الهدنة المرتقبة وصعود الصوت المدني.. فرصة للسلام في السودان

الهدنة المرتقبة وصعود الصوت المدني.. فرصة للسلام في السودان
  • 25 نوفمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

محمد الأمين عبد النبي

يبدو المشهد السوداني اليوم مهيأً أكثر من أي وقت مضى  لطرح جاد لمسألة وقف الحرب، بعد أن تراجعت سردية الحسم العسكري وبدأت الحاجة إلى هدنة مؤقتة تفرض نفسها على الجميع سيما على طرفي الحرب اللذين استنزفتهما الحرب، وعلى القوى السياسية التي تبحث عن نافذة للحوار، وعلى المجتمع الدولي الذي يدرك أن استمرار الحرب يعني مزيداً من الانهيار. ورغم أن الهدنة كأداة سياسية غالباً ما تكون رهينة المخاطر، إلا أن جدواها لا تُقاس فقط بوضع القوات على الأرض، بل تتحدد اساساً بميزان الإرادة السياسية، وتعقيدات المشهد، ونوايا الأطراف، ومدى التزامهم الصادق بإنهاء الحرب.

وعليه، فالهدنة المرتقبة ليست مجرد وقف نار مؤقت، بل فرصة سياسية نادرة تتداخل فيها مصالح الفاعلين الخارجيين الذين باتوا جزءاً لا يتجزأ من معادلة الحرب. ومن هنا يبرز السؤال الجوهري هل تُعد الهدنة مجرد بداية لمسار تفاوضي محدود، أم أنها تعكس حسابات استراتيجية أعمق، تمهّد لعملية سياسية شاملة كما أشارت الرباعية؟ إن الإجابة تفرض تقييم الهدنة وفق أهدافها العملية في تحسين الوضع الإنساني وفتح المسار السياسي ووضع أول حجر في طريق إنهاء الحرب نهائياً. وهذا كله مشروط بتصميم عملية تفاوض محكمة وبيئة مؤاتية تسمح بالحوار السياسي، في وقت أصبح استمرار القتال فيه أكبر معوّق لبناء الثقة.

ويأتي لقاء ترامب وبن سلمان في هذا السياق محملاً بدلالات لا يمكن تجاهلها، فالترحيب الواسع باللقاء يعكس إدراكاً عاماً بأن الأزمة السودانية بلغت مرحلة تتطلب تدخلاً مباشراً من مراكز التأثير الاقليمية والدولية. وقد منح اللقاء خطة الرباعية دفعة نوعية، لا سيما أنه يتسق مع رغبة السودانيين، ومع طموح الرئيس ترامب في تسجيل إنجاز دبلوماسي جديد في اطار حرصه على الظهور كصانع سلام يدفعه إلى اعتبار الملف السوداني أولوية، وإن كان اختراقه لن يكون سهلاً، فهو يتطلب استخدام نفوذه على طرفي الحرب وعلاقاته مع دول الرباعية إضافة إلى أدواته المتنوعة في الضغط السياسي، الحوافز الاقتصادية، العقوبات، وتأثيره في المؤسسات الدولية.

ومع وجود بقية دول الرباعية، التي تملك نفوذاً مباشراً على المتحاربين، تتعزز فرص الدفع بعملية سياسية حقيقية. فهذه الدول تمتلك أوراقاً يمكن من خلالها ضبط إيقاع الحرب وتحفيز الأطراف على التفاوض، فضلاً عن قدرتها على توفير غطاء دبلوماسي متين لأي اتفاق.

ومن المنتظر أن تضطلع وساطة الرباعية بدور محوري في صياغة وتنفيذ اتفاق الهدنة، عبر تحسين قنوات التواصل مع الأطراف السودانية كافة، وتشكيل عملية تفاوضية تستند إلى تشخيص دقيق لطبيعة الحرب. أما الوسطاء ذوو التأثير الفعلي على القوى المتحاربة فهم حجر الأساس في جلب الطرفين إلى طاولة التوقيع وضمان تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وصولاً إلى بقية بنود خطة الرباعية التي تعالج جذور الأزمة وليس أعراضها.

لكن العامل الخارجي مهما بلغ تأثيره لن يحسم المسألة وحده، فلا سلام مستدام من دون إرادة وطنية جادة، ولا هدنة قابلة للحياة إذا لم تُدعَم برؤية واضحة لمعالجة جذور الأزمة. فالصراع السوداني، بطبيعته المركّبة وتباين الأهداف الاستراتيجية فيه، يتجاوز حدود وقف إطلاق نار مؤقت، ويحتاج إلى مفاوضات جادة، وإلى تنازلات حقيقية، وإلى دعم دولي منظم حتى لا ينهار أي اتفاق عند أول امتحان.

وبالنظر إلى حجم الخسائر التي تحمّلها السودانيون على مدار ثلاث سنوات، يبدو سيناريو الهدنة هو الأقرب للتحقق في المدى القصير، إذ يوفّر للجميع فرصة لإعادة تقييم موازين القوى وإمكانية الدخول في مفاوضات تقود إلى سلام دائم.

لقد غذّت سرديات الحرب نزاعات الهوية، ورفعت منسوب الكراهية، وأطلقت موجات من التحشيد القبلي، فأوصلت البلاد إلى حافة الانفجار. كما استفادت تلك السرديات من ضعف الوعي السياسي والتلاعب بمشاعر المواطنين عبر خلق عدو خارجي متوهَّم أو شيطنة قوى الثورة والتغيير، في ظل غياب صوت مدني موحد قادر على كبح هذا المسار الخطير.

أما اليوم، فتبدو الكفة تميل بوضوح لصالح القوى المدنية الرافضة للحرب، وهي القوى التي  تمثل الشرعية الشعبية الحقيقية. وقد بدأت قوى كانت منحازة في السابق لمعسكري الحرب، تعيد النظر في مواقفها بعد أن أدركت أن استمرار الحرب يهدد بقاء الدولة ويعرض النسيج الاجتماعي لخطر التشظي. ومن أبرز مؤشرات هذا التحول الترحيب الشعبي بخطة الرباعية،  والاستعداد المتزايد للانخراط في حوار سوداني– سوداني. ومن شأن هذه الديناميكيات أن تفضي إلى ظهور كتلة مدنية صلبة قادرة على قيادة مسار السلام.

ولتعزيز فرص النجاح، تحتاج القوى المدنية في المدى القريب إلى إعادة الاعتبار للعمل السياسي، وتكثيف الخطاب الداعي لوقف الحرب، وتفعيل برامج التثقيف المدني التي تُعلي قيم السلام والعدالة والديمقراطية، وتفكك السرديات العنيفة التي غذّت الحرب. وعلى المدى المتوسط، عليها الاتفاق على قواعد واضحة للّعبة السياسية، تُبعد السلاح عن المجال العام وتستبدل منطق القوة بمنطق الحوار. أما على المدى الطويل، فالمطلوب عقد اجتماعي جديد ومشروع وطني يضع حداً نهائياً لدائرة الحروب ويعيد بناء الدولة على أسس راسخة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*