الإسلام هوية السودان التي لا يمكن اقتلاعها — وهي هوية لا ترتبط بالكيزان ولا بالتنظيمات السياسية

الإسلام هوية السودان التي لا يمكن اقتلاعها — وهي هوية لا ترتبط بالكيزان ولا بالتنظيمات السياسية
  • 27 نوفمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

محجوب إبراهيم الخليفة

من يقرأ تاريخ السودان بعمق يوقن أن الإسلام لم يكن طارئاً عليه، ولا وافداً مسلحاً، ولا مشروعاً سياسياً تسلّط على الدولة والمجتمع، بل كان —منذ أكثر من ألف عام— هويةً ثقافية وروحية شكّلت الوجدان الجمعي، وامتزجت باللغات المحلية، والعادات، والطرائق الصوفية، ووسائط التعليم التقليدي، ومرحلة الممالك الإسلامية في الفونج والفور، ثم في سائر الأطراف شمالاً وشرقاً وغرباً.
هذا الإسلام السوداني المتجذّر ليس هو «الإسلام الحركي» الذي يرتبط بالصراع على السلطة، ولا هو الإسلام المؤدلج الذي ظهر في القرن العشرين من رحم التنظيمات السياسية. إن الخلط بين الهوية الدينية الطبيعية للشعوب وبين مشاريع التنظيمات العقائدية هو من أكبر الأخطاء التي تورّطت فيها بعض القراءات السطحية للسودان.
الحركية الإسلامية الحديثة..سياق معقّد ودور القوى الدولية
     ————————-
▪️عندما  يتناول الباحثون نشأة الحركات الإسلامية السياسية الحديثة، فإنهم يشيرون إلى سياقات تاريخية أوسع من حدود المنطقة. فمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبروز الحرب الباردة، دفعت القوى الكبرى —وخاصة بريطانيا ثم الولايات المتحدة— إلى استخدام الدين أحياناً كأداة تعبئة في مواجهة المدّ القومي واليساري.
هذا لا يعني أنّ كل الحركات صنيعة استخباراتية، ولكنّه يبيّن أن بعض القوى الدولية استثمرت في نمو اتجاهات دينية سياسية معيّنة، ودعمتها مادياً أو استخبارياً، أو غضّت الطرف عنها، ما جعل «الإسلام الحركي» جزءاً من لعبة دولية أكبر من مجرد صراع داخلي.
وقد وثّقت أبحاث أكاديمية غربية أن أجهزة الاستخبارات استخدمت التيارات الدينية السياسية في صراعات دولية، من أفغانستان إلى العالم العربي، ثم تخلّت عنها أو تركتها تنفجر في لحظات معينة لتُستخدم ذريعة للتدخل أو لإعادة تشكيل الخرائط.
هذه حقائق معروفة في أرشيف الدراسات السياسية، وتظهر بوضوح أن ظاهرة التطرف ليست نبتة دينية بقدر ما هي، في جانب كبير منها، نتيجة تلاعب القوى الكبرى بخرائط النفوذ.
السودان بين الإسلام الحقيقي والإسلام المؤدلج
—————————-
▪️السودان —قبل ظهور التنظيمات السياسية التي احتكرت الخطاب الديني— عرف إسلاماً تقوم ركائزه على:
1- التسامح
ينتشر الإسلام السوداني عبر الطرق الصوفية التي جعلت المحبة والإحسان جوهر العلاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان وأخيه.
2- اللاعنف
لم يُعرف عن المؤسسة الدينية التقليدية في السودان أنها تبنّت العنف سبيلاً، بل كان التعليم الديني يتم في الخلاوي والكتاتيب، بعيداً عن الصراعات السياسية.
3- احترام الحقوق
في الفقه السوداني المحلي وتقاليده القبلية توازن واضح بين سلطة المجتمع وحرية الفرد، وهو ما جعل الدين إطاراً أخلاقياً وجامعاً اجتماعياً لا أداة قمع أو مصادرة.
ولهذا فإن ربط الإسلام السوداني بالعنف أو التطرف ظلمٌ مزدوج: ظلمٌ للإسلام نفسه، وظلمٌ للسودان الذي لم يكن يوماً مصدراً لصناعة الإرهاب، بل كان مصدراً لصناعة الإنسان المتسامح.
السودان في العالم.. سفراء لنشر الإسلام المتحضّر
—————————-
العالم الذي يرى السودان من زاوية الجماعات المتطرفة يجهل تاريخاً كاملاً من الإسهام السوداني في نشر الإسلام في أرجاء العالم بروح المحبة والوسطية. ومن أبرز الشخصيات التي يجدر التذكير بها:
