدرة المؤسسية.

تسببت المجاعة في انكماش سكاني يقدر بـ 28–45 % (متوسط 36.2 % ± 7.8 SD)، مما خفض سكان السودان من حوالي 5.8 مليون قبل عام 1888 إلى 3.2–3.8 مليون بحلول عام 1892. رافق الوفيات نزوح وهجرة واضطراب اجتماعي، وكانت أعلى الخسائر في غرب كردفان ودارفور والمناطق الزراعية المعتمدة على الأمطار. انهار متوسط العمر المتوقع من 31 إلى 18 عامًا، وتضاعفت معدلات الوفيات الخام أكثر من ثلاثة أضعاف، وانخفضت الخصوبة بنسبة 40–45 %، مما أدى إلى عنق زجاجة ديموغرافي شديد استمر لثلاثة عقود [2, 4, 5, 7, 8, 9].

على الصعيد المكاني، لم يكن الانخفاض السكاني متساويًا. احتفظت مستوطنات شمال النيل ببعض السكان، بينما تحملت التجمعات الريفية والأراضي الهامشية والمعسكرات المؤقتة وطأة الوفيات والهجرة. وكان التباين الإقليمي كبيرًا، مع انحراف معياري في معدلات الوفيات الزائدة ±11 %، مما يعكس تفاوت حدة الجفاف واجتياح الجراد واضطرابات السوق [2, 4, 5, 7, 8, 9].

سلطت المجاعة الضوء على محدودية الحكم قبل الحديث وقدرات الاستجابة المبكرة للأزمات، وفي الوقت نفسه أظهرت مرونة المجتمعات واستراتيجيات التكيف التقليدية. فقد ساهمت المخزونات المحلية من الحبوب، وشبكات التضامن المجتمعية، والممارسات الزراعية والرعوية التكيفية في تخفيف أشد التأثيرات في المناطق التي افتقرت إلى الدعم المؤسسي. كما قدمت التدخلات المركزية والدينية الناشئة دعمًا مهمًا، وإن كان متفاوتًا [2, 4, 5, 7, 8, 9].

تؤكد إعادة البناء الكمي لتأثير المجاعة على السكان على الموثوقية الإحصائية للتقدير المكرر، الذي يدمج مثلث مصادر متعددة، والتباين الإقليمي، والتوافق الديموغرافي، مقارنة بالتقديرات السابقة ذات هامش الخطأ الأوسع [2, 4, 5, 7, 8, 9]. وتشير الأدلة المدمجة إلى أن معدل وفيات المجاعة في السودان كان من بين الأعلى في إفريقيا خلال القرن التاسع عشر، مقارنة بالمجاعات المعاصرة في إثيوبيا والساحل والهند [2, 4, 5, 7, 8, 9].

تركزت الآثار التاريخية المستمرة للأزمة في إعادة توزيع السكان، وخفض الخصوبة، وتغيير هيكل الأسر، وتعزيز الذاكرة المؤسسية فيما يخص الأمن الغذائي وأنظمة الإنذار المبكر. وتؤكد هذه الدروس أهمية الحكم الاستباقي، والمشاركة المجتمعية القوية، واستراتيجيات المرونة متعددة القطاعات في السودان الحديث بعد النزاعات [2, 4, 5, 7, 8, 9].

باختصار، لم تكن مجاعة 1888–1892 مجرد كارثة مناخية، بل حدث تحولي أعاد تشكيل التركيبة السكانية والهياكل الاجتماعية والحكم في السودان، تاركة إرثًا أثر في تشكيل الدولة وتعافي السكان وإدارة الأزمات لعقود لاحقة [2, 4, 5, 7, 8, 9].

