كلام عابر: ثريا في بورتسودان

كلام عابر: ثريا في بورتسودان
  • 23 أغسطس 2019
  • لا توجد تعليقات

عبدالله علقم

أتيت مبكراً لمطار الخرطوم صباح ذلك اليوم من شهر مارس 1974م. وصلت قبل موعد اقلاع الطائرة المتجهة لبورتسودان بأكثر من ساعتين، ورغم ذلك وجدت مديرنا توفيق محمد نورالدين قد سبقني إلى هناك تعلو وجهه علامات القلق وليدة الترقب والانتظار. كان في انتظار وصول ضيفة رئيس الجمهورية ومرافقيها. لم يكن مطار بورتسودان حينذاك يتسع لهبوط طائرتها البوينغ الخاصة، فاستأجر مضيفوها (على الورق طبعاً) طائرة “فوكرز” من أسطول الخطوط الجوية السودانية(سودانير) التي كانت آنذاك، مثل اسطولها، في تمام العافية والعنفوان.

سألني مديرنا، الذي خلف عبدالرحمن اسماعيل كبيدة في منصبه بعد أن تخلصوا من الأخير وحبسوه في منصب استشاري صوري، سألني عن سبب تأخري في الحضور للمطار، فلم أجد أفضل من الصمت جواباً على ذلك السؤال العاطل من الذكاء.

بعد نحو ساعة من الانتظار والتسكع في صالة المغادرة، وصلت ضيفة الرئيس ترافقها سكرتاريتها وطاقم مجلة (فوج) النسائية التي تصدر في أوروبا بالفرنسية والانجليزية وتعنى بالموضة والأزياء، ويرافقها كذلك اثنان من مراسم القصر الجمهوري، أو قصر الشعب كما أعاد الرئيس نميري تسميته، أحدهما عبدالوهاب عثمان دبلوك.

الضيفة نفسها هي البريطانية ساندرا جارفيس دالي التي أصبح اسمها ثريا خاشوقجي بعد زواجها من الملياردير الشهير المثير للجدل عدنان خاشوقجي.

 الدعوة كانت موجهة للزوج، ولكن الزوجة لبت الدعوة نيابة عن زوجها الذي لم يكن برنامج عمله في إمبراطوريته الواسعة يسمح له آنذاك بتلبية تلك الدعوة. خاشوقجي ملياردير سعودي الجنسية أصوله من سومطرة، وتاجر سلاح مشهور بصفقاته ونشاطاته الغامضة، اشتهر بدوره في فضيحة إيران – كونترا وعلاقته ببنك الاعتماد والتجارة الدولي الذي أفلس وبالعديد من القضايا الشائكة الأخرى، كما أنه مشهور أيضاً بعلاقاته في أوساط الطبقة العليا سواء في العالم الغربي أو العربي، كما تقول ويكيبيديا،و إن كانت هذه العلاقات قد تراجعت في السنوات الأخيرة بمثل تراجع مكانة الرجل وأهميته.

كانت لخاشوقجي علاقات قوية بالرئيس نميري ونظامه في تلك الأيام، وقد أخذت تتكشف بعض أسرارها مؤخراً، ومن بين تلك الأسرار الصورة المتداولة مؤخراً التي تجمعه في نيروبي مع نميري وإيريل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي، التقطت الصورة في عام 1982م. وهو اللقاء الذي وضعت فيه ترتيبات ترحيل اليهود الفلاشا من السودان لإسرائيل، كما قيل.

أما كيف وصل بي المطاف للسفر في تلك الرحلة فقد كان أمرا بمحض المصادفة، إذ إن زميلي المكلف بمرافقة الزائرة نيابة عن مؤسسة السياحة السودانية قد طرأت له ظروف تمنعه من السفر، فاختارت الإدارة أن أحل محله، فصادف ذلك الاختيار هوى في نفسي التي تفيض شوقاً وحباً لبورتسودان ولأهل بورتسودان.

