دور الأسافير في إسقاط البشير

دور الأسافير في إسقاط البشير
  • 31 يوليو 2019
  • لا توجد تعليقات

صديق محيسي

ثلاثة انظمة عسكرية استولت على السلطة في السودان وثلاثة نماذج من المعارضة تصدت لهذه الأنظمة، فما هي طبيعة كل معارضة؟ ثم ما هي طبيعة الأنظمة نفسها التي تصدت للمعارضة؟

لم تمض سنوات قليلة على اول تجربة ديمقراطية لما بعد الاستقلال حتي دّشن العسكريون اول انقلاب على الوضع الديمقراطي فساد ستة سنوات حتي جري إسقاطه عام 1964 في ثورة اكتوبر الشعبية حتي ذلك الحين كانت وسائل الاتصال المتاحة هي الراديو ثم التلفزيون والهاتف الأرضي، والبريد والتلغراف .

في حكومة عبود وبعد تعطيل الدستور وحل الأحزاب والنقابات ووقف الصحافة الحزبية سارعت السلطات الأمنية بإلزام الصحف المستقلة باستقاء اخبار الحكومة الرسمية من نشرة يومية تصدرها ” وزارة الاستعلامات والعمل” هكذا كان اسمها مع ترك هامش واسع من الحريات للرياضة والأخبار الفنية لصرف الناس عن الحديث في السياسة ,وفي الوقت نفسه خصصت قسما لكتابة تقرير يومي يرسل لوزير الداخلية عن أداء الصحف وكان الذين يقومون بإعداد هذه التقارير هم محمد الخليفة طه الريفي ” ختمي “وعوض عبد الرازق, ومحمد الحسن احمد وسيد احمد نقد الله منشقون عن الحزب الشيوعي .

كان اكثر ما يزعج حكومة عبود هم الشيوعيون الذين يهاجمون النظام عن طريق النشرات السرية التي تطبع على ماكينات “الرونيو” وتوزع في الطرقات وماكينات “الرونيو” هي الة طباعة بدائية كانت شائعة في ستينات القرن الماضي تستخدم في الدوائر الحكومية ووكالات الأنباء ,ولكن امتلاكها كان لا يتم إلا بتصديق من وزارة الداخلية خوفا من وقوعها في ايدي الشيوعيين ,والجبهة الوطنية المعارضة, وتبع ذلك الإجراء منع جميع المكتبات في السودان ببيع ورق “الفولاسكاب “الذي يستخدم في هذه الماكينات إلا بأذن رسمي، مكا اوكل لمصلحة البريد والبرق التدقيق في اي مطبوعات تأتي من الخارج ومصادرتها اذا كانت فيها مساس بالنظام، وعند انقلاب مايو في عام 1969 تم اجتراح مؤسسة جديدة هي مؤسسة توزيع الصحف وترك لها مهمة رقابة الصحف الأجنبية والعربية ومصادرة اي صحيفة او مطبوعة تهاجم او تنتقد النظام ،وحتي يكون النميري وكبار المسئولين مطلعين على ما ينشر في الخارج ضد النظام ابتكر مصطفي مدير وكالة السودان للأنباء يومذاك نشرة سرية اطلق عليها النشرة الخاصة كانت تنشر لأخبار والتعليقات المناوئة للنظام ،وكانت ترسل للرئيس النميري وكبار المسئولين في الدولة، وإمعانا في تنظيف صورته اوكل لمحمد محجوب سليمان مستشاره الصحفي ان يؤجر له كتابا وصحفيين مصريين ولبنانيين يشيدون به وبنظامه وخصص لهم رواتب وتذاكر مفتوحه لزيارة السودان في اي وقت خصوصا الصحفي اللبناني فؤاد مطر الذي موّل النميري مجلته التضامن التي كانت تصدر من لندن .

اذن تلك كانت وسائل الصحافة والإعلام في ذلك العصر، فنظام عبود اعتمد عصر السلكي واللاسلكي، ونظام النميري انتقل إلى عصر الرقابة الأمنية وظهور التلكس، والميكورويف كصيحة تكنولوجية جديدة ووسيطة للدعاية للنظام .

