أسبوع الرحيل … غاب تومي خلوني يا الخلايق .. الفنان عبدالقادر سالم                                              

أسبوع الرحيل … غاب تومي خلوني يا الخلايق .. الفنان عبدالقادر سالم                                              
  • 24 ديسمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

العالم أحمد دقاش

يوم  الأربعاء الموافق الموافق 16 ديسمبر، استيقظت من النوم، طالعت في الميديا خبراً فاجعة، تمثَّل في رحيل الفنان الأيقونة د. عبدالقادر سالم، ولم أصدق ذلك لكوني على تواصل مع أسرته. نعم الموت حقٌ، وأقرب إلينا من حبل الوريد. أخذت اتصل بابنته الدكتورة وجدان، ولم أتمكن من الوصول إليها رغم تكرار الاتصال عليها، وعلآى خرين عسي أن أجد من يكذب لي الخبر.. وظللت هائماً، ويتكرر الخبر في عدة مواقع وقروبات حتى استسلمت نفسيَّاً بأنه بات حقيقة، وأخيراً تمكنت من الوصول لابنته وجدان التي أكدت لي الخبر، وكلانا كان يتلعثم في الحديث، فتخرج عبارات الترحم والمواساة بصعوبة وحزن.
الحمدلله..  ولا نقول إلا ما يرضي الله..  اللهم تغمده بواسع رحمتك ومغفرتك وبدله داراً خيراً من دارنا وإن شاء الله في عليين مع عبادك الصالحين. ما أن تأكد لي الخبر حتى أجتهدت  في التواصل مع البروف عز الدين عمر موسى تلفونياً في أمريكا لأُعزيه، وهو الصديق الوفي لفناننا الراحل. وكان رده عليَّ أحسن الله عزاءنا جميعاً في رحيل عبدالقادر، وأكمل باقي كلامه بكاءً، وقال كلمات تعتصر الألم لتخرج الحزن. أنا راضٍ عن نفسي في أن مركزنا ” مركز العز ابن عبد السلام للثقافة” قد توفق في تكريم هذا الرجل العظيم  في حياته في فعالية ثقافية محضورة قبل أقل من عام، شهدها نخبة من أهل السودان في الداخل والخارج، وتحدث فيها خيرة العارفين لفضله.
كان الفنان عبدالقادر سالم مدرسة للتميُّز في الفن، فاستحق عن تقديرهم وتثمينهم لدوره العظيم في نقل التراث والفلكلور الكردفاني بتنوعه إلى العاصمة، ليحتلَّ موقعاً سامقاً في الوجدان السوداني. لقد طوَّر السلم الخماسي عبر ايقاعات المردوم والجراري وفن البخسة في جبال النوبة ليبدع، ويضيف سلمين للخماسي، فيصبح سباعيَّاً في بعض ايقاعات أغانيه جنباً الى جنب مع الخماسي الأصيل. فتذوقه الكل بعد عبور كل الحواجز الثقافية فأعجب به غيرنا اقليميَّاً ودوليَّاً .. الم يقلده الفنان الأمازيغي وكذلك راحيل الإسرائيلية في أمريكا، فغنت له البسامة والقمير الضواي في نشوة أكدت أنَّ الفن والموسيقي لغة عالمية.
فقيدنا الراحل المقيم في النفوس عبدالقادر سالم من مواليد منطقة القوز، وهي الدلنج الكبرى، وتربى وترعرع بين الأبيض والدلنج  حيث تخرج في معهد التربية الدلنج، الذي صقل مواهبه الريفية الدفينة، فاندمج في مجتمعه، يحمل في يده اليمنى كتاباً يعلم منه الأجيال الناشئة، وفي يده الأخرى عوداً يدندن فيه مطلقاً لمواهبه العنان في الهواء الطلق؛ مؤمناً أنَّ مهنة المعلم التي تأهل لها هي  رسالة كما الفن الذي ينقل أحاسيس الفرح والبهجة أيضاً رسالة.  