رحلتي إلى آخر الدنيا (10): طرب النيل

رحلتي إلى آخر الدنيا (10): طرب النيل
  • 29 سبتمبر 2019
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

مع انتصاف النهار فتحنا الأبواب على مصاريعها وارتفعت وتيرة الحراك في البيت. ها هو أول ضيف يشرفنا ويلج البوابة الخارجية بسيارته التي يقف بها عند نهاية الحديقة مفسحا المجال للآتين من بعده.

ترحاب بالحضن ويتبعه آخر ثم يتقاطر الأحبة تباعا حتى بلغوا العشرات. أعرف بعضهم وأجهل جلهم فيتولى محمد التعريف فيعود كثيرون لاحتضاني مجددا.
إنهم السودانيون في سياتل لبوا الدعوة فأتوا مؤانسين لطفاء .. ظرفاء.

انصرف بعضهم للشواية يهيئون اللحم ويتابعون شرائحه حتى عمت رائحة الشواء المكان لتوقظ البطون من هجعتها.
بعضهم جلسوا حولي يتآنسون ويسألون عن الوطن شاغلنا جميعا وحبنا السرمدي .. ترتفع الضحكات ويتواصل السمر العابق بالود.

سألت عن أحوالهم فأعرب بعضهم عن متاعب العمل ساعات طويلة في القطاعين الخاص والمؤسسي فكل منهم يرعى من يليه من على البعد. ومما يدفع للعمل رصد ساعاته من السلطات وعائده واستيفاء ضريبة الدخل تبعا له. ومن يستوفي نقاطا محددة يستحق المعاش التقاعدي في نحو ١٠ سنوات أو أقل يصرف في الداخل أو الخارج عبر القنصليات.

وتشكل الضرائب في كل الدول دعامة للاقتصاد بنوعيها المباشرة التي تستقطع من الدخول وغير المباشرة التي تدفع بوسيط مثل الرسوم على المشتريات. ولا مجال للتهرب الضريبي فأعلى تهمة هنا الكذب الذي قد يطيح بمرشحي الرئاسة’ فضلا عن ارتباط سلطات الضرائب بقوائم الأجور والمرتبات إلكترونياً.

وتتسم الفترة الأولى للقادمين الجدد عادة ب ” الجهجهة ” حتى يستوعبوا الوضع ويتأقلموا ثم يمضوا في الركاب فكل مهنة هنا تحتاج لتأهيل ومعادلة ومهارات حتى تلك التي تمارس في السودان ب ” الجربندية ” مثل البناء والنقاشة والسباكة فلا مجال بغير شهادات حرفية بعد نيل دورات تأهيل هنا. وليس صحيحا تصورنا أن كل من دخل دار أمريكا صار ” مرتاحاً”.

عموماً الأوفر حظا قياسا قطاعات الأطباء والسسترات ومبرمجي الكمبيوتر. وحتى هؤلاء عليهم اجتياز مطلوباتهم الذي يأخذ وقتاً وجهداً.

الهجرة للقارة عامة قديمة فقد تولى أحمد حسن مطر الأمدرماني حكم شيلي في مرحلة بعد أن كان سفيرا للبرازيل لديها وله كتاب مثير برسم ” سندباد من السودان “.. ومعروف أن كتيبة سودانية أخمدت التمرد في المكسيك ١٨٦٣ بقيادة البطل ألماظ الذي كرمته فرنسا بأرفع الأوسمة وسط أهازيج استقبال الأشاوس في باريس. وقيل إنه والد البطل عبد الفضيل ألماظ.

في الولايات المتحدة برز الشيخ حاج ماجد سوار الذهب كبير الدعاة في أمريكا الشمالية الذي أسهم بفاعلية في نشر الإسلام وأم المصلين على ضحايا الباخرة تايتنك المسلمين.

أما اليوم فهنا الآلاف من ناهلي العلم وطالبي الرزق وشاغلي أسمى المواقع في مختلف الولايات والمهن. وحيثما كانوا ينقلون توادهم وتلاحمهم فيعكسون بريق الشعب النبيل وقيمه الرفيعة.

يكفي أن بها اليوم الكابلي والجزلي والبلابل ومئات المبدعين في شتى الحقول وكثيرا من رموزنا المتلألئة منهم النائبة المنتخبة في أيوا مزاهر صالح وشاعرنا الفذ عزمي أحمد خليل الذي أقام سنواته الأخيرة بها صاحب ديوان ” حان الزفاف ” الشعري. وخدم فيها صديق عبد الرحيم صديقنا في القولد الذي زرناه في حصص الجغرافيا الم

في القولد التقيت بالصديق
أنعم به من فاضل صديق

يبدو أنه في عزم كثيرين .. لا بد من أمريكا وإن طال السفر.

عند الثالثة كان البيت يزدان بالأحبة وأسرهم بتيابهن الزاهية والأطفال الأزاهير ينثرون عبير الحيوية المستحبة.
جاء من ينادي بأن الغداء جاهز فدخلوا الصالة حيث كانت صنوف البوفيه المفتوح مشرعة.
شرع كل من الأحباب يحمل على طبقه ما يروق كما ونوعا.

وتحت إصرارهم توسطت جمعهم وخف الكلام ساعة البطون غير أني قلت لمن حولي مباشرة:
هنا فتة سليقة ظريفة فلا تشغلكم اللحوم فالتفتوا ضاحكين.

جاءت بعدئذ المشروبات الباردة والساخنة فباتت كل مجموعة تتجاذب الحديث في ناحية وهنا جالسني العزيز محمد العطبراوي فانداح بيننا حديث ذكريات مدينة الريادة والجمال عطبرتنا.

خرجنا إلى الحديقة مجددا فتمدد الأنس البهيج حتى حان المغيب’ ولم يجد الناس متسعا للاستماع للعزف على الأورغن الذي جيء به.

عنده تفرق الجمع الجميل زرافات ووحدانا الذين رأينا في وجدانهم وألقهم وطيبتهم كل الطيف السوداني من فرس شمالا إلى جودة جنوبا ومن عقيق شرقا إلى أم جرس غربا’ أي أهل النهر وأهل الظهر بتعبير الإمام الصادق’ فيما طرب النيل شريان الوطن للقانا وتثنى. وكلما ودعت فوجا يضحكون حينما أقول:
ما تغيبوا كتير
أنا لسة سنة أولى ” أمركة “.

أنور محمدين
سياتل

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.