الدويم “عروس بحر أبيض”
مدينة في خاطري وزمن جميل ليته يعود

  • 20 نوفمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي

✓ دائماً أذكر نفسي وغيري بأن الحياة رحلة قصيرة فى عمر الزمن ليستغلها المرء بالوجه الصحيح و للإلتزام والتدبر فى القيام بتنفيذ الواجب الرباني الذي خلق من أجله وكلف به. فالواجبات إضافة إلى البحث والكسب عن الرزق الحلال وأداء العبادات لكثيرة تتعدد ومن أهمها التعايش بالمحبة والتقدير والتسامح مع الآخرين. التعايش مع البشر تتحكم فيه ظروف كثيرة أختصرها في الأزمنة والأماكن التي يحددها الوجود …. البقاء…. والعدم. فهناك أزمنة تنعدم بعد موت سنواتها أو بعد زوال أمم وحضارات عاشتها، و من الأماكن كذلك ما يبقى أو يختفي كلية من الذاكرة بفعل النسيان أو بفعل الكوارث الطبيعية والفقر
✓ أو التصحر وتظل فقط تاريخاً يذكر أو تكتشف لاحقا ً بالصدفة آثارها بعد مئات أو آلاف السنين. وفى الحياة ما أصعبه تصحر العواطف أو الأدمغة أو تصحر ذات اليد وتيبس العناقيد التي كانت تتفجر بالثمار الحلوة وشهية . فإذا الشوق لماضي الزمان فى بلد ما كان نتيجة سوء واقع الحال المعاش أو تعدد ابتلاءات الزمن من تدهور إقتصادي وأمني أو فشل حكوماته بسبب فساد أو جبروت وسوء تخطيط إنه مؤشر خطير بأن ذلك البلد مهدد بالتفكك و الضياع وخيراته ستصير مستباحة للأقوياء من بلاد جشعة تتربص شراً خفياً أو غيرها من تماسيح المافيات العالمية . للأسف السودان هو وطن ماضية كان أجمل من حاضره وإقتصاده كان أفضل من حال اليوم ورفاهية مجتمعه خاصة الطبقة الوسطى كانت فى قمتها من الرحابة والتمدن. من هذا المنطلق وزمن أحن إليه ووجوه وأماكن وإن غابت عن الدنيا أتصورها أمامي وأشتاق إليها أكتب هنا من مخزون الذاكرة عن مدينة سودانية حظيت بزيارتها كانت فى زمنها صغيرة وادعة يضمها بحنية النيل الأبيض العريض المساحة، الجميل رونقاً وسياحة للنظر. زرتها في صباي ومن الحب لأول نظرة ما يقتل كما يقولون كان ذاك حبي وشغفي بتلك المدينة وإنسانها الطيب الراقي الكريم المضياف. أذكرهها وإن صار عهدي بها صار تاريخا مكتوبا فقط على صفحات الذاكرة لكنه أيضآ حبا لا يزال ينبض في القلب وعرفانا وشكرا لا تجف ينابيعه لكل أهلها الكرماء. إنها مدينة “الدويم” وما حولها، صورة لوحة جميلة كما قلت لا تزال تحتل مساحة مهولة في الذاكرة. أذكرها مدينة صغيرة وجميلة ، كان فيها القمر يبتسم رومانسياً ليلا والشمس حباً دافئا تشرق ضاحكة صباحا والناس التي تلتقيك في الشوارع والأحياء والأسواق كلها صبوحة وجوهها ونشوانة أساريرها ، وسر الحياة هناك هو ذاك “النيل الأبيض العريض الممتد ” الذي كما قلت يحتضن بحنية تلك الربوع الخضراء التي تحوطه شرقاً وغرباً فكان يمثل الروح والفؤاد والشموخ الذي كون إنسان الدويم، وهكذا كانت دنيا تلك المدينة كلها جنة رضوان ونعيم فردوس على أرض سندسية كانت تدعم إقتصاد الوطن بإنتاج الذهب الأبيض ” القطن طويل التيلة”.

