المهدية في إيرلندا القرن التاسع عشر: تسقط بس القديمة

المهدية في إيرلندا القرن التاسع عشر: تسقط بس القديمة
"مهدي إيرلندا" البرلماني والمجاهد القومي لاستقلال إيرلندا وليام أوبراين(1852-1928م)
  • 05 مارس 2019
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله علي إبراهيم

عبدالله علي إبراهيم

في ربيع 1885 زار أمير ويلز (صار الملك إدورد السابع لبريطانيا) بلدة في جمهورية إيرلندا الحالية التي كانت جزء من بريطانيا حتى استقلالها في ديسمبر 1937. وحشد عمدة المدينة أهلها لاستقبال سموه. وكانت المفاجأة أن انشقت حناجر الحشد ب:”عاش المهدي، عاش المهدي”. Up the Mahdi, Up the Mahdi

لم اتبين من قبل هذا المزج بين مهديتنا والحركة الوطنية الإيرلندية الساعية للاستقلال إلا بفضل مخطوطة للسيد محمد مصطفى موسى عنوانها “الأصداء العالمية للثورة المهدية”. فقد اعتقد الوطنيون الإيرلنديون أنهم وشعب السودان تحت قيادة المهدي أندادا في طلب الحرية. فقال زعيم منهم عنا: “هذا شعب يقاتل للزود عن تراب وطنه ومن أجل تحقيق استقلاله”. ولم تكن حادثة حرج سمو الأمير ب”يسقط بس” التاريخية نشازا. فلم يخل لقاء جماهيري للوطنيين من هتاف للمهدي. فكان الجمهور يقاطع الخطباء ب”المهدي هري هري” (Cheers for the Mahdi). ونشأت حول المهدي دراما للعيان. فجرى مرة استعراض في إحدى الاجتماعات ظهر فيه رجل علق على صدره شارة تقول “مهدينا” وقد اعتم بعمامة، وتزيأ بلباس أبيض، وركب من فوق جواد في طليعة موكب يطلق صيحات متقطعة تحاكي ما يمكن للسودانيين الهتاف به في مثل مناسبتهم.

ومن فرط تعلق الإيرلنديين بالمهدي في شغفهم للتحرر من بريطانيا أطلقوا لقب “المهدي” على اثنين من زعمائهم. فسموا زعيمهم البرلماني وليام أوبراين، الذي شق صوته البرلمان بالنداء لاستقلال إيرلندا، ب”مهدي مدينة ويستبورت”. وهي المدينة التي سكنها لبدء تأسيس حزب وطني وأوربي وراديكالي. وخطب في مناسبة سقوط لخرطوم في 1885 معبراً عن فرح عواصم أوربا بذلك الإنجاز. وصلى للرب أن يعطي المهدي القوة والمنعة في مقاومة بريطانيا وسط الهتافات بنصرة المهدي. بل وسموا زعيمهم تشارلز ستيوارت بارنيل ب”مهدي إيرلندا” كذلك. وخطب في الناس من قال إن بارنيل سيمضي على خطى سميه الأصل في السودان ويصلي الإنجليز نارا.


“مهدي وستبورت” الإيرلندي البرلماني تشارلز وليام بارنل (1846-1891)

لم يقبل الوطنيون الإيرلنديون المساعي البريطانية لتلويث المهدية بتكذيب دعوة المهدي والتشنيع به لتجارته في الرقيق. فلم يقبلوا وصف صحافة بريطانيا للمهدي ب”النبي الكاذب” لأنهم اعتبروه أحد قراء المسيح ممن أرسلتهم السماء ليفرح به كل موطوء في الأرض. فهو، كما قالوا، حقيقي كالفولاذ. أراده الإنجليز واعظاً مصلياً منزوع الخطر إلا أنه خرج عليهم بالحقيقة التي هي من حديد. وهي الحقيقة وحدها التي يصتنت له العقل البريطاني. ولم يقبلوا بإشانة البريطانيين للمهدي بالنخاسة. فقال قائلهم: “إن الصاق تجارة الرقيق به كذريعة تستخدم ضده هي العار بعينه. عندما تشجب بريطانيا تلك التجارة في الهند وإيرلندا وأماكن أخرى أولاً حينئذ يمكن لها أن تتحدث بحرية عن تجارة الرقيق في السودان من دون أن تهاب أن يجادلها الناس بحجج معاكسة”.

