الجبوري وضعائن الحوازمة في ديار المسيرية الزُرقُ

الجبوري وضعائن الحوازمة في ديار المسيرية الزُرقُ
  • 29 نوفمبر 2023
  • تعليق واحد

على أحمد دقاش

نشر الفاضل الجبوري تسجيلاً صوتياً بخصوص عبور ضعاين من الحوازمة لديار المسيرية الزرق في غير المعتاد ، متجهة الى مصايفها في جنوب الولاية. حيث نصح في هذا التسجيل أهله المسيرية ، بحسن معاملة الحوازمة عند مرورهم بأراضيهم. وفي الحقيقة لقد أستدعى الجبوري كل الاعراف المعمول بها لدى العطاوة ولخصها في تسجيله الذي يرقى الى مستوى المبادرة. وإن ما ذكره الجبوري عرف عطوي أصيل ويأتي كذلك في إطار قانون “دالي” الذي سنه أحد سلاطين الفور العظام ، في كيفية التعامل مع القعيد أو المُستضاف لدى قبيلة ليست قبيلته. فالقانون أوعرف دالي ، يؤمن بعض الحقوق التي تُمكن المُستضاف من العيش بكرامة والإستفادة من كل خدمات القبيلة من حماية وتسهيلات ، بأعتباره واحد من أفراد المجموعة التي نزل بها ، بما يسهل دمجه في المجتمع الجديد. وروح هذا التشريع المتقدم تطبقه الآن الدول الاوربية والامريكية وكثير من الدول ألاخرى في استضافة المهاجرين اليها ، ويتسق تماماً مع مقاصد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
بالنسبة لموضوع التسجيل ، فإن الضعينة عندما تسير مثل هذا المسار الاضطراري يقال لها ” ضعينة كاسرة”. فالضعينة الكاسرة ، تتحرك في مواعيد غير معتادة ، وبمراحيل غير مألوفة. وعرفياً لها حقوق في المرور وإرتياد مناهل المياه والرعي والنُزل بما يُسمى ” دار أم ليلة”. وهذه ثقافة ومصطلحات يعرفها البدو. إن كوارث كثيرة قد تحدث إذا منعت الضعائن من العبور. ودوسة الحوازمة والكواهلة الشهر الماضي في أُم حجر والليمونة ، كانت بسبب قفل المُرحال الشرقي للحوازمة مثال لذلك. إذ ازهقت فيها أرواحاً عديدة، كان يمكن تفادي ذلك، إذا التزم الطرفان الأعراف التي يُعمل بها تاريخياً في مثل هذه الظروف ، والتي تفرضها طوارئ الحياة. كبار السن والعقلاء يعرفون ذلك جيداً. الحوازمة والكواهلة/ كنانة في المنطقة الشرقية تربطهم أواصر دم ونسب يراعونها دوماً في التعامل وتبادل المصالح. لكن شباب اليوم أحياناً يتجاهلونها بسبب النعرات العنصرية المستجدة فتقع الكوارث.


تسجيل الجبوري ، يمكن النظر اليه من عدة زوايا ، وذلك لكونه تطبيق لأعراف فيها حكمة، بل تجاوز ذلك فكان ترحيباً، وكرماً مسنود من كل قبيلة المسيرية الباسلة وناظرها الشهم الهمام الصادق الحريكة خريج جامعات الهند. أما زاوية النظر الثانية لتسجيل الجبوري ، ورغم أنه مشبع بالنخوة والاصالة، وإبداء حسن النوايا وكرم الضيافة ، لكن فيه مسحة من حزن وعاطفة إنسانية عميقه عبر عنها بلطف تجاه أهله الحوازمة. فقد تجنب الجبوري إستخدام تعبير” الضعينة الكاسرة ” لوقعه الحزين ، ومراعاة لظروف الحوازمة النفسية، وتلك لباقة وكياسة منه. رغم أن التوصيف الصحيح لحركة ضعائن الحوازمة عبر أراضي المسيرية هذا العام هو أنها “ضعاين كاسرة ” ولها ظروفها وما يبررها.
المسار ليس رحلة من دار الى دار فحسب. المسار ثقافة وتقاليد وأعراف، المسار حركة فيها كثير من المتعة والشقاوة الملزوذة. ورغم التعب الظاهر، لكنك تقرأ الفرح والرضى في وجوه الصغار والكبار. تتحرك الضعينة ويحدوها الشوق الى ديار المصيف في رحلة العودة. وكذلك إلى ديار المخرف في رحلة الرشاش. فهي حركة بندولية معروفة عند الحوازمة وكل البدو الرُحّل. فالفتيات يعبرن عن ذلك ويغنين بفرح وسرور في الليالي المقمرة وفي ذلك ينشدن:
الخريف صب هناك في بلد جنقى الرقاق … إن قالوا عجمي بسير معاك سلاما بالانقلاب
لأهمية حركة الرُحّل شمالاً وجنوباً، فقد أنتبهت الدولة الوطنية وقبلها المستعمرمبكراً ، فرتبت مع الإدارات الأهلية ذات العلاقة ، لتحديد مراحيل حركة الرُحّل ومناطق نُزُلهم ومناطق رعيهم ، لمنع حدوث إحتكاك بينهم و المزارعين حيث تمرُ المراحيل. ومعروف أن الخريف عندما ينحسر ويتركز هطوله في الجنوب يكون ذلك هو زمن الأوبة الى المصايف في الصعيد، حيث تتجه الضعائن بشوق الى التيجان الخضر وأراضي الحريق ( القنجاج) في الجنوب والصعيد.
الضعينة الكاسرة ، تسير مساراً مضطرباً عبر مرحالاً غير مألوف، مبتعدة عن خطر متوقع. وهذا ما حدث بالضبط لضعائن الحوازمة هذا العام التي شقت ديار المسيرية ، بعد أن انسحب الجيش من بعض ارتكازاته في جنوب كردفان ،وأغلقت الحركة الشعبية طريق الأسفلت الذي يربط بين الدلنج وكادوقلي ،وتبع ذلك تغييرحركة النقل. وهو ذات خط مرحال العودة جنوباً لبعض قبائل الحوازمة. وتلك قضية بحاجة إلى حوار جاد ،وإن تجاوزها الحوازمة بحكمة مؤقتاً، بالكسرة عبر ديار المسيرية الزرق غرباً.