فى محطة وقوف قصيرة ، عودة للماضي، الذي كثيراً ما نتحدث عنه ونصفه بالزمن الجميل وإن تخللته محطات صعوبات أو درجة ما كانت من شطف في العيش . لكن هذا لا يمنعنا عن تذكر وذكر المواقف الجميلة والأيام الطيبة وأناس كرماء يستحقون التوثيق بما جبلوا عليه من أخلاق رفيعة وتفاني فى خدمة الوطن لا يرجون جزاءاً ولا شكورا. لذا يحلو الحديث دائماً عن الماضى من الذكريات. ففى هذا المجال شخصياً أجد دائما متعة فى التعرض لتذكر أيام الطفولة والنشأة الأولى التي كانت أساس تكوين شخصية كل منا، و أعني العودة إلي الحديث عن مراحل الدراسة الأولية . السبب هو أننى لا أنسى الجهد العظيم الذى كان يبذله المدرسون آنذاك بكل مهنية وإخلاص وصدق من أجل تربية وتعليم وإنجاح تلاميذ مدرستهم والإرتقاء بسمعتها وكان هدفهم السامي فوق ذلك إعداد كوادر مستقبلية لتنهض بالوطن لكي يقف على رجليه ليلحق بل ينافس الأمم المتقدمة . قد سعدنا بلقاء الكثير منهم فكانوا نعم المعلمين والآباء. فالأستاذ مصطفى عبد الماجد “كمثال” من أبناء حى “حوش الدار” ببربر كان يتمتع بصوت طروب إذا قرأ القرآن أو أنشد قصيدة. أذكره وهو يحكى لنا فى مرة من المرات قصة “لعلها وهمية” عن شاب يدعى “محمد القِلَّيلْ” من أبناء “الدويم” المدينة التي أكتب الآن عنها وهي توجد جغرافيا بمنطقة النيل الأبيض جنوب الخرطوم. كان معلمنا يصف لنا وصفاً تصويرياً دقيقاً ومشوقاً لرحلة الطفل محمد القِليّل من “بخت الرضا” إلي مدينة الدويم وأثناء الحكي يترنم فيطربنا. بخت الرضا كانت معهد المدارس النموذجية لتدريب معلمى المدارس الإبتدائية طريقة التعليم وأصولها كما كانت تختار ما يناسب من مواد دراسية لتلك المرحلة الأساسية فتقوم بتأليف وطبع الكتب. رحلة الطفل تلك كانت عبر المزارع الخضراء، مزارع القطن الممتدة ثم مرورا بأشجار السنط والطلح المخضرة والشجيرات والأعشاب الكثيفة محازياً ضفاف النيل يجرى تارةً ويقفز تارةً ويترنم تارة بألوان مختلفة من”الدوبيت” شجية الألحان. الدوبيت نوع من الشعر النبطى من أربعة ابيات الذى يشتهر به البدو وحاديى العيس فى السودان يتغنون به فى حلهم وترحالهم خاصة وهم يركبون النوق البيض ممشوقة القوام حيث تُسيّرالقوافل براً الى مصر لتباع تلك الجمال هناك. عشت تلك القصة الخيالية مع محمد القِليّل وكأنها واقع معاش وكذلك سياحات أخري داخل الوطن عبر دروس الجغرافيا التي كانت حصتها متعة اليوم الدراسي . مرت بى الأيام والسنون حتى شاء الله أن أجد نفسي زائراً مدينة الدويم حيث كان أخى المجذوب عليه رحمة الله يعمل وقتها مديراً لفرع شركة عبدالمنعم محمد. تجولت فيها وعلى ضفاف النيل الأبيض و هبت علىَّ نسمات باردة فانتشيت وكأننى “بمحمد القِليّل” ذاك الصبى القوى يقفز أمامى هنا وهناك وقد إستهوته المروج الخضراء بطيورها الجميلة الصداحة ومن هناك صرت أخالني أسمع ألحان أستاذى ومعلمى “مصطفى عبدالماجد” بصوته الجميل وهو يترنم بما يحلو له من شجى الدوبيت وحلو النغم. ألا رحمك الله يا أستاذنا الصادق الصدوق معلم الأجيال بل كل الذين حملوا معك راية العلم عالية خفاقة فبجهدكم كان ذلك النور الذى ظل يضيئ طرقاتنا بل حياتنا كلها.
لكي تصل مدينة الدويم آنذاك عليك بحجز تذكرة مقدماً على البص السريع. كان مكتب الشركة يقع بالقرب من ميدان أب جنزير وسط الخرطوم وغرب شارع القصر. كنت بصحبة شقيقي محمد الذي كان فى السنة النهائية من كل الطب بجامعة الخرطوم وكنت حينها فى عطلة السنة الأولي للمدرسة المتوسطة. تم لنا حجز المقعدين الأماميين جوار السائق الذي يمنع التحدث معه أثناء قيادته السيارة وقد فعلنا. كانت توجد استراحة فى منتصف الطريق وحوالي الساعة الواحدة كان البنطون ” المركب العبار” ينتظر وعند الضفة الغربية إستقبلنا بالترحاب شقيقنا مجذوب (عليه وحمة الله) وكان يدير مكتب فرع شركة عبدالمنعم محمد للنيل الابيض. كان يسكن منزلا جميلاً من أملاك السيد أحمد فضيل. كان لأخينا مجذوب صداقات واسعة تمتد من ود الزاكي الي القطينة والكوة وأبوحبيرة و أم جر وشبشة وحتى كوستي. من أكثر أصدقائة آل ابشر ” محجوب ابشر وأحمد أبشر وإخوانهم وكثيرون من الهبانية وغيرهم، أولموا كثيراً فأكرمونا وحتى فى سوق الدويم العامر كثيراً ما أكرمنا فى حلواني غانم الذي كان مشهورا بالجودة ويقع فى الجهة الغربية من السوق . وبذكر الجودة كان يتوسط صحن السوق الكبير مصنع الجبن الأبيض ماركة “المايسترو” المشهورة بالجودة وكانت تعبئتها تتم فى صناديق صغيرة محكمة الإغلاق لونها أزرق ومصنوعة من الصفيح. وجوار مصنع الجبن كانت سينما الدويم التي حضرنا فيها حفل للفنان أحمد محمد عوض الذي يغني على ضرب الرق ويلبس دائما طاقية حمراء اللون. عدنا مرتين للسينما لمشاهدة أفلام كان يروج لها عبر مايكرفون محمول شخص يطوف شوارع المدينة على حنطور ومن خلفه يثبت بوستراً كبيراً يظهر بطل أو بطلة الفيلم. أجمل اللحظات أذكرها قترة تغير رول الشريط لإستمرار النصف الثاني المكمل للعرض حيث كان الفنان المرحوم عثمان حسين يصدح عبر مكبرات الصوت “انا مالي والهوى وريدتنا ومحبتنا وليالي هنانا” والشعوب الممكونة بالحرمان وعذابات القلوب المتيمة بالشجون تتمايل راقصة ولكل منهم ربما لحظة تأمل يسافر عبرها ويزور دياراً يصعب ولوج أبوابها أو حتى الإقتراب من شوارعها عله عبر شباك صغير وتحت ضوء فانوس خافت يلقى الحبيبة هناك وهي تخيط له منديل حرير. ( رحمة الله على الشاعر صلاح أحمد ابراهيم والفنان محمد وردي).
نادي المدينة يوجد فى ركن يؤمه في الليالي أهل المدينة وأغلب الموظفين خاصة المعلمون الذين يتلقون الكورسات بمعهد مبروكة وبخت الرضا. يلعبون الدومينو والورق. اكبر محل تجاري محل حمودي غربي مكتب شركة عبدالمنعم محمد. لا أدري ان كان لا يزال سر تجار تلك المدينة الراقية

