ذكريات الفن والمديح والشعر: صالون (حاج قدور)بالدامر

ذكريات الفن والمديح والشعر: صالون (حاج قدور)بالدامر
صورة تاريخية لعمدة أم درمان الأسبق عباس المتوفى في سنة 19946 م
  • 14 نوفمبر 2019
  • لا توجد تعليقات

عبدالباقي الطيب

دامر المجذوب – منارة العلم والشعر

ظلت دامر المجذوب حاضرة ولاية نهر النيل والعاصمة الروحية والتاريخية للجعليين العرامنة، ولا زالت منارة للقرآن والفقه والعلم والفصاحة والشعراء، كما ظلت تزاوج بين المدينة والقرية منذ نشأتها حتى تاريخه، وهي التي قال فيها الشاعر توفيق صالح جبريل:

أيا دامـر المجذوب لا أنت قرية *** بداوتها تبـدو ولا أنت بنـدر

 ورد عليه ابن المدينة والمجاذيب البروفيسور عبد الله الطيب بقوله: بلى أنا حـقاً فوق ذلك كلـه ودوني خرطوم وبارا وبربر

ويا دامر المجذوب أنت مليحة تذكـرتها يا بعـد ما أتذكـر

 وفيك بنو المجذوب أبناء بيرق  وأبناء عبد الله والفضل يذكـر

كما رد على توفيق كذلك شاعر الدامر سر الختم العالم بقصيدته:

(دامر المجذوب مبعث فخرنا ولشيخها شأن عظيم أكبر

هي قرية أم بندر القصد جوهرها وليس المظهر).

والدامر كذلك حاضرة الشعديناب الجعليين وأبناء عمومتهم المجاذيب أهل العلم والجودية، وهي مهد البلاغة والفكاهة.

 يروي عن فكاهة وسرعة بديهة العالم الكبير شيخ مجذوب مؤسس معهد شيخ مجذوب العلمي سابقاً بالدامر انه جاءه يوماً أحد الدارسين بمعهده من أبناء البرنو، وقال له مستأذناً: (أنا مسافر بكرة من العطبرة لي خرطوم تأمرنا بشيء) فقال له شيخ مجذوب: (نعم شيل ال من العطبرة ووديها معاك خرطوم) ففهم الطالب قصد الشيخ !

الشعر والغًنا عند آل قدور

الموطن الأصلي لآل قدور هو قرية (الجُبَاراب) جنوب الدامر بنحو (12كلم) والتي هي قريتي ومسقط رأسي، تلك القرية الخضراء التي ترقد على الشاطئ الشرقي لنهر النيل، وفيها ولد وعاش وترعرع الحاج قدور ابنه الأكبر السر قدور، وجاء من تلك القرية كذلك عمدة أم درمان ورئيس الجعليين بالمدينة ورئيس محكمتها في عهد الاستعمار الإنجليزي العمدة عباس رحمة الله، الشهير بالجودية والكرم والشهامة، والمتوفي سنة 1946م، ومنها كذلك رئيس الاتحاد القومي للأدباء والكتاب السودانيين والأمين العام المساعد للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الشاعر د. عمر أحمد قدور وهو شقيق السر قدور، وكذلك لاعب المريخ الفذ الراحل أبو زيد العبد، وهناك من المنطقة والأهل بأم درمان عشيرة الفضيلاب، ومنهم كابتن الموردة وهدافها الأسبق مجدي محمد عباس فضيل، وآل الجرق ومنهم رمز المريخ السابق وأحد مؤسسيه الحاج التوم حسن الجرق، وشقيقه هداف الموردة الخطير عمر التوم، وآل أبو جنة، ومنهم رئيس المريخ الأسبق ماهل أبو جنة، وآل دولة، ومنهم كابتن المريخ السابق وهدافه الخطير برعي أحمد البشير محمد دولة الشهير بالقانون، والرمز الهلالي والمصرفي د. احمد دولة، وكابتن الموردة وجناحها الخطير محمود ود الزبير بوالدته عمتنا المادحة الحاجة زينب بخيت التوم، وغيرهم كثر من الرموز في شتى المجالات.