انتهت إجراءات الصعود للطائرة سريعاً، ولم ينس مديري قبل ذلك أن يطلب إلىّ ان أقف خلف كاونتر سودانير وداخل مكتب إدارة المطار؛ لأتعرف على الاجراءات لكي (أتعلم الشغل) كما توهم، ولم يفت عليه أن يطلب إليّ كذلك عدم الاقامة في الفندق الذي سيستضاف فيه الزوار، وهم كل ركاب الطائرة الخاصة، وأن أحلّ ضيفا بدلاً عن ذلك عند معارفي( تخفيضاً للنفقات) كما قال، وفي كل مرة كنت أجد أن الصمت هو أفضل رد على الكلام الذي يفتقر للذكاء واللياقة. ت

خرج توفيق في الكلية الحربية المصرية، وعمل فترة في الجيش المصري قبل أن يلتحق بالجيش السوداني، وقد أذيع اسمه في الساعات الأولى التي أعقبت انقلاب 25 مايو 1969م كعضو في مجلس قيادة الانقلاب، أو مجلس قيادة الثورة كعادة أهل السودان بإطلاق اسم ثورة على كل انقلاب عسكري، ثم استبعد اسمه بعد ذلك، وأحيل للتقاعد، وانتهى به المطاف مديراً عاما بالإنابة لمؤسسة السياحة السودانية عقب الإطاحة بكبيدة، لكنه لم ينعم طويلا بمنصبه. كان الرجل رغم كل ذلك ينطوي على قدر كبير من النبل وصفاء السريرة.

المشكلة التي تتكرر دائماً مع كل حكم عسكري هي حرمان العسكريين من أداء عملهم الذي يحسنونه باستبعادهم من الجيش وإحالتهم إلى أعمال “مدنية” لا تتناسب مع خلفياتهم المهنية والمعرفية، فتكون الخسارة في هذه الحالة مزدوجة، خسارة للجيش الذي يفقد عنصراً مؤهلاً وفاعلاً من عناصره، وخسارة للوظيفة المدنية التي لا يحسن أو لا يمتلك القادم الجديد في معظم الأحيان القدرة على الوفاء بمتطلباتها، والخاسر الأكبر هو الوطن.

استغرقت الرحلة لبورتسودان ساعتين استمتعت خلالها بالونسة مع كبير المضيفين الأخ الصديق الشاعر عبدالله محمد زين، شاعر “أنا أم درمان”، وأحسب أن تلك “الونسة” أجمل ما في ذلك اليوم. عندما هبطت الطائرة في مطار بورتسودان، كان في استقبالها صف طويل من المسؤولين الحكوميين يتقدمهم المحافظ كرم الله العوض، شيخ الإداريين، وأول من شغل منصب المحافظ بعد فصل منطقة جبال البحر الأحمر عن مديرية كسلا لتصبح مديرية قائمة بذاتها.

هم نفس القيادات، مع اختلاف بعض الشخوص والمسميات، التي كانت تقف في الصف الأول من عتبات مبنى معتمدية جبال الأحمر وتستمع وتصفق لخطاب المعتمد ضحى يوم الخميس 22 يوليو 1971م، وهو يبشر المسيرة المؤيدة لانقلاب 19 يوليو 1971م باستقرار الأوضاع في الخرطوم للسادة الجدد.

وهو نفس المطار الذي غادرته في نوفمبر 1971م بعد خروجي من السجن، ولم يكن في وداعي بطبيعة الحال كل هذا الحشد الذي جاء لاستقبال ضيفة الرئيس، وأصابني شيء من كرم هذا الاستقبال.

سبحان الله، ضابط إداري صغير في بورتسودان تحول إلى معتقل في سجن بورتسودان، ثم مفصول من خدمة حكومة السودان، ثم عاد من جديد موظفاً مسؤولاً في موقع آخر في نفس حكومة السودان ودولة السودان بلد الغرائب أحياناً، وهو ما زال ذلك اليافع ضئيل المعرفة والتجربة، الذي يتحسس وقع خطاه.

توليت تقديم الضيفة ومرافقيها للمحافظ، وكنت أعرف عدداً من المستقبلين. كان مظهر معظم مرافقي الضيفة من الجنسين، لا يبعث على الاحترام فقد رأوا في “العراريق” السودانية موضة جديدة، ولم يخبرهم أحد أن العراقي لباس رجالي داخلي، فارتدوها بطريقة فوضوية تثير السخرية.

استقر الضيوف في قصر الضيافة المطل على البحر الأحمر، الذي كان نادياً لضباط الجيش، وهو في الأصل أحد المباني المصادرة في هوجة التأميم تلك. سألت ضيفة الرئيس من باب اللياقة إن كانت ترغب في شيء قبل أن تخلد للراحة في غرفتها، فلم تجبني بل سألت سكرتيرتها بالفرنسية التي كانت ذاكرتي تحتفظ بشيء منها: هل هذا هو السائق؟ كنت أحسبني في كامل أناقتي، وأنا أرتدي بدلة من الصوف الانجليزي لم يمض يوم على خروجها من الغسيل الجاف.

