وجه ماكبِث وراء قناع سوداني: فنانون ومسرحيون في سوق نخاسة العسكر!

وجه ماكبِث وراء قناع سوداني: فنانون ومسرحيون في سوق نخاسة العسكر!
  • 12 فبراير 2021
  • لا توجد تعليقات

عبد الجبار عبد الله

على خُطى رهطِ الموسيقيين والفنانين الذين سخّروا موسيقاهم وحناجرهم لدق طبول الحرب على الجارة إثيوبيا وشعبها الشقيق، الذي طالما عشق موسيقانا وأغنياتنا وصدحت بها أصوات فناناته وفنانيه على مرّ الأجيال والحقب، تهافت في مطلع هذا الشهر فبراير 2021، رهطٌ من الفنانين المسرحيين لهثاً إلى إقامة شراكة “دنيّة” مع العسكر والجنجويد يعلمون مآربها وأغراضها الوضيعة الرخيصة.
وبهذه المناسبة أذكِّر فنانين “أوبريت جيشنا” بأن أثيوبيا كانت قد أعلنت الحداد رسمياً ونكّست أعلامها لمدة ثلاثة أيام حزناً على رحيل “فنان إفريقيا” وأسطورتها السودانية الخالدة، محمد وردي.

من قتل زميلكم الفنان خوجلي عثمان؟ من حارب وردي وشرّده إلى المنفى طويلاً خارج وطنه؟ من منع بث أغنيات مصطفى سيد احمد وعركي وغيرهما؟ من صادر حرية الإبداع على مدى ثلاثين عاماً من عمر الإنقاذ؟ من هو “رب الفور” وقاتل النساء والأطفال وهاتك الأعراض في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق؟ هل نسيتم أم تناسيتم يا عمر إحساس وعبد القادر سالم والتجاني حاج موسى وسيف الجامعة والكندي الأمين ومن لفّ لفّهم؟

وعلى المنوال ذاته حملت ماركة بضاعة المسرحيين البائرة التي يسوّقون لها مع العسكر والجنجويد عنوان مشروع (المسرح جسر السلام وعاء الإخاء) وزعموا وهماً واحتيالاً أنهم يتوخون فيه تجسيد قيم التسامح والسلام والخير والجمال! يا عيني … يا عيني … يا عيني.. يُخرج لهم لسانه سخريةً من قبره، الشاعر والمسرحي العملاق عمر الطيب الدوش، الذي شنّ عليه النظام البائد وزبانية أمنه وعسكره حرباً ضروساً شعواء لم تنتهِ حتى بعد مواراة جسده الطاهر في ثرى وطنه الذي طالما أبدع له وغنّى.

دفاعاً عنه في وجه قريبه الكوز العنصري الطيب مصطفى الذي ذمّ الدوش وشنّع به في رحيله، كتب صديقه الشاعر محجوب شريف كلمات قصيدته الباذخة:
“فكرهتموه”
نسيتا ؟؟
تنبُش حي وميت
سكاكينك تسنها بالكراهية
مُعلّم تُنتج الكُربة
وتدّي الفتنة ماهية
تدِس في إيدا كبريتة
بخيت وسعيد عليك إنك
مكانك من ذوي القربى
وعندك من كراسي السلطة
مسند للرفاهية
مالك ومال قريبك ساكن التربة؟؟
منو البسرق عشم ميت
أمام الله والحكمة الإلهية؟؟
يمين الله
كاتب حر
نسيج وحده
ومن طبعو الفروسية
وأصدق من ملامح طفلة
وسط اللمة منسية
عصافير الكلام ركت
تحت شهقة غُنا الفواح
مع الموجة الصباحية
أدّى الود
وشال الود
وجمّل للحزن ممشى
لا كذّب ولا غشّ
وما منو الضمير طشّ
وما شنّق
بريق الشُهرة من فوق راسو طاقية
أبسط من حرف كسرة
ومن بذرة
ومن نقّاع سبيل يوماتي
تشرب منو تحت النيمة قمرية
كذلك لم يكن يوماً
هُويّن قابلاً للكسر والذلة.