عندما تكسر الضعينة ، تكون الناس عادة متحفزة مشدودة الأعصاب، مستعدة للهيعات والطوارئ. وقد تسير وفق تراتيب فيها الكثير من الحذر ممتشقة سلاحها ، باثة عيونها وطلائعها وهذا ما نبه له الجبوري ، وإن كان الحذر صفة ملازمة لحياة البادية عموماً. إن كلمة ” الضعينة جات كاسرة ” نفسها لها وقع مؤلم وحزين. فالضعينة تكسربسبب مرض فتاك كأبي دميعه ،أو حادث قتل فيه ثأر ، كما حدث لبعض المسيرية في الستينات في حروب الغزايا وولاد هيبان. حيث كسر البعض الى ديار الحوازمة واستقروا بها ( العمدة قادم ابو خرس وحاشي أبو دقل). وبقوا مع أحفادهم بديار الحوازمة حتى اليوم ، واندمجوا معهم. والكسرة دواعيها كثيرة ، وقد تكون بسبب خطر يتهدد حياة الناس في المرحال الذي ألفوه. وكلمة “كسرة ” تذكرنا بكسرة مجتمع أُم درمان بعد معركة كرري مع المستعمرالإنجليزي فخرجوا غرباً وجنوباً.
تغيير المرحال عند العطاوة عيب وهم يقولون ” ما بنخرس المرحال”. وهناك روايات كثيرة في هذا الخصوص، قد يحسن الحديث عنها أخونا حامد إسماعيل الكناني، وقد لا يسمح المجال لي للخوض فيها ، خاصة قصة مرحال أم لوبيا. وذلك لما تتضمنه من تفاصيل سُجلت من بعض كبار رواة التاريخ الشفاهي للقبيلة، والذي في رأي ، لابد من معالجته وتحقيقه بطريقة علمية لتوثيق بعض الحقائق.
منع أو قفل المرحال/ المراحيل جريمة ، لا تتسق مع مسألة المواطنة، ولا الأعراف المنظمة للعلاقات البينية لمجتمعات المنطقة، ولا يقبل به الرُحّل. لأنه يضر بمصالحهم وحقوقهم ، وإن تجاوزوا ذلك في بعض الاحيان بمثل هذه الحلول المؤقته. لذا ننبه ، بأن لا يعتبر الأمر قد أنتهى. بل يلزم فتح حوار جاد، يؤسس لمعالجات مستدامة لمسألة المراحيل، لتفادى ما لا يحمد عقباه.
التحية والشكر للأخ الجبوري ، فقد كان نبيهاً سباقاً في تنشيط الاعراف والتقاليد المجتمعية التي تنظم الحياة، وتعزز روح التكافل والتضامن . نعم لقد أثبت أنه إبن بادية مدرك لثقافة التعايش المجتمعي، وهذا موقف يسجله له بدو الحوازمة نقشاً على حجر. ونقول لنظارة المسيرية العريقة وناظرها الشاب الصادق الحريكة ، ما الحوازمة والمسيرية إلا مكملين لبعض في السراء والضراء وعامل قوة في النسيج الاجتماعي لأهل المنطقة وكل الوطن العريض ، والعز والمنعة لمواطنه الصابر وغد أحلى لوطن يسع الجميع.

رد واحد على “الجبوري وضعائن الحوازمة في ديار المسيرية الزُرقُ”

  1. يقول ابوسجي:

    كلام جميل وملئ بثقافات اهل البدو اجزيك الله خيرا علي هذا المقال الرائع
    ابوعزام