رحلة عصافير الخريف
لم تكن الصحف والمجلات الورقية يومًا مجرد أوراق تُقلب، بل كانت «قعدة صباح» كاملة: كباية شاي بالنعناع، صفحة أولى، وخبر يفتح النفس… لكنها اليوم تتراجع عن عرشها أمام عالم رقمي لا يعرف الصبر، ولا ينتظر بائع الجرائد.
الأرقام تُحسم الجدال: عدد قرّاء المطبوعات هبط من 2.1 مليار عام 2017 إلى توقعات بـ 1.4 مليار هذا العام، في طريقه إلى 1.1 مليار فقط بحلول 2030. وفي الجهة المقابلة، ترتفع موجة القرّاء الرقميين إلى 1.7 مليار قارئ بحلول العام نفسه. إذن فالمعادلة واضحة: الكلمة هاجرت من الورق إلى الشاشة.
الهجرة لم تكن اختيارية؛ فالهواتف الذكية صارت «حلّة المعلومة» الجديدة سريعة، جاهزة، ومتاحة في كل يد. ومع انتقال الإعلانات إلى الإنترنت، خسرت المطبوعات مصدر رزقها الأساسي. في الولايات المتحدة وحدها، تراجعت عائدات إعلانات المجلات من 10 مليارات دولار إلى 4.3 مليارات، متجهة إلى 3.2 مليارات بحلول 2030. والنتيجة؟ إغلاق مطبوعات، وبُعد الصحف عن الريف والهوامش، وخسارة ما لا يقل عن 77% من الوظائف الصحفية خلال عقدين.
وكعادتها في الكثير من الأشياء، كانت الهند الاستثناء اللافت؛ بلد ما يزال يمسك بالجريدة مع فطور الصباح. ربع القرّاء هناك ما زالوا يشترون مجلات مطبوعة، بدافع ثقافي واقتصادي، وبأسعار اشتراك زهيدة.
في السودان، وفي الخليج أيضًا، لم نعد نرى «ست الشاي» تضع الصحيفة فوق الصينية كما كان يحدث أيام زمان. أصبح الخبر يأتينا كـ«نوتيفيكيشن» قبل أن يكمل السائق حركة المرور.
ومع ذلك… ليست الأزمة موتًا بقدر ما هي إعادة ميلاد. الصحافة ستبقى ما دام هناك من يطلب الحقيقة. لكنها تحتاج إلى أن تتصالح مع الزمن الجديد: محتوى عميق، منصات محترفة، ودعم حقيقي من القارئ. فالورق قد يذبل… لكن الصحافة لا ينبغي لها أن تموت.