وآل قدور هم أهل العلم والأدب والفقه والقضاء والشعر منذ السلطنة الزرقاء، ومما يروى في القرية أن ليلة القدر (جات) لجدهم الشاعر الفحل بابكر ود شخيب جد السر قدور والد أمه وبنت عمتي شقيقة والدي الحاجة زينب، فأراد أن يقول لها (أديني الغنى لي جنا الجنا) فتعجل وأخطأ، وقال لها: (أديني الغُنا لي جنا الجنا)، فتنزل الشعر والغناء على الأسرة ولا زال، فكان حاج قدور شاعراً ومادحاً للرسول صلى الله عليه وسلم، برفقة ابن عمه قسم الله ود عوض، وكان قبل المديح فنان القرية ومنطقة الدامر في ثلاثينيات القرن الماضي وشقيقته أم الحسين الشهيرة بالتومة هي شاعرة الأغنية الشهيرة (الليلة وين لا وين يا عينيا أنا عجبوني كالو العين)، ويروى إنها قالتها كـ (بنينة) بمناسبة زواج شقيقها أحمد قدور، ويقال إن جدتي لأمي فاطمة الشاعرة بت عباس ود عاشميق شريكة معها في الأغنية وإنها وضعت وسمها في الأغنية حفظاً لحقها الأدبي بقولها :(بتغنيلو بت عباس يا عيني أنا دة الفي القهوة مو جلاس يا عينيا أنا).

واشتهر أبناء قدور الثلاثة بالشعر الغنائي حيث كتب السر عدداً كبيراً من القصائد الغنائية الناجحة التي تغنى بها مطربون كبار، إذ غنى له إبراهيم الكاشف «أسمر جميل» و«أرض الخير أنا إفريقي أنا سوداني» «يا صغير يا محيرني ومتحير»، و«الشوق والريد»، ومحمد ميرغني «حنيني إليك» وصلاح محمد عيسى «أنا بهواك»، و«الناسيك يا قلبي أنساه»، والعاقب محمد حسن «اتلاقينا مرة» و«غني يا قمري»، و(إدللي» و«ظلموني الحبايب» و«حبيبي نحنا إتلاقينا مرة» وغنى له القلع عبد الحفيظ «لاموني فيك الناس» و«عناقيد العنب»، وقدم لكمال ترباس «يا ريت) و«الريد يجمع ويفرق بحر) و«سايق دلالو علي»، و«بان القمر»، و«يا نسيم شبال»، وغنى له صلاح بن البادية «ست البنات» و»تاجر عطور» و«القبلي شال» و«أنا عمري ما غنيت قصيد» ونجم الدين الفاضل «يا حليلك يا أسمر»، وأيمن دقلة «فرح الليالي»، كما غنت له الفنانة وردة الجزائرية قصيدته «أسألوا الورد» .

الكاتب والسر قدور (ابن أخته) في الخرطوم، 2012م

وللسر مؤلفات كثيرة في توثيق فن الغناء السوداني إضافة إلى تقديمه برنامج «أغاني وأغاني» الرمضاني على شاشة تلفزيون قناة النيل الأزرق، وظل يقدمه منذ عقد ونصف، ووجد تجاوباً من جمهور المشاهدين لما تتميز به من بساطة وعفوية في التقديم.

أما شقيقه د.عمر فله ديوانان «عيون الآخرين وصوت من السماء» وهو شاعر أغنية «أيام زمان» و«كانت أم درمان حكاية» التي يؤديها الفنان الكحلاوي وعبد المنعم وله ديوان تحت الطبع بعنوان «عودة» ومحمد أحمد شاعر شهير كذلك، وهناك شقيقتهم عرفة، وهي شاعرة مجيدة، وكذلك زوجها وابن عمتها الفنان والشاعر محمد عمارة جاد.

ديوان حاج قدور

للحاج قدور حوش كبير وعريق وشهير بحي الشعديناب غرب الدامر، وبه ديوان كبير وبرندة طويلة، وكان به بئر لسقيا الماء للحوش والجيران، وتزين إحدى جدران الديوان صورة كبيرة وقديمة للسر قدور مع فرقة فنية حضرت للدامر في السابق، وفي هذا الديوان تعرف السر قدور إلى الفنان الكبير إبراهيم الكاشف، الذي كان صديقاً لوالده الحاج قدور جمعهما حزب الأمة والفن، وبعدها أصبح السر شاعر الكاشف الأول بعد عبيد عبدالرحمن.

وبديوان العم قدور أجازني الشاعر الفحل عبد المنعم احمد قدور في الشعر يوم وجدني أذاكر دروسي بالديوان عصراً، فقال لي: (تعال يا خال سمعني شعرك) فقرأت بحياء بعض قصائدي فقال لي: (شعرك موزون وجيد بس أوصيك باللزوميات)، وذكر لي إن الأديب الشاعر فراج الطيب سمع شعره في أمسية أدبية لمنظمة عنادل الدامر الأدبية وقتها وقال له (أنت معري أهل السودان) ويقصد أنه مثل الشاعر المعروف أبي العلاء المعري في لزومياته الشهيرة، وتعني اللزوميات أن تكون قافية القصيدة مكونة من عدة أحرف كما هو في كثير من شعر الحقيبة كقول العبادي (يا عازة الفراق بي طال وسال سيل الدمع هطال)، فاللزوميات تنتج جرساً موسيقياً قوياً وتطريباً عالياً كما هو الحال في معظم أغاني الحقيبة.