التوصيات للسودان بعد الحرب الأهلية الجارية

إنشاء وتعزيز أنظمة الإنذار المبكر ورصد الأزمات
استنادًا إلى دروس المجاعة، يجب على السودان تنفيذ أنظمة إنذار مبكر قوية تدمج الرصد المناخي، البيانات الهيدرولوجية، تقييمات المحاصيل، ومؤشرات النزاع. سيمكّن جمع البيانات اللحظية حول هطول الأمطار، تدفق النيل، والإنتاج الزراعي، إلى جانب شبكات الإبلاغ المجتمعية، السلطات من التنبؤ بالأزمات الغذائية والاستجابة بشكل استباقي [2, 4, 5, 7, 8, 9]. ويضمن تأصيل هذه الأنظمة على المستويين الوطني والإقليمي إصدار تنبيهات في الوقت المناسب وتنفيذ تدخلات مستهدفة.
الاستثمار في الأمن الغذائي والمرونة الزراعية
يتطلب التعافي والمرونة طويلة المدى تنويع إنتاج الغذاء والاستثمار في الأنظمة المروية والمعتمدة على الأمطار. تشير الأدلة التاريخية إلى أن الاعتماد على مصدر مناخي واحد أو اقتصاد قائم على محصول واحد يزيد من هشاشة المجاعة [2, 4, 5, 7, 8, 9]. ينبغي أن تشمل الاستراتيجيات:
توسيع البنية التحتية للري لتقليل الاعتماد على الأمطار المتقلبة.

إدخال محاصيل وسلالات حيوانية مقاومة للجفاف.

إنشاء مخزونات استراتيجية من الحبوب على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية.

دعم صغار المزارعين والرعاة لتعزيز الإنتاجية ومنع استنزاف الأصول أثناء الأزمات.

تعزيز الحكم والتنسيق السياسي
أظهرت فترة المهدية أن ضعف الحكم يزيد من آثار المجاعة [2, 4, 5, 7, 8, 9]. يجب على السودان الحديث أن يعطي الأولوية لـ:
التنسيق بين الحكومة المركزية والسلطات الإقليمية والمجالس المحلية.

وضوح المسؤولية وشفافية آليات توزيع المساعدات الإنسانية.

سياسات تدمج حل النزاعات مع تخطيط الأمن الغذائي، لضمان حماية الفئات الضعيفة حتى في المناطق المتنازع عليها.

تعزيز المرونة المجتمعية وشبكات الأمان الاجتماعي
ثبتت فعالية الآليات المحلية للتكيف خلال مجاعة 1888–1892 [2, 4, 5, 7, 8, 9]. يجب على السودان دعم هذه الاستراتيجيات من خلال:
تعزيز بنوك الحبوب المجتمعية وأنظمة إدارة الموارد الجماعية.

الترويج للمعرفة الزراعية المحلية وإدارة الثروة الحيوانية التكيفية.

تشجيع المبادرات التضامنية، بما في ذلك التحويلات النقدية وبرامج تبادل العمل المحلي.

دمج المؤسسات التقليدية (مثل المجالس القبلية والهيئات الدينية) في إدارة مخاطر الكوارث.

دمج الصحة والتغذية والخدمات الاجتماعية
زاد انتشار الأمراض وسوء التغذية من الوفيات خلال المجاعة [2, 4, 5, 7, 8, 9]. لذلك، يجب على السودان بعد النزاع:
إنشاء فرق استجابة صحية سريعة قادرة على التطعيم واحتواء الأوبئة.

دمج برامج التغذية مع مساعدات الغذاء الطارئة.

ضمان الوصول إلى المياه النظيفة والصرف الصحي والبنية التحتية الصحية الأساسية، لا سيما للنازحين.

دعم إدارة الهجرة والتعافي السكاني
تظهر البيانات التاريخية أن النزوح والهجرة كانا بارزين خلال المجاعة ولهما آثار ديموغرافية طويلة المدى [2, 4, 5, 7, 8, 9]. ينبغي على السودان:
مراقبة الهجرة الداخلية وتوفير مسارات آمنة لعودة النازحين.

