صباحكم خير

قوم بارحها

قوم بارحها
  • 21 يونيو 2018
  • لا توجد تعليقات

د.ناهد قرناص

كان صادقاً النور الجيلاني – متعه الله بالصحة والعافية – عندما صدح ناصحا شعب السودان بمغادرة الخرطوم وان كان يطالب بالسفر تحديدا الى جوبا ..لكن فكرته في مبارحة العاصمة صحيحة .. فلا شيء يعدل العيد في الأرياف ..هدوء وسكينة وهواء نظيف غير ملوث ..وجوه باسمة و(رايقة)..وفوق ذلك كله (شبكة مافي) ..لا واتساب ولا فيس ولا انستغرام ..ونسة مع البشر كفاحا .. لست مضطرا لانتظار الخطين الازرقين لتتأكد من بلوغ الرسالة ..تأتيك الردود مباشرة دون الحوجة لتفعيل الداتا. ..في الريف ..لا تميز ولا تمييز ..كل الرجال شعارهم البياض الناصع في الجلاليب .. النساء يرتدين (شباشب) قريبة الشبه من بعضها ..كلها اتى بها (كنتين) الحلة ..فهو الذي يحدد موضة العام وليس ايف سان لوران ..او كوكوشانيل ..كل ثياب الأطفال تقريبا واحدة من ذات المحل ..يلعبون في الشارع ويأخذون العيدية دون مفاصلة ..وجيوبهم متخمة بحلوى العيد.. وضحكاتهم تملأ الاجواء فرحة..

غرفة من الطين .. تقف وحيدة في فناء كبير .. أخواتها متفرقات ..لا تربط بينهم (برندة  او هول) ..الحيشان الواسعة مفروشة برمال ذهبية .. في الريف لا يحفلون كثيرا بربط الغرف ببعضها .. ربما لان روابط النفوس أقوى ..حتى النوافذ صغيرة تسمح بإدخال الهواء والضوء .. نوافذ غرف الاسمنت واسعة تجعلك تطل على حياة الآخرين وتنشغل بها عن حياتك نفسها ..

غرفة الطين باردة في الصيف .. دافئة في الشتاء .. تحس وانت داخلها كأنها ام عاد اليها ابنها بعد غياب .. تحكي لك ذكريات ايام خلت وانت بعيد . .ما الذي يجعل غرف الطين قريبة من النفس هكذا؟ وهي المائلة المميلة التي صنعت كيفما أتفق؟

تذكرت جاري الذي كنت ألتقيه كل يوم وأنا في طريقي الى العمل .. كان يخرج من الشارع الموازي لشارعي .. تعودت أن أراه يداعب طفله الصغير، وهو في انتظار ترحيل الروضة.. يقف فترة متابعا سيارة الترحيل حتى تتوارى عن الأنظار .. ثم يتابع سيره على قدميه لمكان عمله .. لم اعرف له اسما .. لكنني افتقدت شخصه لأيام عدة .. وعندما سألت عنه تفاجأت أنه توفي بحادث حركة ذات مساء .. حزنت عليه .. ترى كم من البشر تتقاطع طرقنا معهم … وتفصلنا عنهم جدران الاسمنت والسيخ هذه ؟.. ذهبت لعزاء زوجته.. كانت صغيرة في السن .. ترملت باكرا .. قلت لها انني اسكن في الشارع الخلفي وكان دربي يتقاطع مع زوجك كل يوم … هزت رأسها علامة انها لم تعرفني .. هل اختلف الزمن؟ ام اختلفنا نحن؟.. ترى لو كنا في بيوت من طين .. هل كانت اصوات العزاء ستطرق اذني؟ ام ان الصمم اصاب القلوب وحوائط الاسمنت اكلمت الباقي؟
ربما يقول عني البعض اني فقدت عقلي ..لكني بدأت ارى رابطا واضحا بين بيوت الطين وهذه التغييرات التي اصابت مجتمعنا .. تلك الاخلاق التي تبدلت .. والمحبة التي اندثرت.. حواجز الاسمنت حالت بين قلوبنا وتركتنا بلا هوية .. لماذا تركنا البناء بالطين والسقف الخشبي وتعريشة القش؟ لماذا لم نطور في هذه المواد المحلية ونصنع منها ما يناسب العصر؟ غابات الاسمنت هذه .. دعك من تكلفتها العالية .. هي تحبس الحرارة وتنفثها في وجوهنا ساخنة..ت عزل الصوت وتجعلنا رهن المحابس ..لم تنفع (البرندات) ولا (الهولات) الكبيرة في مد جسور التواصل بين الغرف . عجبت لغرف الطين المتفرقة كيف يجتمع ساكنوها على قلب رجل واحد .. ويتفرق ساكنو بيوت الاسمنت رغم ما اعددنا لها من عدة وعتاد …كيف تزرع غرف الطين في ساكنيها تلك الطمأنينة والسكينة والقناعة.. وتفعل فينا غابات الاسمنت الأفاعيل؟ ..سلام الله يغشاكم اهل الأرياف.. وسلام الله يغشاك يا ايها الفنان ..النور الجيلاني.. (روح قوم ..سيب الخرطوم .. ..قوم بارحها).

الوسوم د.ناهد-قرناص

التعليقات مغلقة.