كان أخي الأكبر يوسف قد أحضر قماش البدلة من انجلترا هدية لي في مناسبة تخرجي في الجامعة. كان، طيب الله ثراه، أول من يفرح لفرحي وأول من يحزن لحزني.

 أغضبني السؤال بعد كل هذا الجهد، ليس استصغاراً لمهنة السائق الشريفة التي تشارك في صنع الحياة، ولكن لأنه لا ينسجم مع المنطق أن يرسلوا معها سائقاً من الخرطوم ليقود سيارتها في بورتسودان، فضلاً عن أني تحدثت إليها في مطار الخرطوم قبل الاقلاع، ولا أذكر أني قلت لها إني سائقها الخاص. أجبت بذات الفرنسية على سؤالها الذي لم توجهه لي: لا..أنا لست السائق يا سيدتي.

لم ينته الأمر عند هذا الحد. قالت إنها ترغب في الحصول على قرض مالي مؤقت قبل ذهاب سكرتيرتها للبنك لتبديل دولاراتها بالجنيه السوداني. سعدت بحاجة زوجة الملياردير إلى خدماتي المالية فسارعت بمد يدي لها بورقة مالية من فئة العشرة جنيهات، وهي الأكبر قيمة في العملة السودانية آنذاك، واستبقيت ورقة أخرى من فئة الخمسة جنيهات في جيبي، وكانت كل ما تبقى لي من ثروة، أدرأ بها عاديات الزمن.

 لم تمتد يدها أو يد سكرتيرتها لاستلام العشرة جنيهات، بل قالت بسخرية إنها تحتاج إلى ألف جنيه. يا ألطاف الله.. جملة أجوري التي أتلقاها من حكومة السودان على مدار سنة كاملة لا تبلغ الألف جنيه. اعتذرت لها بأني لا أملك ذلك المبلغ، وأعدت العشرة جنيهات لجيبي مرة أخرى.

في مساء نفس اليوم أقام لها المحافظ حفل عشاء فخيماً تخللته رقصات شعبية وشرفته زوجة المحافظ لمزيد من الترحيب وحسن الضيافة، وانسجاماً مع القواعد البروتوكولية.

كل هذه الحفاوة لم تفلح في إزالة شيء من العبوس الصامت الذي ظل ملازماً لوجه الضيفة منذ أن التقيتها في مطار الخرطوم. قام المضيفون بناءً على طلبها بشرح محتويات كل الأطباق التي قدمت إليها، ورغم ذلك لم يستهوها الطعام ولا المكان.

في صباح اليوم التالي استرعى انتباهها برواز زجاجي ضخم يحتل مكاناً بارزاً من جدران الصالة الرئيسة في قصر الضيافة. كان البرواز يضم “جبة” كبيرة من الدمور. أجبتها بأن صاحب الجبة هو أمير الشرق عثمان دقنة، وقد كان يرتديها عندما ألقت عليه السلطات البريطانية القبض بعد اندحار دولة المهدية.

أثار ذلك المزيد من فضولها فأتت بجهاز تسجيلها، وطلبت إلي أن أحدثها عن عثمان دقنة. تحدثت لها بإيجاز عن تاريخ دولة المهدية ومعارك عثمان دقنة ضد الإنجليز.

قالت لي بشيء من السخرية: من هو عثان دقنة هذا؟ أجبتها بأنه أول من ابتكر حرب العصابات، وسبق في ذلك أهل فيتنام، واستطاع أن يحطم مربعات الجيوش الإنجليزية. عندما قالت لي إن هذا غير صحيح، أجبتها بأن الشاعر الانجليزي روديارد كبلنج الحائز على جائزة نوبل قد خلد عثمان دقنة في شعره، ورددت على مسامعها مطلع القصيدة الذي أحفظه:

We fought with many men across the seas,

And some of ‘em was brave an’ some was not:

The Paythan, an’ the Zulu an’ the Burmese;

But the Fuzzy was the finest o’ the lot.