ساتي ماجد
—————-
وُلد عام 1883م في دنقلا – شمال السودان، في أسرة من القضاة والعلماء الشرعيين.
هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية في مطلع القرن العشرين (توجد خلافات حول سنة الوصول، بين 1904 – 1912م) بهدف نشر الإسلام والدفاع عنه.
أسّس أول جمعية إسلامية للسودانيين والمسلمين في أمريكا، وبدأ نشاطه الدعوي في مدن مثل نيويورك وديترويت وبفلو.
ركّز في دعوته على الإسلام كهوية عادلة تدعو للسلام وترفض العنصرية والتمييز.
عاد إلى السودان بعد سنوات من العمل هناك، وتوفي عام 1963م.
يُطلق عليه أحياناً «شيخ الإسلام في أمريكا الشمالية»، تقديراً لدوره في ترسيخ الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة.
أحمد سوركتي
——————
وُلد حوالي عام 1875م في منطقة دنقلا في السودان.
درس العلوم الشرعية في السودان ثم في مكة والمدينة.
انتقل إلى جزر الهند الشرقية (إندونيسيا حالياً)، حيث عمل معلماً ثم أسّس جمعية الإرشاد، إحدى أبرز مؤسسات الإصلاح الديني في المنطقة.
دافع عن مبدأ المساواة بين البشر ورفض التمييز الطبقي والعنصري.
كان من رواد النهضة الفكرية الإسلامية في جنوب شرق آسيا، وترك أثراً لا يُمحى في التعليم والفكر والدعوة.
من أبرز الدعاة السودانيين في المهجر – مثال للدعوة الوسطية محمد بدوي
—-‐———–
▪️عالم ومثقف سوداني يعيش في أوروبا منذ التسعينيات، في مدينة كونستانتس الألمانية.
متخصص في اللغويات واللغة العربية، وعمل على تعزيز الهوية الثقافية للسودانيين والمسلمين في أوروبا.
أسس مشروعاً تعليمياً وخدمياً يخدم الجاليات السودانية والعربية، ويهدف إلى الاندماج الإيجابي دون فقدان الهوية.
يستخدم الفن والثقافة واللغة كجسور للتعريف بالسودان والإسلام، ويقدّم نموذجاً للاعتدال والانفتاح والحوار.
أن تُتَّهَم الضحية بالجريمة..سوء فهم العالم للسودان
————————–
▪️من المؤسف أن يُنظر إلى السودان —الذي كان ضحية لسياسات التطرف التي صُنعت في مطابخ قوى دولية— على أنه مصدر الإرهاب. السودان نفسه عانى من الجهاديين والمتطرفين، وعانى من توظيف الدين في السياسة، وعانى من تشويه هويته الحضارية.
إن تصوير السودان باعتباره «أرض تطرف» يشبه تماماً اتهام الطرق الصوفية بأنها جماعات سياسية، أو اتهام التعليم التقليدي بأنه بيئة للعنف. إنه تجنٍّ على تاريخ طويل من الاعتدال.
السودان… هوية إسلامية عصية على الاقتلاع
————————
▪️الإسلام في السودان ليس شعاراً سياسياً، ولا غطاءً أيديولوجياً، بل هوية حضارية:-
▪️لم تصنعها الأحزاب.
▪️لم تفسدها الانقلابات.
▪️ولم تستطع التنظيمات المؤدلجة أن تحتكرها أو أن تغيّر جوهرها.
محاولة ربط الإسلام السوداني بالكيزان أو بالحركات السياسية يشبه محاولة ربط نهر النيل بمشروع ريّ صغير: النهر أسبق، وأقوى، وأعمق.
▪️السودان بلد إسلامي الهوية، أفريقي الروح، عربي اللسان، صوفيّ المزاج، إنساني الرسالة. وهو بلد كان —ولا يزال— واحداً من أنقى روافد الإسلام المتسامح في العالم.
أما الجماعات المتطرفة التي نشأت في دهاليز الصراع الدولي، ثم وُظفت لتخريب المجتمعات، فليست امتداداً لإسلام السودان، ولا تمثله، ولا تعبّر عن مستواه الأخلاقي والروحي.
السودان سيظل —برغم جراحه— أرض الإسلام الهادئ الذي لا يظلم ولا يقهر ولا يعتدي…
إسلام الأخلاق، لا إسلام المخابرات.
إسلام الإنسان، لا إسلام التنظيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*