قرينلو: حدود التمثيل المعماري واستمرار حياة المباني في ساحل السودان

قرينلو: حدود التمثيل المعماري واستمرار حياة المباني في ساحل السودان
  • 13 يناير 2024
  • لا توجد تعليقات

د. بدرالدين حامد الهاشمي

Greenlaw’s Suakin: The limits of architectural representation and the continuing lives of lives of buildings in coastal Sudan
Nancy Um نانسي اوم
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة مختصرة لقليل مما ورد في مقال يتناول بالنقد البناء كتاب “مباني سواكن المرجانيةThe Coral Buildings Suakin ” لجان بيير قرينلو Jean – Pierre Greenlaw. نُشِرَ هذا المقال في العدد الرابع في المجلد الرابع والأربعين من مجلة “الفنون الإفريقية African Arts” الصادرة في شتاء 2011م.
ونانسي أوم – بحسب ما ورد في صفحتها في الشبكة العنكبوتية https://nancyum.com/ – هي المديرة المساعدة للأبحاث وخلق المعرفة في معهد جيتي Getty للأبحاث. ويركز برنامجها البحثي على الفن والهندسة المعمارية والثقافة المادية في جميع أنحاء المحيط الهندي والبحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية، مع التركيز على التجارة والتبادل الثقافي في أوائل العصر الحديث. ويزخر مقالها بعشرات الرسومات والخرائط والصور (منها لوحة للفنان التشكيلي إبراهيم الصلحي عنوانها “Ruins of Suakin خَرَائب سواكن” كان قد رسمها بألوان الماء في نهايات خمسينات القرن الماضي).

أما قرينلو (1910 -1982) فهو هو أول رئيس للقسم العالي للفنون في المعهد الفني (يسمى الآن كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا). وقد سبق لعدد من الفنانين والمعماريين والنقاد وغيرهم الكتابة عن سِفر قرينلو الذي تناول مباني سواكن المرجانية ومعمارها الإسلامي؛ وكان منصور خالد هو أحد هؤلاء.
https://rb.gy/dkbphr
المترجم


على الرغم من حالتها المدمرة، إلا أن الهندسة المعمارية لسواكن معروفة عالمياً، خاصة بين علماء الآثار وأولئك الذين يعكفون على دراسة المباني المحلية وطرق بنائها. وقد تُعزى تلك الشهرة العالمية بصورة كبيرة إلى الكتاب المصور المعنون “مباني سواكن المرجانيةThe Coral Buildings Suakin ” الذي ألفه الفنان قرينلو (1910 -1982م) وأصدره في عام 1976م، ونال من بعد ذلك شهرة دائمة. وقد صدرت طبعة أخرى من الكتاب في عام 1995م حوت مقدمةً وبعض العناوين الجانبية الجديدة. ووجد الكتاب في طبعته الأولى إشادة كبيرة، ووصفته الأنثروبولوجية الأميركية سوندرا هيل بأنه “أفضل عمل ينشر باللغة الإنجليزية عن تاريخ الفن السوداني”، وأعتبر مصدراً مهما لمعمار مناطق العالم العربي ذات الصلة بسواكن، وبالبحر الأحمر وشرق أفريقيا والمحيط الهندي. واحتفظ النص بمفرده تقريباً بذاكرة التقليد المفقود للبناء العامي/ المحلي المشترك في منطقة ما، وذلك بفضل ما فيه من مخططات مرسومة يدوياً، وارتفاعات، وأقسام، وتفاصيل معمارية للمنازل والمساجد والهياكل.
وتمثل هذه الدراسة مساهمةً تتعلق بالنظر المدقق إلى الصور التي تملأ الكتاب، والتي لا تعد – في حد ذاتها – من الأعمال العلمية الرصينةscholarly ، ولكنها مع ذلك ظلت بمثابة مصدر كلاسيكي لهندسة المدينة التي تهدمت الآن. إن إعادة تقييم مشروع قرينلو البصري الأوسع، الذي لم يكن مجرد جهد وثائقي شفاف، جاء الآن في الوقت المناسب لعدة أسباب. كان قرينلو قد جاء إلى السودان عام 1936م للعمل في معهد بخت الرضا لإدماج الرسم والأعمال الحرفية في منهج المدرسة الأولية. ثم صار شخصيةً رئيسية في نظام التعليم الاستعماري السوداني وعالم الفن. وكان من أهم ما أنجزه في السودان هو إنشاء “مدرسة التصميم School of Design” في كلية غوردون عام 1946م، وهي أول برنامج للفنون على مستوى التعليم العالي بالبلاد. وفي تلك المدرسة عمل مع مدرسين آخرين مثل شفيق شوقي وعثمان وقيع الله لتدريب الطلاب السودانيين الفن والتصميم. وكان من أشهر هؤلاء طالبه الأثير إبراهيم الصلحي، والذي سيغدو لاحقا هو فنان “مدرسة الخرطوم” الأول، وأشهرهم بلا ريب. والآن، وبعد أن تم الاعتراف بتراث زملائه وطلابه السودانيين في إعادة كتابة الفن الحديث المعوّلَم، فقد حان الوقت لعمل دراسة عن هذا المصلح التربوي والمرشد البالغ التأثير.

