النهايات الكبرى والبدايات الأكبر

“نحن شعب السودان” نحن البديل (١)

“نحن شعب السودان” نحن البديل (١)
  • 14 يناير 2018
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله جلاب

نعم “نحن شعب السودان” على موعد مع التاريخ. نحن الآن مع هذه اللحظة الثورية القابضة بزمام الحداثة. اذ أوكلنا للأحدث والحداثة طريقة وطريقاً لتواصلنا. الآن كل شيء صلب يذوب في الهواء. الآن نري قوة اللاعنف ظافرة في وجه العنف. تهزمه وتجرده من أداته الوحيدة والفتاكة. وبذلك يصبح العنف هوية قاتلة لذاته. لقد ظل نظام الإسلامويين يمارس كل أنواع العنف البدني والجماعي واللفظي بعد أن حول دولته إلى أداة قائمة بالعنف ضد السودانيين على مختلف مواقعهم وأعمارهم وتوجهاتهم. وبذلك أقام للشر دولة. لم يكتف النظام بتوزيع العنف على السودانيين بلا تساو، بل حاول أن يزرع الرعب على القلوب بالتساوي. لا أحد بمنجى من عنف النظام. وجاءت اللحظة التاريخية لتكشف كيف يمكن لقوة اللاعنف أن تفسد كل أساليب دولة العنف، وتجرد الاستبداد من سلاحه الوحيد، وهو العنف؛ لتجعل من النظام وأهل النظام وسيد النظام يقفون عراة إلا من هلعهم الذي ظل ملازماً لهم منذ اليوم الأول لانقلابهم المشؤوم. الآن وغداً يمكن أن نقول لأنفسنا جميعاً نحن السودانيين وللعالم أجمع: إن الثورة ليست بالضرورة التغيير عن طريق العنف. كما أن نظام الحكم لا يمكن أن يكون قائماً أو يظل مستمراً عن طريق العنف. الثورة تأتي دائماً عن طريق تقديم مشروع الحداثة. مشروع “نحن شعب السودان”، وذلك في اتساق وتناغم كامل وجهه الخاص في طريق التحرر بإسقاط النظام القائم أولاً، ومن ثم يمتد إلى التحرر وتغيير النظام القديم بأكمله متمثلاً في دولته القائمة على العنف، وفي اصلها القائم على الأفكار والممارسة الشمولية. “نحن شعب السودان” يفتح الباب واسعاً من أجل ابتكار أساليب متجددة من أجل الوصول بمشروع التحرر إلى غاياته الأسمى القائمة على ابتداع نظام جديد يقوم على واجبات ومقتضيات حقوق وواجبات المواطنة وحرية وكرامة الإنسان ومسعاه نحو السعادة والرفاهية. وبذلك فإن مشروع الحداثة مشروع مفتوح ومتجدد يدخله المواطنون كافة، كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته. إذ هو ليس بالأمر الجامد أو هو بالأمر المكتمل من البداية. هو طريق مفتوح. ويظل مفتوحاً، ويتكامل بجهد المجتهدين الجماعي، ويرحب بالاجتهاد باعتبار أن كل مجتهد مصيب. والحداثة أيضاً أن يتأمل الإنسان الحياة دون شروط مسبقة أو جبر أو قهر، وأن يعيش نتاج تأمله ذلك دون قهر. وذلك ما يعني في الأساس حرية التفكير، والاختيار، وديمقراطية الاختيار، والفعل والمشاركة.

“نحن شعب السودان” لنا الآن أن ننظر إلى تجربتنا الإنسانية في تكاملها. ولكن لنا أن ننظر الآن وبوقفة ضرورية إلى الامر الآني الأهمية، وذلك منذ دخولنا ذلك القرن العشرين الطويل. لقد كان المدخل لذلك القرن الطويل هو تلك البداية التي تأسست عندها وفيها دولة قامت على درجة عالية من العنف الذي أهدرت فيه دماء السودانيين بشكل هز ضمير الإنسانية.
وقد شهد على ذلك من لا يعتقد بأنه كان على أي عاطفة مع السودانيين بأن جنود الغزاة قد شحنوا بفكرة أساسها ان أي فرد من أفراد العدو الذي هم مقدمون على مواجهته غير جدير بالحياة. ولذلك فقد كان الذي يرضي كتشنر هو أن يكون هناك العدد الأكبر من القتلى والأقل من الأسرى.

لقد قامت أركان تلك الدولة كنظام عسكري واصل فيه ونجت العنف ضد السودانيين، وبذلك ابتدع نظاماً للحكم يقوم على إجبار السودانيين على الدخول في قفص الاستعمار الحديدي، واعتبارهم رعايا لتلك الدولة العنيفة. تستعمر حياتهم وكل مواردها وإمكانياتها، وتستعمر دينهم، ليصبح أسلوباً في السيطرة عليهم، وعلى كل ما يتعلق بتلك الحياة مسلمين كانوا أم مسيحيين أم من أهل ديانات محلية.

لقد حشرت تلك الدولة السودانيين في سجنها الكبير وقفصها الحديدي بما ابتدعت من مؤسسات وقوانين دينية ووضعية ومناهج للتعليم وسجون وتقتيل دون واعز او اعتبار لإنسانية ذلك الإنسان السوداني. وبذلك مكنت لنفسها ما تريد من مغانم وتركت للسودانيين ما ابتدعت من مظالم. كل واحدة من هذه وتلك ساهمت ما استطاعت وأكثر مما تستطيع في صناعة الهوامش الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية.