فحول شعراء الدامر

تعج منطقة الدامر بفطاحلة الشعر الفصيح والقومي وغالب شعرها القومي على نمط الدوبيت الرباعي ذي القافية اللزومية، وفحوله هناك كثيرون أشهرهم شاعر الحكم والبلاغة عكير الدامر، والذي يلقب بمتنبي أهل السودان والقائل في الإمام عبد الرحمن المهدي: (عهدنا معاك كنداب حربة ما بتشلّخ*** وصُرة عين جبل معقودة ما بتتفلّخ***  أكّان إيدينا من القبضة فيك تتملّخ*** السما ينتكي وجلد النمل يتسلّخ) وهو أيضاً شاعر الأغنية الرائعة (يا مولاي آه من غلبي من النارو حرقت قلبي) والشاعر عبد الله ود شوراني ورحمة الله عبد السيد صاحب أغنية (خاتمي الجنن البنوت) والتي أداها الفنان الراحل صلاح ابن البادية وكان فناناً بالمنطقة وشاعراً مجيداً وذكر الأستاذ الطيب محمد الطيب في كتابه ذاكرة قرية (قرية المقرن) إن رحمة الله غنى في (طهارته وإخوانه) والشاعر الفحل عبد المنعم احمد قدور والذي يعتبر من شعراء الغناء بالمنطقة وأشهر من أبدع المنولوجات الشعرية الفكاهية والساخرة بالدامر والسودان والشاعر أبو زيد عبد الكريم والد الشاعر قاسم أبو زيد .

ولو قدر لهؤلاء الشعراء المجيء والاستقرار بأم درمان حيث تجمع الشعراء والإذاعة والتلفزيون ومسارح الحسان والغناء لنافسوا كبار شعراء الحقيبة أمثال العبادي وود الرضي وأبو صلاح في الدوبيت والشعر الغنائي.

من طرائف شعراء الدامر

كان ديوان العم قدور ودكانه بسوق الدامر صالونان أدبيان يلتقي فيهما الشعراء أمثال عكير الدامر وود شوراني بصديقهما عبد المنعم أحمد قدور، وبينهم الكثير من شعر الإخوانيات والمجادعات الطريفة التي تنم عن احترامهم وتقديرهم لبعضهم بعضاً، وللموهبة الشعرية ذات مرة خاطب عكير عبد المنعم قدور قائلاً: (شيطان شعري فيك أبداً ما غشاني *** والمن جدو قِدام ما بكون وراني) ويقصد انه سليل الشعر والأدب أباً عن جد فرد عليه عبدو قدور كما يعرف في المنطقة (شيطان شعري على زملايا ما غراني *** الأول عكير والتاني ود شوراني*** والتالت قدور والباقي ما هماني) .

وكان لعكير حمار جميل أنيق ومدلل يستخدمه في تنقله ويروى ان عكير حضر ذات مرة إلى دكان صديقه الشاعر المجيد عبد المعبود الترزي  ومعه الشاعر أبو زيد عبد الكريم، وترجل عكير عن حماره ولقي هو وحماره ما يستحقان من الترحاب، فقام عبد المعبود وأحضر جردلاً  وقام أبو زيد بملء الجردل بالماء وقدمه للحمار فرفض الحمار الشرب فقال لهما عكير: (كان تكلموني أولاً حماري دة عندو طشت معين بشرب منه ولا يشرب في إناء غيره لكن علي بالجزيمة موية جاب جردلها عبد المعبود وملاهو أبو زيد والحمار ياباهو ألا أعطشو لي باكر) وحاول الجميع إثناء عكير عن قراره فرفض، فارتجل الشاعر أبو زيد رباعية لزومية بهذا الخصوص، قال فيها: (شوف الحمار طرطشتو*** مابشرب موية من غير طشتو*** أنا عندي كان شلت العصا ولطشتو*** أحسن من تكون عطشتو) .

