التواصل… حين تكون القلوب أوطاناً
دعونا اليوم نبتعد قليلًا عن لغة الكرة وركضها المتسارع، خاصة بعد خروج منتخبنا من سباق العرب بنقطة يتيمة وهدف وحيد. وربما كان يسهل علينا أن نحكي عن هلال السودان وهو يطرّز ليالي كيغالي بالإبداع، أو عن لمحات الجان وماديكي ولوحات فلومو، لكن للحديث اليوم وجهة أخرى.
دعوني هذه المرة أن أكتب بعيدًا عن المزاج الرياضي، حيث تندفع الحروف خلف سنين الغربة الهاربة، تلك التي التهمت أعمارنا، وأثقلت الرؤوس شيبًا وحنينًا. وقبل أن نتهيأ لعودة نذوب فيها شوقًا إلى الوطن، باغتتنا حربٌ لم تترك بيتًا سودانيًا إلا ووسمته بالحزن، فازدادت حاجتنا إلى ما عُرف عنا بالتواصل الاجتماعي والتكافل.
فالتواصل السوداني في زمن الحرب لم يعد ترفًا، بل صار قيمة إنسانية عليا، وضرورة نفسية وحياتية، ووسيلة بقاء للروح قبل الجسد. أما الغربة فهي لا تُقاس بالأميال، بل بثقل الوحدة والإحساس بالفقد، حيث يصبح السؤال، والاتصال، ولمّة الأهل والأصدقاء بلسمًا يخفف الوجع، ويبث الطمأنينة في نفوس أنهكها الانتظار واستبدّ بها الحنين.
وفي هذا المشهد، الذي يضج بالمآسي ولون الدم، تبرز صلة الرحم كقيمة دينية وإنسانية رفيعة؛ متنفسًا للمشاعر، ومصدرًا للسكينة في زمن عزّ فيه الفرح. فالتواصل يعيد للإنسان توازنه، ويمنحه شعور الانتماء والاحتواء، ويستدعي الذكريات لتكون جرعات شفاء من ويلات الحرب، وتعب الغربة ورهق الحياة. وقد نبّه الإسلام مبكرًا إلى هذه الحقيقة، فقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾،
وقال النبي ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه».
إن تعزيز التواصل الاجتماعي اليوم هو استثمار في الصحة النفسية، وبناء للمجتمع، وإحياء لقيم دينية وإنسانية أصيلة. وهو رسالة أمل بأن ما تهدمه الحروب يمكن أن تعيد بناءه القلوب المتواصلة، والأيدي المتكاتفة، والأرواح التي تؤمن بأن في القرب حياة، وفي التواصل شفاء.
كما لا تقف صلة الرحم عند حدود الأسرة، بل تمتد إلى التراحم الإنساني، والتعاضد في الشدائد، وهي قيم متجذرة في المجتمع السوداني. فحين تضيق الأوطان، تتسع القلوب… وبالتواصل نصنع لأنفسنا أوطانًا دافئة، تعيد للحياة معناها، ولو إلى حين.