من جهة أخرى رفض الإيرلنديون أن يسمعوا من بريطانيا عن فظاظة المهدي وحكمه ويده الحديدية. فلم يستشعروا الشفقة على قتلى جيشهم البريطاني المفترض. قالوا: “لا نشعر بأي شفقة نحو هؤلاء المغامرين سواء كانوا إنجليز أو إيرلنديين. دعهم ينزفون حتى الموت وهم يتمرغون في أموال الخديوي الملعون”. فالمهدي، في قولهم، قد اكتشف داءهم وداؤهم. قالوا: “إن المهدي قد حول جزء كبيراً من الجيش الإنجليزي لمجموعة من الطحالب التي تتوق إلى أن يُفتك بها”. بل سخرت صحيفة إيرلندية من مزاعم البريطانيين في إضفاء البطولة على البطل المسيحي غردون القتيل. فقالت إنه لقي النهاية التي يستحقها. فهو الذي اختار الحرب وعليه أن يتحمل تبعاتها. وزادت بأن صفات النبل الإلهي التي اُسبغت عليه هي شمائل لا تمت بالصلة للإنجليز تحديداً.

ومن المؤرخين من يعزو منح حكومة بريطانيا بقيادة وليام قلادستون الحكم الذاتي لإيرلندا في 1886 (لم يجزه البرلمان) بصورة ما إلى انتكاسات بريطانيا في السودان. فقد كان قلادستون نفسه اعتقد في حق المهدي في طلب الحرية لشعبه. وأحبط مقتل غردون وهزيمة كتيبة الإنقاذ، التي سعت لنجدته، معنويات البريطانيين، فكرهوا قلادستون الذي لم يكن متحمساً لا لغردون ولا لمهمة إنقاذه. وكان منحه الحكم الذاتي لإيرلندا محاولة منه لتثبيت نفسه في الحكم ولإضفاء قبساً أخلاقياً للحرية على بلد مكروب في السودان.

وفي شوق الإيرلنديين إلى مهديهم المنتظر اشتهر بينهم مقال عنوانه “أسرع أيها المهدي”. ظهر المقال كافتتاحية في صحيفة ما في 1884. وكانت بلغتهم أخبار هزائم فيالق فالنتين بيكر في شرق السودان وتوجه غردون من مصر ليتقلد حكمداريته العامة. فأثنت الافتتاحية على انتصارات المهدي. وجاءت بما أثار البريطانيين وهو تمنى الكاتب أن يلقى غردون مصير بيكر. وكشفت الافتتاحية عن علم دقيق بمعارك شرق السودان. فأحصت الخسائر البشرية وتغنيم المهدي لأسلحة الخصم. وخلصت الافتتاحية إلى أنه ليس بوسع بريطانيا عمل شيء حيال انتصارات المهدي “التي هزت نظام القهر البريطاني الذي ترزح تحته بلادنا، إيرلندا”. بل تمنى على الله ان تصل خيول المهدية الظافرة أسوار القاهرة جزاء وفاقا للبريطانيين على حروبهم الآثمة واحتلالهم لأراض الشعوب. وانتشر المقال في إيرلندا انتشار النار في الهشيم في حين استفز الشعور القومي البريطاني. واستدرج نائب إيرلندي رئيس الوزراء قلادستون ليقرأ الافتتاحية “أسرع أيها المهدي” في البرلمان ليسأله إن كان ينوي ملاحقة كاتبها وناشرها. بل احتفلت جريدة إيرلندية بالمقال في 1934 في مناسبة مرور 50 عاماً على إنشائه.

كنت أعتقد أن في قولنا القديم إننا معلمو الشعوب علم الثورة مبالغة. اكتفيت بقدر من ذلك وهو أن لنا عبقرية في الانتفاض. ولكن ما أن قرأت هذا الفصل من مخطوطة محمد مصطفى موسى حتى خالجني إننا ربما لم نعرف بعد قدر أنفسنا. نحن أفضل بكثير مما نعتقد. فشدو من حولنا ب”تسقط بس” رجع من شدو إيرلندا النصف الثاني من القرن التاسع عشر ب”المهدي بس”. ينتظرنا شغل كثير في الدراسات السودانية. لم يزد محمد مصطفى عن فتح أرشيف الصحافة الإيرلندية لتشرق فترة من حياتنا لم تصبح تاريخاً بعد لأنها ما تزال خاضعة ليومية التحري: هل هو المهدي أم كذب؟ وغيرها.

التعليقات مغلقة.