منزل شقيقنا مجذوب كان محط طيور مهاجرة زمن الهجرة كانت داخل الوطن كان فيها أبناء الشمال والوسط جلابة فى كردفان ودارفور أو فى القضارف وكسلا وطوكر وبورتسودان. تلك الدار لا يخلوا ديوانها من العابرين فراداً أو جماعات بأسرهم وأطفالهم. من أصدقاء الشقيق مجذوب السيد محمد عبدالفتاح الكنزي والد صديقنا المخرج والممثل الدرامي عبدالفتاح. كان يدير مشروعا بمنطقة تسمى “بأم تكال” وكان عازباً، لذلك كأن يقضي عطلة نهاية الأسبوع بمدينة الدويم فى صحبة مجذوب. كان شخصية مرحة لا يمل جلوسه الناس لكن كان الشباب اللذين حضروا من بربر لحضور كورسات بخت الرضا ويسكنون مع شقيقنا يتضايقون من وجود عمنا الكنزي لأن مواضيع أنسهم تختلف. وصاروا يسخرون مستعملين عنوان الفيلم السينمائي المصري أنذاك ” فى بيتنا رجل”. وعند قدوم كل ليلة جمعة يقضون معظم ليلهم فى النادي يشربون نخبهم “الفانتا أو الشاي” وهم يرددون ” فى بيتنا رجل فى بيتنا رجل”. رحمة الله عليهم جميعاً

يا أهل الدويم الكرماء ويا أهل النيل الأبيض الأفاضل ويا بخت الرضا إن شاء الله عافيتكم وعافيتنا تدوم ونتهنا فى نعيم الدنيا و فى أنفسنا وأسرنا ويجمعنا سوياً صفانا. أهديكم المقطع المرفق أدناه الذي يعيد لي ليالي أنس وصحبة أيام صباى، ريدة ومحبة، صفاء ونقاء، ويذكرني بفسحة فاصل تغير بكرة الفيلم فى سينما بربر ( صورة طبق الأصل من سينما الدويم) وعثمان حسين كان فيها يغني ويطرب ويتراقص على أنغامه كل الحضور، فى الدويم وبربر لا فرق. حقاً كانت لنا أيام ليتها عادت أو عادت الصحبة وليالي السينما وحفلات عرس كانت على الرتاين والوجوه الصبوحة تنور ساحات ربوع الحي

drabdelmoneim@gmail.com

التعليقات مغلقة.