بين يدي مؤتمر الشلال الثالث حكايات عن الدفوفة والطرابيل

عندما زار المؤرخ المعروف أرنولد توينبي السودان وكتب كتابه “بين النيجر والنيل” عام 1974 قال: “المديرية الشمالية لم يبق فيها الكثير من الثروة المادية، فاستعاضت عن ذلك بوفرة في الثروة التاريخية”. ويبدو أن المؤرخ الكبير أحاط بعلم التاريخ لكنه جهل علم الجغرافيا، ولن يعرف أن وزارة الطرق السودانية سوف ترصف شارعًا في طريق دنقلا أرقين وتحته ثلاثة أميال من الأحجار الكريمة!
ما يلفت النظر أن ثلة من العلماء هرعوا إلى الولاية الشمالية ليس للاستثمار في الذهب والعقيق، بل للاستثمار في الوفرة التاريخية التي تتميز بها المنطقة.
بعد أيام يلتئم مؤتمر الشلال الثالث في “كوكا المحس”، وهذا حدث جدير بالانتباه والاهتمام.
يرأس المؤتمر البروفيسور علي عثمان محمد صالح الآثاري ذائع الصيت مع كوكبة من العلماء والمختصين. وقد تلقينا منه بعض أخبار هذا الملتقى العلمي النادر، ومعها نسخة من كتاب “النوبة رواق إفريقيا” للأمريكي ويليام آدامز، وكنت تعرفت على الكتاب في أصله باللغة الإنجليزية حين أقمت في شقة مفروشة بالعاصمة الماليزية، أراد صاحبها أن يزودها بقيمة مضافة فأقام فيها مكتبة صغيرة. في تلك الشقة تصفحت الكتاب الذي كنت أسمع عنه. وويليام آدامز عمل مستشارًا علميًا لمصلحة الآثار الإسلامية، وأسهم في اكتشاف وتسجيل عدد من الآثار، وكان على رأس فريق أجرى حفريات في جزيرة (كُلُب).
وأرجو قبل أن أمضي صعدًا لإلقاء الضوء على المؤتمر أن أقول شيئًا عن صلة بسيطة لي بالآثار في الولاية الشمالية. يوم كنا صغارًا نرعى الغنم في خلاء القرية كنا نخاف الاقتراب من حائط قديم على تلة. وقد دخلت إلى ذلك المكان الذي كنا نسميه (بيت الجن)، فوجدت رسومًا بديعة على الجدران، ما كنا نعرف أنها للعذراء والمسيح عليهما السلام. هذا المكان عرفت أنه موقع أثري مسجل باسم دير مسيده.
فيما بعد أصبحت مسؤولا عن الآثار في الولاية بحكم إسناد وزارة التربية والتعليم لشخصي، فكنت أهتم بالتعرف على هذه الآثار وأعطيها جزءًا من زياراتي التفقدية. وذات مرة لاحظت أن بعض المحليات تمنح تراخيص ببناء المنازل فوق المواقع الأثرية، ووجَّهت بمنع ذلك، وتصدّيت في بعض زياراتي لذلك عندما وجدتهم بالفعل قد “رموا الأساس لبناء مساكن”.
أحسست أن الوعي بأهمية الآثار بين غالب المواطنين لم تزد عن وعي ذلك الصبي الذي كان يرعى الغنم في خلاء القرية. ووجدت في مناطق الأهرامات أنهم يطلقون عليها اسم (الطرابيل). ومع أن الكلمة تدل على معنى جميل في اللغة، فإنها تحمل ظلالا من المعاني غير الحسنة. ورأيت في جوار هذه الآثار مخلفات تدل أنها مكان ـ أكرمكم الله ـ لقضاء الحاجة!
لما حصل اختلاف بسيط بين وحدة كرمة النزل الإدارية ووحدة أرقو حول أيهما أحق بأن تكون مقرًا لرئاسة المحلية، بادرتُ باقتراح في حكومة الولاية أن تكون المحلية في منطقة وسطى وهي البرقيق، وأن يكون اسم المحلية “محلية الدفوفة”. وجد المقترح قبولا غير أن المواطنين لم يرتضوا الاسم، بعد أن أذعنوا لقيام المحلية في البرقيق.