غني عن القول أن كل المسرحيين السودانيين القابضين على جمرة إبداعهم، والذين قلبهم على الوطن، يحذون حذو الدوش ومحجوب شريف وأبو عركي البخيت ومصطفى سيد احمد وغيرهم من المبدعات والمبدعين ذوي الضمير الحي والجباه العالية الشامخة التي لا تقبل الذل والانكسار، تلك النماذج الساطعة التي لم “يَطِش منها الضمير” يوماً ولم تغدر بشعبها أو تخيّب ظنه أو عشمه فيها، لم تمدح جلاديه لم تتملق أعداءه أو تمدُّ يدها مصافحةً أو طلباً لعطاياهم الملطخة بدماء شهداء شعبنا وخيراته المنهوبة.

ولن يَطِش ضمير الفنانين المسرحيين يوماً وهم قابضون على مشاعل “الصدق الفني” التي أوقدتها منذ باكر تخلُّق حركة المسرح العالمي الحديث عبقرية الفنان العملاق المؤسس لهذه الحركة: قسطنطين ستانسلافسكي. ووِفقَ مبادئ مدرسته الرائدة والراسخة إلى اليوم في فن التمثيل، فإن الصدق الفني -صدق الأداء وتجسيد الشخصيات على منصة المسرح- ليس سلعةً ولا يمكن شراؤه وإن كان بمال قارون كيزان السودان ولجانهم الأمنية ومليشياتهم العسكرية وجيشهم بكل شركات مضارباته الفاحشة الذميمة.

وقد صحّت نبوءة ستانسلافسكي هذه في كيزان السودان ومحاولاتهم الخائبة المتكررة على مدى ثلاثين عاما وحتى الآن شراء ضمائر الفنانين ومَجْمَر صدقهم الفني. فلم يرقَ كل ما أنتجته فرقهم الكثيرة “الهبطرش” بما فيها “نمارق” من أعمال موسيقية غنائية إلى مستوى أغنية أو حتى مقطع موسيقي واحد لمحمد وردي أو محمد الأمين وغيرهما من كبار الفنانين. ولعلّ أمسخ وأبيخ ما تغنى به عبد القادر سالم وغيره مؤخراً كلمات وألحان “أوبريت جيشنا”. وبالمثل لم تنتج فرقهم المسرحية مجتمعةً مسرحية واحدة في مقام “حُب على الطريقة السودانية” للفنان المسرحي الراحل الفاتح مطيع الذي مات غيلةً بغدر خنجر الهوس الديني.

الصدق الفني لا يُكرَى ولا يشترى أو يباع، مهما كان الثمن أو عطايا مُزيِّن الجيش أو الجنجويد التي يحاولون بها شراء الفنانين.

أما حلم بناء السلام والوئام والإخاء عبر مشروع شراكة وهمية مع الجيش والجنجويد، فهذا يصلح موضوعاً لمسرحية عبثية كوميدية تبحث عن مؤلف! آهِ لو كنت حياً تمشي بيننا جان جينيه أو يوجين يونسكو أو كبير العبثيين صمويل بيكيت.

وكما قال شكسبير عن نموذج ماكبث السوداني ذات مسرحية في عصره، فإن أمثال البرهان وحميدتي “لن تغسل أيديهم القذرة -المطلخة بدماء شهداء السودان، من مجازر الإبادة الجماعية وحتى مجزرة فض الاعتصام التي حدثت أمام القيادة العامة للجيش- كل مياه بحار العالم ومحيطاته”.

ولن يلد زَبَد بحار ماكبث السوداني -الوالغ في حُرمة الدم والمال السوداني- إلا زَبَداً مسرحياً وفنياً من جنسه وشاكلته.