وبالإضافة لذلك، فقد بدأت جماعات من علماء وخبراء الآثار (والمعمار) وغيرهم من السودان وخارجه بالعمل في “مشروع سواكن” منذ عام 2002م. وهذه مبادرة حكومية قامت بالإشراف على عدد من عمليات الاستكشاف والحفريات والتنقيب في مواقع بسواكن من أجل اعداد معالم مختارة لإعادة إعمارها (بأكثر من الحفاظ عليها) وتحويل سواكن إلى وجهة سياحية مهمة. ولا ريب في أن خبراء التراث سيلجأون لسفر قرينلو وما يحويه من الصور والرسومات العديدة، وهم يسعون لمعرفة أفضل الطرق لإعادة بناء المدينة للجمهور المعاصر. ولهذا السبب، فإن التصاوير والرسومات التي ظهرت في كتاب “مباني سواكن المرجانية” تتطلب الفحص والتدقيق الشديد.

ومن أجل فهم نهج قرينلو تجاه مدينة سواكن، ينبغي على المرء أن ينظر عن كثب إلى أهداف الفنان المعلنة، والتي تحدد اتجاه سير هذا المشروع. وكما أوضح قرينلو، فإن الصور التي التقطها لم تكن تصورات للمدينة التي لوحظت في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي عندما كان قد أمضى بعض الوقت هناك؛ بل كان ينوي تمثيل المدينة وهي في ذروة مجدها، والتي حددها بأنها مطلع القرن العشرين. وعلى هذا النحو، يُعد الكتاب بمثابة تخليد أو “نصب تذكاري” حقيقي لعظمة الماضي، كما أسماه عالم الآثار ب. اس. جارليك، مع استعادة المنازل إلى حالتها الأصلية، وعودة قوافل الجمال لشوارع المدينة المزدحمة والعامرة بالحركة والنشاط.، ولمخازنها الممتلئة بالسلع المتنوعة التي لا ينقطع سيل إمداداتها. وكانت الفترة القصيرة نسبياً التي قضاها قرينلو في سواكن، هي فترة توقف في غضونها النشاط التجاري بالمدينة، وكانت أغلب المباني بها قد تعرضت للهدم؛ ولذا فلا بد من أن يكون تصور تلك المشاهد قد ارتكز على قدر معين من إعادة الاكتشاف المتخيل أو إعادة الابتكار الإبداعي (imaginative reinvention). ولكن بالنظر إلى أن النص لا يحتوي على حتى صورة فوتوغرافية واحدة، فمن الصعب أن نضع منهج قرينلو البصري الاسترجاعي في الاعتبار عند متابعة تلك الرسومات. وبالضرورة، يتداخل ماضي المدينة وحاضر الفنان بسلاسة في الرسومات التفصيلية الدقيقة التي يبدو أنها تعتمد على قدرة الملاحظة المباشرة. ويغدو الانفصام الصارخ بين العينات التي شهدها الفنان وبين الموضوعات التي ظهرت في رسوماته المنشورة واضحاً جلياً فقط عندما يشاهد المرء صور قرينلو التي لم تظهر في مجلده المنشور. فعلى سبيل المثال، أظهر قرينلو ديوان (غرفة جلوس) بيت الباشا – الذي ذكر أنه أحد أقدم بيوت سواكن – وهو في حالته الأصلية الزاهية وخالٍ من السكان، وأظهر أيضاً الكثير من التفاصيل المعمارية به. غير أن صورة ذلك البيت تكشف عن بنيان مختلف جدا تملأ الأنقاض ديوانه، ويفتقر إلى السلامة والتركيب الهيكلي.