وعودة للمؤتمر ومحاوره، فهو ليس للتاريخ والآثار فحسب، بل تشتمل محاوره على العمران واللغة والبيئة والسياحة. وقراءة بعض عناوين البحوث المقدمة تدل على التنوع؛ فهناك بحث عن آثار وتاريخ وعمران فترة ما قبل التاريخ، ودراسة مقارنة ما بين إقليم الشلال الثالث وإقليم البحر الأحمر. وورقة عن الأسماء الجغرافية معانيها ودلالاتها التاريخية. وهناك ورقة عن التعدين العشوائي، وورقة عن التراث الشفوي واللغة.
والمؤتمر يرعاه مجمع طه وابنه توفيق الخيري. لفتة بارعة أن يسهم العمل الخيري في مثل هذا النشاط العلمي الثقافي، يستحقون عليها الشكر والتقدير. الشائع أن المؤتمرات تسعى لاستقطاب الرعايات الرسمية حتى تحظى بالاهتمام الإعلامي وبالرعايات التجارية حتى تجد المال اللازم.
ولعل في قيام هذا المؤتمر ما يشير إلى مغزى مهم، وهو اتباع طريق لا ترصد فيه ولا تبلد، ذلكم هو طريق الثقافة والعلم الذي ينأى عن توترات السياسة، ونحن نعلم ما يرتبط باسم الشلال الثالث (كجبار) من خلفيات سياسية أقعدت بالكثير من قضايانا المجتمعية التي تتجاذبها السجالات المتطرفة جهوية كانت أم مذهبية أم اثنية.
ولا شك أن التوجه العلمي الثقافي يضفي على العمل الوطني المعنى والروح والدلالة، فلا يمكننا أن نتقدم ونتطور بدون خلفية ثقافية وعلمية تؤطر نشاطاتنا، ذلك أن الفضاء العلمي والثقافي هو المجال الأرحب الذي يخرج بعملنا من شرنقة النظرات الضيقة. إن العمل الوطني هو في الأساس حوار أفكار يقوم على التعاون والتفاهم، لا على الغضب والشعارات والصدامات الصفرية.
وهذه الخلفية العلمية هي التي تُعلي من إحساسنا بالمكان الذي نعيش فيه، ويزيد ارتباطنا العاطفي به، في زمن يزداد فيه النزوح وتزداد فيه الهجرة ودواعي الاغتراب. ولا نجد أكثر من البروفيسور علي عثمان محمد صالح صاحب مبادرة المؤتمر؛ يمنحنا هذا الإحساس.
تداولنا ذات مرة مع البروفيسور علي نظرته إلى هذه المنطقة من بلادنا، فسألته أسئلة مباشرة، فمما قاله لنا إن منطقة الشلال الثالث هي المقصودة بكوش؛ بل إنه يتحدث عن بلدته نَوْري وقلعتها ومشكيلة على أنهما كانتا مشرعًا للمراكب التجارية، وكانت نوري كذلك حتى انتهاء تجارة النهر التي راحت في القرن العشرين. يقول البروفيسور علي: “ذلك الميناء كان نشطًا وكذلك القلعة كانت نشطة جدا في طفولتنا، و قد قامت فيها وحولها القرية التي ولدنا فيها و[مسيدها] الذي اشتهر باستقبال الضيوف من جنوب المحس وشمال و وسط دنقلا، مناطق بناء المراكب التجارية”.
وقد نرجع إلى مرويات أستاذنا البروفيسور علي في وقت لاحق، ويكفي الآن انتهاز فرصة قيام هذا المؤتمر لتجديد الصلة الثقافية والحضارية بهذه البقعة من الأرض؛ الأرض التي تغزل فيها العالم الأمريكي آدامز حين ذكر صناع الحضارة من النوبة وخصائص تفردهم، ومنها أن صروح النوبة المعمارية تتميز بتفرد وغرابة أحيانًا، والدفوفة هي الوحيدة من نوعها في الوجود.