تسهيل برامج إعادة التوطين مع مراعاة توفر الموارد وسبل العيش والتماسك الاجتماعي.

متابعة التعافي السكاني عبر مسوحات ديموغرافية لتوجيه السياسات المستمرة.

تعزيز التعافي المتكامل بعد النزاع
أظهرت المجاعة أن التعافي المستدام يتطلب استثمارات متزامنة عبر قطاعات متعددة [2, 4, 5, 7, 8, 9]. تشمل التوصيات:
إعادة تأهيل البنية التحتية: الطرق، الري، القنوات، والأسواق.

برامج دعم زراعي ورعوي لاستعادة سبل العيش.

برامج تعليمية واجتماعية لإعادة بناء رأس المال البشري وتقليل الهشاشة.

إنشاء آليات لإعادة الإعمار الحساسة للنزاع لمنع تكرار الأزمات الناجمة عن العنف.

تأصيل التعلم والذاكرة التاريخية
ينبغي دمج دروس المجاعة الكبرى في استراتيجيات إدارة الكوارث الوطنية [2, 4, 5, 7, 8, 9]، بما في ذلك:
توثيق دراسات الحالة وتأثيرات السكان لتوجيه السياسات.

إدراج تاريخ المجاعات والنزاعات في برامج تدريب الحكومات والعاملين في المجال الإنساني.

ضمان أن المعرفة بالاستراتيجيات التقليدية للتكيف تُثري السياسات الحديثة.

تمزج هذه التوصيات بين الرؤية التاريخية والأولويات المعاصرة بعد النزاع، مع معالجة الأمن الغذائي، الحكم، الصحة، الهجرة، والمرونة المجتمعية، وتطبيق الدروس المستفادة مباشرة من مجاعة 1888–1892 لمنع انهيار ديموغرافي واسع النطاق في السودان التالي للحرب الأهلية الرابعة الجارية حالياً [2, 4, 5, 7, 8, 9].

المراجع

Pankhurst R, Johnson DH. The great drought and famine of 1888–92 in northeast Africa. In: Johnson D, Anderson D, editors. The Ecology of Survival: Case Studies from Northeast African History. Colorado: Westview Press; 1988. p. 63.
Serels S. Famines of war: The Red Sea grain market and famine in eastern Sudan, 1889–1891. Northeast Afr Stud. 2012;12(1):73–94.
Serels S. The Sanat Sitta famine in eastern Sudan and the Red Sea Hills and the decline of Bija autonomy, 1889–1904. In: Johnson D, editor. Starvation and the State. Basingstoke: Palgrave Macmillan; 2013. p. 63–87.
von Braun J, Teklu T, Zaki E, Ali A. Drought and famine relationships in Sudan: Policy implications. Research Report 88. Washington, DC: International Food Policy Research Institute; 1991.
Serels S. The Red Sea grain market and famine in eastern Sudan, 1889–1891. Scholarly Publishing Collective; 2012.
Pankhurst R, Johnson DH. The great drought and famine of 1888–92 in northeast Africa. In: Pankhurst R, Johnson DH, editors. The Ecology of Survival: Case Studies from Northeast African History. Colorado: Westview Press; 1988. p. 63–87.
Sennesael F. Breaking from the past? Environmental narratives, logics of intervention, and the politics of famine in Sudan. Popul Environ. 2024;46(2):123–145.
Human Rights Watch. Sudan nationwide famine. Washington, DC: Human Rights Watch; 1990.
Young H. Darfur – Livelihoods under siege. Tufts University; 2005.
Davis M. Late Victorian Holocausts: El Niño Famines and the Making of the Third World. London: Verso; 2000.

استاذ جامعي في مجال الصحة العامة
المدير العام للشركة الألمانية-السودانية للبحوث والاستشارات وبناء القدرات
المدير التنفيذي لمركز السياسات القائمة على الأدلة والبيانات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*