فتكاملت عنده لتخرج لنا معلماو مربِّياً وفناناً يصنع الفرح .. فتغني للشاعر عبد الجبار عبدالرحمن من ريفي شمال الخرطوم قصيدته الرائعة “مكتول هواك يا كردفان”، التي ألفها في عام 1970م لتصبح نشيداً عاطفياً لكردفان وأهل السودان. تغنَّى للشاعر البدوي ابن المجلد دينقا أم الديار الموهوب فضيلي جماع “جيناك زي وزين هجر الرهيد يوم جفا”، وهي مناحة عاطفية حزينة تستبطن محنة فراق ديار الأهل الجميلة ومياهها وخضرتها وطيرها المترحل.. غنى الفنان عبدالقادر لحناً شعبيَّاً آخر يمتلئ  بالحنية ولوعة الحب “الليلة غاب تومي خلوني يا الخلائق”، إنَّه إيقاع حزين ملئ بالمعاني. غنى ليمون بارا الرمزية التي كادت أن تكون شعاراً وهتافاً اجتماعيَّاً .. غنى البسامة بلحنها الراقص التي عبرت عن الحراك في الفن الأفريقي.
رحل اليوم هذا الفنان الرائد، وترك الشباب محبيه محبي هذه الاغنية يبكون فراقه بدموع سخينة. وعن إبداعات عبدالقادر سالم يطول الحديث، بل هي سردية لإبداع وعصامية من يحمل رسالة. كان عبدالقادر سالم فناناً مبدعاً يحوِّل الكلمات إلى معنى فني يخاطب الوجدان، وطبول تجبرك على الرقص بعنف رشيق.. كيف لا وهو الذي يحمل درجة الماجستير ثم الدكتوراه من جامعة السودان – معهد الموسيقى والدراما عن أطروحته (الأنماط الغنائية بإقليم كردفان ودور البيئة في تشكيله ؛) لذلك جاء عطاؤه مسنوداً بأصول علم الموسيقى الذي كان الفارابي من مؤسسية.
حكي لنا أحد الإخوة له الرحمة كان قد رافق فرقة فنية كان ضمنها عبدالقادر سالم وطاقم فولكلور شعبي طافت أوروبا، وحققت نجاحا عظيماً، ونالت إعجاب كثير من الأوربيين، حكى، وقال إنَّه تمَّ نصب طبل النقارة على عتبة المسرح في موسكو، وطبل النقارة أداة  له طقوس وطريقة في النقر تجعل الضارب عليه ينفعل. وكان الذي يضرب عليه رجل بدوي مرح اقتحم المدنية والمدينة بالعرض عنوة..  ذو شطحات أحياناً، لا يمكن التحكم في تصرفاته، ويخرج عن النص والبروتوكول، وكان يربط على رأسه عصابة حمراء.  فنقر الطبل بانفعال، وقال بلهجة بقارية غليظة “اصنطوا زين هوي الشيوعية ولاد النقس اليوم نحن حُمر وأنتو حُمر”، بما يعني قد تلاقينا فنحن من المسيريه الحُمر وانتو ايضاً شيوعية حُمر”، فضج مشرفو الفرقة من السودانيين من حوله مستنكرين ذلك، لكن لحسن الحظ لم يفهم أحد ما قاله؛ مما جعل المشرفين يراقبون تصرفات ذلك البقاري بحذر.
تلك كانت من الجولات التي قادها وشارك فيها الفنان الراحل عبد القادر سالم، وطافت حول العالم، وحملت أسماء مثل ملك المردوم، ونجوم الليل، والخرطوم بلوز، ووقف إطلاق النار؛ بهدف  التعريف بالفن السوداني خارج الحدود. عبدالقادر سالم له من الإنتاج الفني ما يزيد على الأربعين أُغنية مسجلة في  الإذاعة السودانية، وما يزيد على العشرين أغنية مسجلة لدى التلفزيون السوداني، وأربعة البوم (CD (.
رحم الله الفنان الكردفاني الأصيل الخلوق الوفي لكل من تعامل معه، والمحب لوطنه وإنسانه، فهو صوفي الروح  زاهد عن المال والمظاهر المتكلفة، رغم أناقته وهندامه المرتب الجميل الذي يعكس تناسقه النفسي، واحترامه للذوق العام، فلم تكن تجده الا مكتمل المظهر. له الرحمة والمغفرة، وتعازينا لزوجته الصابرة آسيا المكي التي كانت مصدر إلهامه في كثير من ابداعاته الفنية، والعزاء موصول لبناته الدكتورة وجدان وتيسير وسماح ومعزة، وابنه محمد، ولكل الأهل في الدبيبات الكبرى والدلنج والأبيض، وكل قرى ومدن كردفان والعاصمة حيث سكنه ورحيله إلى جوار ربه من بانت بامدرمان ” إنَّا لله وإنَّا اليه راجعون”.                  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*