من الجانب الأخر كيف كانت المعارضة تخطط لمحاربة هذا النظام وماهي وسائطها؟ فبالإضافة إلى لجوؤها للصحف العربية والأجنبية مدفوعة الأجر مثل النظام تماما كان زعيم المعارضة الشريف حسين الهندي يرسل اشرطة كاسيت مسجلة بصوته يهاجم ويكشف فيها النظام، وكان ينسخ منها المئات لتوزع سرا على الناس ، بل إن الشريف بتحالفه مع نظام صدام حسين اعطي مجلة الدستور التي كان يرأس تحريرها الصحفي اللبناني وليد ابوظهر لتؤول رئاسة التحرير لمحمد بعد الجواد فصارت منبرا للمعارضة وكانت تهرب سرا عبر المطارات والموانئ إلى داخل البلاد.

تلك اذن كانت كما قلنا وسائل الإتصال الوحيدة في ذلك العصر، من اللاسلكي إلى التلفون الأرضى إلى التلكس إلى الماكرووييف إلى الصحافة المشتراة في عهد النميري، وحتي سقوط نظامه لم يكن احد يتوقع ان تحدث عملية الانفجار الكبير، او ثورة المعلومات التي اجتاحت العالم، فاختفت الوسائل القديمة التلغراف ،الهواتف الأرضية والتلكس، والتلبرنتر لتحل محلها الشبكة العنكبوتية والكمبيوتر واللابتوب ، والموبايل، والايفون وهي حتي الان اخر صرخة في ثورة المعلومات.

من بين كل أحزاب السياسية استفادت الجبهة القومية الإسلامية من تكنولوجيا المعلومات حين استخدمت الكمبيوتر ولأول في التحضير للانتخابات التي جرت بعد إسقاط نظام الرئيس نميري، واستطاعت إجراء إحصاء رقمي دقيق لمناطق وغير مناطق نفوذها في الخريطة الانتخابية ،وبهذا الأسلوب استطاعت الجبهة احراز اكثر من خمسين مقعدا في البرلمان وهو الأمر الذي غاب عن اكبر حزبين في البلاد وهما الأمة والاتحادي الديمقراطي اللذان اعتمدا الأسلوب الإحصائي التقليدي لرصد مناطق نفوذهما مما يعد امية تكنولوجية تشبه الحزبين ،على ان النجاح الذي تميزت به الجبهة في تلك الانتخابات وتوسعها بعد ان استولت على السلطة ولحماية هذ السلطة شرعت في تأثيث ما يسمى بكتيبة “الجهاد الإلكتروني” لتواكب عصر الحداثة بمساعدة خبراء هنود وذلك لرصد نشاطات المعارضة وتهكير مواقعها الأسفيرية ، وكان اشهر جرائم النظام في هذا الشأن الطلب من السلطات السعودية اعتقال وليد الحسين ومحاولة تسليمه لجهاز الأمن السوداني بسبب ادارته لموقع الراكوبة الذي ازعج النظام كثيرا، ولكن وكما يقال دارت الدوائر او على نفسها جنت براقش ،فأن هذه التكنولوجية التي رعاها النظام وطّوّرها ليرثها المجلس العسكري من بعده انقلبت على الوكيل الجديد وسّرعت في إسقاط عدد من اعضائه حتي اضطر عندما كبرت الثورة واتسعت ضده وانتشرت في كل انحاء البلاد لأن يقطع خدمات “الشبكة” نهائيا عن البلاد خوفا من نشر مزيد من فيديوهات فض الاعتصام التي تدين إدانة واضحة من خططوا له ونفذوه، ولكن كانت النتيجة ان انفتحت عليه ابواب جهنم فشن عليه ملايين السودانيين وغير السودانيين خارج وداخل البلاد وعبر تطبيقات جديدة اضخم حملة أسفيرية فأشعلوا “وتساب” “وتوتير” وفيسكبوك” وانستغرام”، وغيرها من المفاتيح تكشف كذبه لحظة بلحظة ،وتتبع جرائمه جريمة جريمة، وكلما اوغل في متاهته لاحقته ملايين التعليقات الساخرةمن جهله وسذاجة تصرفاته، فلم يعد قادرا لي فعل شيء، واخيرا مضي عصر ضباط الإعلام الذين كانوا يحملون ردودهم ويتسابقون على دور الصحف لنفي ماينشر ضد وزارتهم اومؤسساتهم ، فها هو زلزال المعلومات يكسح بقوته عصر الرونيو، والزونكغراف واليونيوتايب والأوفس، والمجلس العسكري ايضا.

siddiqmeheasi7@gmail.com

الوسوم صديق-محيسي

التعليقات مغلقة.