وكان قرينلو قد غادر السودان عام 1951م، ولكنه عاد بعد ذلك إلى سواكن مرتين للتأكد من دقة رسوماته قبل نشر كتابه. ولعله أدرك في غضون زيارتيه القصور الذي شاب توثيقه للمدينة وسجل بالفعل في مقدمته أنه لا يعد ما في كتابه هذا من رسومات على أنها مصادر وثائقية، بل يعتبرها مجرد “أعمال فنية ذاتية” يمكن تقديرها فنياً لما فيها من محاسن ومزايا بصرية. ولإخلاء المسؤولية عن قدرته كرسام، أكد أن “اهتمامه كان اهتماما جماليا بشكل أساسي، ولم يكن يولي اهتماماً، في البداية، بالدقة المتناهية في التفاصيل والقياس”. وإضافة إلى ذلك، ذكر أنه اعتمد في هذا الجهد على تدريبه كفنان، وليس كمساح. غير أن تنصلاته / تنازلاته disclaimers من المسؤولية – في الدقيقة الأخيرة – تتناقض مع ما استخدمه من ذلك النهج البصري الذي استخدمه في رسوماته، خاصة فيما يتعلق برسم المخططات (plans)، ورسمات الارتفاع على مستوى عمودي (elevations)، والرسمات المقطعية (sections)، والتي تحمل أعراف المخططات المعمارية المقاسة مثل فتحات النوافذ، وأجنحة الأبواب، وعلامات الاتجاه، والمقاييس، محسوبة في كل من النظام المتري ووحدة القياس المحلية. وعلى الرغم من حنينه المعلن إلى الأهداف الجمالية، فإن صور المباني المرجانية تبدو للمشاهد المعاصر بحسبانها مصادر وثائقية لمدينة تتم مراقبتها عن كثب. ودأب الخبراء المعاصرون على استخدامها بهذه الصورة بشكل خاص، إذ أن الناس يرجعون للصورة بأكثر مما يرجعون للنص.
غير أن بعض الذين استعرضوا أعمال قرينلو (مثل قارليك، ومثل جورج اسكانلون، أحد معماري القاهرة الإسلامية، أثاروا العديد من التساؤلات حول دقة رسومات قرينلو، إذ أنه لم يكن باستطاعتهم التحقق منها بالأمثلة الموجودة، ولم تكن مصحوبة بالصور الداعمة لها. وفي عام 1992 قدم عالم الآثار الألماني كَثِيرُ التَّدْقِيق فريدرك هنكل (الذي كان قد قام بمسح لسواكن في عامي 1968م و1976م) نقداً جاداً ومستمراً لرسومات قرينلو التقنية، ووصفها بأنها محض “تحريفات خيالية”. وشدد هنكل على أن قرينلو كان قد استخدم في معظم أعماله مقاسات تقريبية، وشوه سمات معمارية رئيسية. غير أن هنكل أشاد أيضاً بالمعلومات التي وردت في عمل قرينلو عن التفاصيل المعمارية بمباني المدينة، وقال إنها مفيدة جداً في عملية إعادة تشييد تلك المباني. وأكد نقاد آخرون لاحقا صحة ذلك النقد ذي الوجهين.

