حروب السودان لم تبدأ في أبريل 2023م بل بدأت في “توريت” في العام 1955م

تمرد “توريت” الشرارة الاولى:
معلوم أن حروب السودان لم تبدأ في 15 – أبريل – 2023م بل بدأت في “توريت” في العام 1955م عندما إندلعت إنتفاضة عسكرية وقعت في 18 – أغسطس – 1955 في مدينة “توريت” بجنوب السودان، وتوسعت لتشمل مدنًا أخرى، وبدأ التمرد بسبب الشعور بالتهميش والظلم ضد الإدارة السودانية الشمالية.
وكانت أبرز أسباب التمرد: التهميش السياسي للجنوبيين، وتحديداً في الخدمة العسكرية، ووقتها شعر الجنوبيين أن معظم الجنود في الجيش السوداني بجنوب السودان كانوا جنوبيين، لكن الضباط شماليين، فحصل توتر إزاء ذلك، فضلاً عن الفوارق الاجتماعية والتعليمية، الأمر الذي زاد الإحساس بالظلم، بجانب القمع العنيف، حيث قامت القوات الشمالية وقمعت التمرد وقتلت وأعدمت مئات من الجنود الجنوبيين.
وأشعل تمرد “توريت” الشرارة الأولى للحرب الأهلية السودانية الأولى التي استمرت حتى عام 1972، مما أدى إلى عقود من الصراع والانقسام في البلاد، وبسبب التمرد لجأ كتير من المتمردين وهربوا للغابات أو عبروا حدود أوغندا والكونغو، ويُعتبر تمرد “توريت” الشرارة الأولى التي فتحت الطريق لحرب أهلية طويلة إمتدت منذ العام ( 1955 وحتى 1972) وإستمر التمرد لفترة (17) عام.
وأدى القمع الذي مارسه الجيش السوداني إلى انعدام الثقة، ورسّخ الانقسام بين الشمال والجنوب، وأضعف فكرة الوحدة الوطنية قبل إعلان الاستقلال في يناير 1956م وفي 27 – فبراير – 1972م تم التوقيع على إتفاقية (أديس أبابا) بالعاصمة الإثيوبية بين حكومة جمهورية السودان وحركة تحرير السودان وأنهت الإتفاقية الحرب الأهلية السودانية الأولى، والتي إستمرت لفترة (17) عام وفقد فيها الجنوبيين نحو نصف مليون مواطن، وتشير بعض التقارير إلى أن عدد الضحايا من المدنيين الجنوبيين بلغ أكثر من “500” ألف مواطن.
ضحايا عنبر جودة:
بعد مرور “6” أسابيع فقط على الاستقلال فُجع السودان بواحدة من أول وأبشع المجازر التي شهدها تاريخه، وهي مذبحة عنبر جودة التي إستمرت في الفترة من (16 إلى 23 – فبراير – 1956) وفقد السودان في هذه المجزرة حوالي “300” روحٍ طيبة، من المزارعين العزل، وقتلت “150” روحاً من هذه الأرواح برصاص قوات الشرطة السودانية، وقتلت “194” روحاً منها خنقاً في عنبر صغير، غير مستعمل، للأسلحة في مدينة كوستي.
الحرب الأهلية الثانية في الجنوب:
وبعد مرور “10” سنوات تقريباً على إتفاقية أديس أبابا، إندلعت الحرب الأهلية الثانية في جنوب السودان، بعد أن أعلنت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، بقيادة الدكتور “جون قرنق ديمبيور” في 16- مايو – 1983م عن تأسيسها وإنطلاق الرصاصة الأولى لثورتها المجيدة، رفضاً لما آلت اليه اتفاقية أديس ابابا 1972، نتيجة ممارسات نظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري وخرقه للاتفاقية، وإستمرت الحركة الشعبية في نضالها لفترة “22” عام، وتعتبر الحرب الأهلية الثانية من أطول وأعنف الحروب في القرن حيث راح ضحيتها نحو “2” مليون مواطن وتشير بعض التقديرات إلى أن الضحايا بلغ حوالي مليون و”900″ ألف مدني، وبعد تاريخ طويل من النضال وقعت الحركة الشعبية مع نظام الإنقاذ على إتفاقية السلام الشامل “نيفاشا” في عام 2005م إلا أن الإتفاقية لم تعالج أزمة جنوب السودان، وأدت إلى إنفصال الجنوب.