وليذهب ببضاعته الرخيصة الهِباب من شاء من الفنانين والمسرحيين إلى بحار الزَّبَد والخواء العسكري الجنجويدي. فـ”الباب يفوّت جَمَل” كما تقول الحكمة الشعبية المأثورة في مثل هذا المقام. ولا يخفى على سماسرة الفن -مثلما الطفيليين والمضاربين والمتهافتين على موائد اللئام- أنّ في محاولات جرجرة الفنانين إلى قلاع العسكر يَكمُن المخطط العسكري الخبيث الرامي إلى كسر شوكة ثورة ديسمبر المجيدة والانتصار لقوى الردة والثورة المضادة عليها. ويعلم الفنانون -موسيقيون وتشكيليون ومسرحيون وأدباء وشعراء وغيرهم- ممن يفرشون بضاعتهم الرخيصة في سوق نخاسة العسكر، أن هناك أيدٍ خفية تخطط وتحفز وتوجّه لعبة التخريب البنيوي المنظّم للمجالات الفنية وتمسك بخيوطها من وراء الكواليس. وهي ذات الأيادي التي واصلت حربها على الفنون ومنابره ومؤسساته طوال ثلاثين عاما من عمر النظام البائد، لتأتي اليوم لتستخدم سلاح الفن نفسه ضد الفن وضد تطلعات شعبنا إلى الحرية والسلام والعدالة.

وهذه مناسبة نهدي فيها إلى جميع أفراد “كتيبة الدفاع الفني” من الدراميين مسرحية “السيد بونتيلا وتابعه ماتي” من أعمال برتولد بريشيت. ويمكن مشاهدتها مترجمة إلى العربية على قناة يوتيوب في نسختها المصرية بعنوان “على جناح التبريزي وتابعه قُفّة”.
كيف للفنان المسرحي أن ينمَسِخ إلى قِزم وأراجوز مهرّج أمام الجنرال؟ ليس هذا موضوع مسرحية بريشت بالذات، ولكنها تحكي عن أشكال “التبعية” والذل والانكسار أمام “السيد” عموماً. وليعلم الفاوستيون -نسبة إلى فاوست -غوتة- أن شيطان العسكر والكيزان الذي يبيعونه بضاعتهم ويموّل عروضهم المسرحية ومعارضهم التشكيلية ولياليهم الموسيقية، سيلوي ذراعهم الفنية ويفرض عليهم شروطه ويتحكم في “الرسالة الفنية” التي يرغب فيها الشيطان المموِّل. “أكلوا أخوان وتحاسبوا تجار” و”الحساب ولد”. هذه هي معادلة تمويل الشيطان العسكري الجنجويدي لأعمال الفنانين. وغافلّ من ظنّ أنها ستكون غير هذا: “أمسك لي وأقطع ليك” بَلا رؤية فنية… بَلا طنقعة فنانين ومَلَكية معاكم!
إن “لغوَسة” الوسط الفني واختراقه أمنياً ومالياً لا تنفصل من “اللّغوَسة” العامة التي دمرت بها الإنقاذ وزبانيتها كل مناحي الحياة السودانية وقطاعاتها، بما فيها الوسط الفني في جميع أنشطته.

ولئن عجزوا عن ترويض الفن لصالح برنامجهم الظلامي الكالح في أوج سطوتهم وهيمنتهم على مفاصل الحياة كلها طوال 30 عاما من حكمهم البغيض، فإنهم أكثر عجزاً الآن في ظل احتدام حدة الصراع بين قوى الثورة من جهة، وقوى الردة والتخلف والظلام في الجهة الأخرى. وفي لحظة تمايز الصفوف والفرز الثوري هذه، يظل ضمير الفنانين والمسرحيين والأدباء -كما كان دائماً- حياً متقداً كجمرة ثورة ديسمبر وهتافاتها الداوية التي أسهم الفنانون في صياغتها شعراً ومسرحاً ولوحةً ولحناً وموسيقى:

شهداءنا ما ماتوا عايشين مع الثوار
حرية سلام وعدالة

_مدنياااااااو

ويبقى الفن مرفرفاً محلّقاً بجناحيه عالياً عالياً في سماءِ الحرية ِ والإبداع ِوالجمال والصدق الفني.
عبد الجبار عبدالله،

7 فبراير 2021

التعليقات مغلقة.