ولما ذُكر أعلاه، فإني لم أقرأ رسومات قرينلو تلك عبر العدسة التي قدمها صاحبها (بحسبانها في الأساس عدسة جمالية متشبعة بالحنين إلى الماضي). ولكني سأقاوم أيضاً ترديد ما ذكره الناقدون لأعماله، بالتشديد على ما أعترى توثيق قرينلو من عدم التزام بالدقة المطلوبة. وأود أن أشرح منطق مشروع قرينلو البصري بشكل أكبر، بهدف فهم الظروف التي تم في ظلها إنتاج تلك الرسومات. وفي الأساس، لم يكن هدف قرينلو المتمثل في إعادة مدينة شبه مدمرة تقريباً إلى حالتها الماضية يتضمن حذفاً بسيطاً للتغييرات اللاحقة في بنية سواكن، أو عملية إعادة بناء مباشرة لمبانيها التي انهارت. وأرى أن رسومات قرينلو لم تكن “خاطئة” كما زعم بعض النقاد، ولكنها تمثل تحديات إغلاق الحياة الزمانية (temporal life) للمباني في مدينة ديناميكية قاومت ذلك الإغلاق الحتمي، حتى وهي في أوج عزها المفترض.
خلاصة المقال: رؤية مغايرة لسواكن
ينبغي علينا أن نذهب لأبعد عن غلافي كتاب “مباني سواكن المرجانية” لنلقي نظرةً على رؤية مراقب آخر هو إبراهيم الصلحي، أشهر طلاب قرينلو، الذي رسم في أواخر الخمسينات لوحة (بألوان الماء) بعنوان “Ruins of Suakin خَرَائب سواكن”. وليس من المستغرب أن تلهم تلك المدينة خيال ذلك الرسام. وكان قرينلو قد ذهب بطلابه (وعدد من الأساتذة) من الخرطوم في رحلة إلى سواكن، ضمن رحلات ميدانية لمناطق أخرى بالسودان في الأربعينيات والخمسينيات. وزار الطلاب كل البيوت والأماكن (المشهورة) في سواكن ودرسوا عن كثب تفاصيل مبانيها وطرق تزيينها. وكان الصلحي قد ذكر في مقابلة أجريت معه في 2002م أن “الطريقة التي كان قرينلو يرى بها العالم كان لها تأثير كبير عليه”. وذكر الصلحي أيضاً أن قرينلو وشفيق شوقي وعثمان وقيع الله كانوا هم من شكلوا شخصيته (الفنية) إبان فترة تدريبه. وبينما يمكن فهم هذه اللوحة بحسبانها “تكريما” لأستاذه المبجل، يقدم العمل الفني الذي قدمه الصلحي عن سواكن منظوراً متميزاً بشكل صارخ عن مفهوم قرينلو. وعلى عكس الصور الأحادية اللون التي رسمها قرينلو، والتي بدت مرممة بشكل كبير، ولكنها مفصلة بشكل انتقائي لعمارة المدينة، تظهر لوحة مدينة /ميناء الصلحي من خلال قطع معمارية (تكتونية tectonic) منحوتة ومهدمة، مع كتل من الأرض الرمادية، وبقايا معزولة من أعمدة بيضاء كريمية اللون. غير أن قرينلو “أصلح” في رسوماته ما كان قد تهدم من مبانٍ، وحذف بعض أنواع التغيير الحضري الذي حدث بالمباني، غير أن الصلحي رأى تكويناً للمخلفات الهيكلية، مقراً بأن سواكن غدت صياغة بصرية جديدة للآثار الخلابة. في تصاويره، تصارع جرينلو مع تأثيرات الزمن على نسيج المدينة، واجْتَهَدَ من أجل إعادة تمثيل المدينة في لحظة اعتباطية، لكنها مبنية بشكل متماسك في ماضيها. ومن ناحية أخرى، بدأ أن الصلحي استمتع بالمدينة التي شهدها مدينة وهي مدمرة ومتهالكة وتوشك أن تختفي من الوجود. (أشارت الكاتبة في الحاشية إلى منظر آخر مهم لسواكن، تضمنه فيلم صُور في سواكن بعنوان “انتزاع الكهرمان”. وفي حين أن (مخرج الفيلم) حسين شريف، مثله مثل الصلحي، كان يصور مدينةً مدمرةً، إلا أن فيلمه يصور ويحكي عن مدينة يسكنها الناس، وليست خالية من الحياة البشرية. المترجم).
تمثل لوحة الصلحي المائية الحياة المستمرة والمؤثرة بصرياً لمبانيها المرجانية في سواكن بعد نهاية أيام الميناء وهي في عز مجدها. وحتى اليوم، لا تزال سواكن قريبة من مرحلة استرداد نهضتها السابقة. وإذا نفذت المخططات المقترحة لذلك، فسيتم إعادة تجهيز مبانيها مرة أخرى وإعادة تعريفها لجماهير جديدة، مما يطيل من عمر الحياة البصرية الطويلة والمتنازع عليها في المدينة.

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.