جبال النوبة والنيل الأزرق:
وبعد أن أسس القائد الملهم الدكتور “جون قرنق ديمبيور” في 16- مايو – 1983م الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، خرج من الإطار التقليدي الضيق، وإنفتح بحركته الجديد إلى رحاب الوطن الفسيح مبشراً بمشروع السودان الجديد، وأسس قطاعين للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في المنطقتين ” جبال النوبة، والنيل الأزرق” منذ وقت مبكر، وشهدت المنطقتين طوال الحرب الأهلية الثانية التي إمتدت لأكثر من “22” عام إنتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، وقتل في منطقة جبال النوبة أكثر من “500” ألف مواطن، فيما قتل في النيل الأزرق الالاف من المواطنين العزل.
شرق السودان على خط الأزمة:
ومنذ أمد بعيد ظل شرق السودان، ولفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية، وظلت الحروب والجوع والفقر تفتك بشعب شرق السودان، ومات الالاف من أبناء شرق السودان بسبب الحرب التي شهدها الإقليم، ولكن بعد أن وقعت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق اتفاقية “نيفاشا” وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف باتفاقية “سلام شرق السودان” في العاصمة الأرترية أسمرا في 14 – أكتوبر – 2006م ولم تعالج الإتفاقية مشكلة شرق السودان، وتناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان، بعد أن كانت ثلاثة حركات رئيسية فقط هي “مؤتمر البجا والأسود الحرة وجبهة الشرق” ليصل عددها إلى “8” حركات مسلحة، وجميع حركات شرق السودان المسلحة الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع الجيش السوداني، في الحرب التي تشهدها البلاد، وبعضها لا يزال في إريتريا، ويؤكد هذا الواقع بأن شرق السودان سيشهد مستقبلاً كارثة وأزمة سياسية وعسكرية لم يشهدها الإقليم من قبل بسبب تعدد الجيوش والمليشيات العسكرية بشرق السودان.
التطهير العرقي والإبادة الجماعية في دارفور:
وتسبب التهميش الممنهج وسياسات الحكومات المركزية التي تعاقبت على حكم السودان، في إندلاع التمرد بإقليم دارفور في عام 2003م والذي قادته حركتي تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، والعدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل إبراهيم، وأدّى الصراع الدموي في الإقليم إلى أكبر كارثة إنسانية في العالم، ومقتل أكثر من “300” ألف مواطن وتشريد أكثر من “2” مليون نازح موزعين على أكثر من “60” معسكر للنازحين بدارفور، وأكثر “1” مليون لاجئ في شرق تشاد وبعض البلدان الأخرى، وتم حرق أكثر من “4” ألف قرية في إقليم دارفور، وبسبب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي والابادة الجماعية التي إرتكبها نظام الانقاد بحق شعب دارفور إتهمت المحكمة الجانئية الدولية الرئيس المخلوع عمر البشير وعدد من رموز نظام الإنقاذ بإرتكاب الجرائم المذكورة سابقاً في دارفور وطالبتهم بالمثول أمامها، وإبان أزمة دارفور كان الرئيس المخلوع عمر البشير إعترف بأن عدد الضحايا في حرب دارفور “10” ألف فقط، فيما لازالت الحرب مستمرة في دارفور ولفترة “22” عام منذ عام 2003م وحتى الان.
ويؤكد الواقع التاريخي أن حروب السودان، التي تجاوز عمرها سبعة عقود من الزمان، لم تبدأ في أبريل 2023م بل بدأت في “توريت” في العام 1955م بسبب التمرد الذي إستمر لفترة “17” عام، وقتل في هذه الحرب أكثر من “500” الف مواطن، وبعدها بدأ عنف الدولة المركزية ضد شعبها، وإرتكبت أول حكومة وطنية مذبحة راح ضحيتها أكثر من “300” مواطن أعزل فيما عرفت بمذبحة “عنبر جودة” وتواصلت الحرب الأهلية الثانية في الجنوب، والتي بسببها قتل أكثر من “2” مليون مواطن، فضلا عن مقتل أكثر من “500” الف مواطن بجبال النوبة، ومقتل الالاف بالنيل الأزرق، وإمتدت الحرب لتشمل شرق السودان، وبعدها إنتقلت إلى إقليم دارفور الذي أرتكب فيه نظام الإنقاذ جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية في دارفور.