ها “نحن شعب السودان” نرى ونعيش نهاية ذلك القرن العشرين الطويل، وقد دخلت دولة الإسلامويين التاريخ باعتبارها لحظة النهايات الكبرى ونهايتها بداية البدايات الأكبر. أول تلك النهايات الكبرى هو نهاية دولة ونجت عمر البشير القمعية التي تمددت طولاً وعرضاً في السودان على مدى قرن كامل من الزمان، منذ بدايات تأسيس تلك الدولة زمان، وحتى نهايتها الآن.

دولة عمر البشير هي الامتداد لتلك الدولة الدموية التي بنى الإسلامويون على ما أشاده ونجت دولة ونظاماً ظل حاكماً لنا كرعايا لا كمواطنين. ذهب ونجت وذهبت جماعته هو وترك هو وتركوا هم وراءهم تلك الدولة وأسلوبها ومؤسستها القائمة بالعنف؛ ليأتي من بعد هذا وذاك كل من جاء من نظام شمولي يقوي من جهاز الدولة الباطش، والقائم بالعنف، والمستعمر لكل وجوه الحياة السودانية والمستعمر للدين.

لقد اختتم الإسلامويون تلك الحقبة ووصلوا بها الى نهايتها بنظام أكثر عنفاً في قتل السودانيين، وأكثر فظاظة في استعماره للدين ولحياة أهل السودان عامة. لقد كانت الدولة الاستعمارية شركة قابضة لمصلحة الامبراطورية. وجاءت الدولة الإسلاموية لتصبح شركة قابضة لمن تود من أصحاب الأسهم فيها. توزع المغانم على البعض والمظالم على الكل. وإن كان كتشنر قد هزّ ضمير العالم والإنسانية في بداية القرن بما قام به تجاه السودانيين على مدى حملة الغزو التي قادها، وخاصة ما جرى في كرري من إبادة، فقد اهتز ضمير الانسانية في نهاية القرن بما أتى به الاسلامويون من واقع عنف النظام الذي أقاموه، ومن واقع ما تم باسم واشراف ومباركة عمر البشير تجاه السودانيين عامة، وفي دارفور وجبال النوبة والجنوب خاصة.

كما كان كتشنر لا يرتاح إلى وجود أسرى، فقد ظل عمر البشير يصيح بالصوت العالي بأنه لا يريد أن يسمع أن هناك أسيراً. وإن ترك كتشنر الجرحى في كرري عرضة للكواسر والحيوانات ضالة. فقد كان عمر البشير يرقص أمام الجرحى على أنغام تلك الاغنية القبيحة “دخلوها وصقيرها حام”. وكما سخر كتشنر كتائب المشاه السودانيين من الذين استعبدتهم او استعبدت آباءهم، واستعمرت ديارهم وحياتهم دولة محمد علي في مصر لقتل أهلهم في غزوته للسودان. سخر عمر البشير والإسلاميون ضحاياهم من دارفوريين أمثال موسى هلال وحمدتي ومليشياتهم الإرهابية لقتل أهلهم في دار فور وبعض مناطق السودان الاخرى. لقد فرّ السودانيون من المدن المستعمرة بواسطة كتشنر، إما للتضامن مع الخليفة عبدالله من أجل استعادة دولتهم أو مع علي دينار من أجل تأكد تحرير دارفور. لقد فر السودانيون الآن من ديارهم إلى المهاجر والملاجئ من جراء عنف دولة الإسلامويين التي استهانت بأرواحهم وحقوقهم في الحياة الكريمة.

لذلك، فإن “نحن شعب السودان” المدخل الأساسي للثورة التي تمثل أكبر هذه النهايات الكبري التي بها نهاية منظومة دولة ونجت عمر البشير، وبذلك نفتح الباب واسعاً “نحن شعب السودان’ للدخول في مجال البدايات الكبرى التي هي الانتقال من الثورة إلى الدولة. إذاً من واقع روح الثورة وتطورها نحو مقاصدها الكبرى وذلك بإسقاط النظام تنمو وتتصاعد روح التواداد والتراحم، وتتطور روح الجماعة؛ لتكون عَصّب التكوينات التي تؤسس للمجتمع المدني، وتتصاعد أكثر في أشكال خلاقة ومتقدمة لنتوطد بها مجتمعاً في عقد اجتماعي جديد.

وعن طريق الممارسات التي تتمخض عن الحركة العامة للمجتمع-نحن السودانيون- تنمو وتتطور المنابر السياسية والأحزاب والساحات الاجتماعية والثقافية المتعددة والمتنوعة، ويقوى عودنا لتكون الموئل لإدارة الحوار التي يتحول عن طريقها الاختلاف وحتى الصراع إلى قوة بنائية لا مدخلاً للعنف وإنما شكلاً ومنهجاً أساسياً يتجدد به الفكر، وتتسع منه معاني ووسائل الدخول في رحابة نحن شعب السودان اجتماعياً وسياسياً تكتسب المواطنة والدولة معانيها السامية احتراماً لإنسانيتنا ووجودنا في الحياة، وبناء دولة تكون هي أساس والحافظ لكرامتنا وحريتنا. “نحن شعب السودان”. نحن البديل.

abdullahi.gallab@asu.edu
جامعة ولاية اريزونا

التعليقات مغلقة.