لقد قاتلنا رجالا عديدين عبر البحار

كان بعضهم شجعاناً وبعضهم كان غير ذلك

منهم الباتان والزولو والبورميون

لكن البجا كانوا أكثرهم روعة

قالتها مرة أخرى: هذا ليس صحيحا. من هو هذا العثمان دقنة؟ ثم أوقفت تشغيل جهاز التسجيل. رغم أني بذلت جهداً كبيراً لضبط نفسي إلا أن الكلمات أفلتت مني فقلت لها أنها يبدو أنها لم تسمع اصلاً بكبلنج، ويبدو أنه ما من شيء يرضيها مهما فعل مضيفوها. وقلت لها إن مسلكها المتعالي منذ أن حلت في بورتسودان غير مبرر وغير مقبول. فاجأتها كلماتي تماماً ولكنها التزمت الصمت، أما سكرتيرتها فقد حولتها الدهشة لتمثال ثلجي جامد. غادرت بعد ذلك قصر الضيافة، وغبت في دروب المدينة الفاضلة أفرغ فيها ما لحقني من غضب وإحباط.

في مساء نفس اليوم أرادت الضيفة اختصار فترة زيارتها لبورتسودان، التي كان من المقرر أن تستمر ليوم آخر، والعودة للخرطوم. قلنا لها إن توفير طائرة خاصة لها يتطلب بعض الوقت، ليس أقل من يوم كامل، ولا بديل إلا أن تستقل رحلة الخطوط الجوية السودانية العائدة للخرطوم مساء نفس اليوم.

لم تكن هناك خيارات أخرى فاستقلت الطائرة مع سكرتيرتها ومسؤول مراسم القصر الجمهوري، وعدت مساء اليوم التالي مع بقية مرافقيها الذين لم يطلبوا السفر على طائرة خاصة. قدرت أن تكون الضيفة قد ملّت بورتسودان وقدرت ايضاً أن تكون كلماتي الغاضبة قد عجلت بسفرها.

أيقنت أن اندفاعي سيوقعني، إن لم يكن قد أوقعني بالفعل، في ورطة كبيرة قد تكلفني وظيفتي التي التحقت بها بعد لأي وجهد جهيد منذ أقل من سنة. قد يتجاوز ثمن تهوري مع الضيفة وظيفتي.

مهما يكن الأمر فلن أكون بحول الله صيداً سهلاً هذه المرة. بادرت صباح اليوم التالي بالاتصال الهاتفي بأخي الاكبر العقيد طيار عبدالحفيظ همرور الذي كان، بدماثة خلقه وحبه لفعل الخير، سفيراً ومدخلاً لكل أهل القضارف لدى النظام العسكري و(حلال) المشاكل وسند كل محتاج. كان همرور من الجيل الثاني من الطيارين الحربيين السودانيين. في فجر الاستقلال أهدت مصر السودان أربع أو خمس طائرات حربية سقطت بعدد من الجيل الأول من الطيارين الحربيين ومنهم الطيار مراد والطيار الكدرو، على ما أذكر. همرور نفسه أفلح في الهبوط بسلام بطائرته المتعطلة على النيل في مرة من المرات، وبجوار جبال كرري في مرة ثانية وبطائرة اخرى، لكنه، طيب الله ثراه، راح ضحية حادث مروري عام 1983م على طريق القضارف كسلا. تأكدت من وجوده في الخرطوم، وقلت له أني سأحضر إليه لأمر مهم وعاجل.

عندما دخلت مقر مؤسسة السياحة وجدت الأمور كما كانت عليه، ولم يشر المدير أو غيره إلى أي شكوى ضدي من ثريا خاشوقجي. يبدو أنها لم تجد في حديثي معها ما يدعو للشكوى، أو أنها رأت أن تتجاهل ما كان مني لأنه لا يليق بها أن( تخت راسها براسي).

أيا كان الوضع، فقد مرت واقعة بورتسودان بسلام، ولم أفاتح همرور بما جرى، وحمدت الله، وأحسست بالامتنان العميق نحو ضيفة الرئيس لأنها بذلك التجاهل جنبتني الكثير من المتاعب. كنت الوحيد من بين من رافقوها في السودان الذي لم يتلق منها منحة مالية أو تذكرة سفر ودعوة لزيارة مدينة الرياض، ولكن رغم ذلك رأيت أن جائزتي منها هي الاكبر. على كل تم طلاق الضيفة من زوجها عام 1981م، وقد اعتبرت صفقة تسوية طلاقها أحد أكبر التسويات من نوعها (548.4 مليون جنيه استرليني)، حسب ويكيبيديا.

عبداله علقم

khamma46@yahoo.com

(نشر أول مرة في مجلة الاذاعة والتلفزيون 1981م.اطلع عليه استاذي محمد عمر بشير وأبدى بعض الملاحظات، ومن ثم أعدت نشره مختصراً في صحيفة الخرطوم 1999م. أعيد نشره هنا بعد قليل من التعديل ).

التعليقات مغلقة.