نساء فلاندرز

نساء فلاندرز
الطيب صالح
  • 21 نوفمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

منصور الصويم

“هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضّائعين،
ينتظرنَ الضّائعين الذين أبداً لنْ يُغادروا الميناء،
ينتظرن الضّائعين الّذين أبداً لن يجيء بهم القطار
إلى أحضان هؤلاء النّسوة، ذوات الوجوه الميتة،
ينتظرن الضّائعين الّذين يرقدون موتى في الخندق والحاجز والطّين في ظلام الليل.
هذه محطّة تشارنغ كروس. السّاعة جاوزت الواحدة.
ثمّة ضوء ضئيل
ثمّة ألم عظيم”.
بهذه الأبيات الشعرية، كشف مصطفى سعيد عن سره – شخصيته لراوي رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) “محميد!”، ويكمن الكشف في أن القائل تلا هذه المقاطع بلغة إنجليزية سليمة تتناقض مع ثقافته المفترضة من حيث المكان والمهنة وحتى السن، كما يكمن في دقة الاختيار الذي ينبئ عن حس ثقافي – شعري وإنساني رفيع تجلى في تلك اللحظة الحاسمة من جلسة المسامرة الخمرية التي جمعت الراوي بـ مصطفى سعيد.
“ينتظرن الضّائعين الّذين أبداً لن يجيء بهم القطار.. إلى أحضان هؤلاء النّسوة، ذوات الوجوه الميتة”، هل حملت هذه المقاطع الشعرية في لحظتها الكشفية تلك نبرة ندم شجني ينعى عبره م. سعيد نساءه الضائعات في الزمن الآفل واللاتي سيضعن في الزمن المقبل.. هل كان نعيا مبكرا من م. سعيد لروحه التي ستغيب في خضم فيضان النيل؛ مخلفا الانتظار والألم لـ “حُسناه”؟ هل كانت الأبيات رسالة سرية غامضة أسلمها سعيد للراوي الذي كان عليه فك طلاسمها بذكاء أكثر وتلافي مأساة الشهيدة حُسنة بت محمود؟
“ينتظرن الضّائعين الّذين يرقدون موتى في الخندق والحاجز والطّين في ظلام الليل”، بلا شك كان مستر م. سعيد – مثلما قدمه الطيب صالح – مثقفا فريدا من نوعه وإن حملت روحه العدمية بذرة فنائه وفناء من عشقنه من نساء. فهل استقرأ بحسه السياسي والاقتصادي – المتشائم مصائر النساء في هذه الأرض التي سيبتلعه ويغيبه ماؤها. هل مرر – في السهرة تلك – للراوي التربوي المثقف ولصديقه السياسي “محجوب” شفرة تعرض أحوال نساء البلاد بعد سنوات طوال حبلى بالحروب والنزوح والتشرد والاغتراب؟ نعم حُسنة ستموت أبشع ميتة وهي تنتظر “ميت الطين في ظلام الليل”، ونعم أن فورد مادوكس فورد – شاعر هذه الأبيات كان يخاطب بشاعة العالم في حروبه العبثية، لكن أوليس الحرب هي الحرب، والانتظار هو الانتظار، والألم هو الألم سواء أكان لدى نساء فنلدرز أو نساء الخرطوم أو نساء نيالا أو تلك القرية ود حامد.
“ثمّة ضوء ضئيل.. ثمّة ألم عظيم”، بانتظار النساء الآملات هناك في محطات القطار والموانئ، في حقول الذرة والسمسم، أمام نيران مواقد الشاي، وفي الحروب الدائرة أبداً.
“ينتظرن الضّائعين”..
*ارشيف

التعليقات مغلقة.