مدائح المهدية

كان حاج قدور أنصارياً صارماً وحافظاً ومؤدياً لمديح الثورة المهدية، وكان يلتقي في ديوانه ودكانه بسوق الدامر مداح ومديح الرسول صلى الله عليه وسلم والمهدي وخليفته والمهدية عموماً وأني لأتذكر جيداً وأنا طالب بثانوية الدامر منتصف ثمانينيات القرن الماضي ومقيم بمنزل عمي الحاج قدور صوت المسجل العتيق لحاج قدور وهو يشدو بعد صلاة الفجر بمدائح المهدية الشهيرة وألحانها الرائعة حتى حفظت أغلبها، واني لأتذكر منذ ثلاثين عاماً مدحة احمد ود سعد من مسجل حاج قدور (السادة الخيرة*** فاتوني وبقيت في حيرة) والتي قالها في رثاء دولة المهدية ووداع رفاقه الأنصار الذين استشهدوا في معركة كرري بأم درمان سنة1898م وكذلك مدحة ود سوركتي في تمجيد الإمام المهدي (اللوم والملام لي وحدي *** ما قدم عمل لي لحدي) ومدحة ود سعد الأخرى:(لي طيب النفر *** لامتين السفر *** شوقي شوقي) والتي ترنم بها وهو في طريقه لمبايعة الامام المهدي بالأبيض ومدحة (المكملا وتاج الكُملا ود هشمشري) وبعد الانتهاء من سماع تلك المدائح يتوجه حاج بحماره الى دكانه الشهير بسوق الدامر، وكنت وزميلي الطالب وقتها بثانوية الدامر والعميد شرطة حالياً مبارك عبد الغفار الطيب نستمتع بذلك الجو الصباحي المعطر بروح المديح وبصوت حاج قدور الجميل وهو يردد تلك المدائح مع مسجله.

مع الشعر وحقيبة الفن

استهوتني أغاني الحقيبة منذ الصبا الباكر والتي تتميز بروعة الاستهلال وجمال الكلمات والمعاني واللزوميات التي تولد الموسيقي القوية والتطريب العالي وألحان الرائعة الشجية والتي كأنما ألفها الجن كما قال عاشق أم درمان والحقيبة الأديب علي المك، وكنت أحب سماع أغنية أبو صلاح الشجية (قلبي همالو خديدك وجمالو) وأغنية ود الرضي (أحرموني ولا تحرموني سنة الإسلام السلام) وأحرص كثيراً على متابعة برنامج حقيبة الفن يومي الثلاثاء والجمعة تقديم عوض بابكر وكان من أحباب الحقيبة ومتابعيها بالقرية العم خضر عبيد وأستاذ اللغة الانجليزية بالمدارس السودانية اليوم قسم السيد علي محمد عجب، وكنت آخذ معي المذياع لسماع برنامج الحقيبة عندما أكون (ماسك الموية)، أي (أسقي الزرع) بمترتنا شرق القرية.

مجاراة الحقيبة

أثناء الدراسة الجامعية بأم درمان أحضر لي الخال عبد الله سعيد مصطفى رجل الأعمال الشهير وصاحب مصنع حنة النجمة الشهيرة وحلويات الكوثر ديوان الشاعر الكبير عبد الرحمن الريح الفكي، الذي ترجع أصوله من جهة الأب لفرع العالياب الجعليين جنوب الدامر، والذي كان منزله مجاوراً لمنزل ومصنع الخال عبد الله سعيد بأم درمان، وكانت بينهما جيرة وصداقة وقال لي (لازم أوديك أعرفك بالشاعر عبد الرحمن الريح)، ولكن لم نوفق في ذلك، واكتفيت بامتلاك ديوانه الرائع الذي سرقه لص ضمن حقيبة صديقي الفنان العاقب علي حسن مع مجموعة من دوواين الحقيبة.

وبسبب إعجابي بالحقيبة فقد قمت بمجاراة بعض أغنياتها في بداياتي مع الشعر فجاريت أغنية أبو صلاح الشهيرة (ما كنت رايق وساكن في صفا وتأمين *** في الخوجلاب يا قلبي مني شالك مين) بأغنية على غرار الزجل الأندلسي الذي تتميز به كثير من أغنيات الحقيبة يقول مطلعها (العصاية) كما يقول أهل الغناء: (في القلوب يا قلبي مافي ليك مثيل *** ديمة لي مفارق إنت درت بديل) وفيها قلت (يا الهناك في شمالك قلبي بيك مأثور*** وما أظنك ذاكر مرة لينا تزور*** أصلو طبعك جافي ويكفي منك نور*** مرة بيه تجود ومرة ليه تشيل) وقد أدى هذه الأغنية فنان المنطقة والدامر العاقب علي حسن بإذاعة عطبرة، ثم انتشرت في المنطقة، وقدمتني هذه الأغنية شاعراً غنائياً في المنطقة وغيرها فيما بعد.

مع الحقيبة في القضارف

في مطلع التسعينيات من القرن الماضي كنت أعمل بالمحاماة بمكتب المحامي الكبير بابكر عبد الرحمن محمد عمر بمدينة القضارف، وطلب مني الزميل والإعلامي الشهير بتلفزيون وإذاعة القضارف وقريبي عبد الماجد محمد السيد أن أشارك بمقالات عن الحقيبة بصحيفة الطرفة التي كانت تصدر بالولاية الشرقية، التي كان يشرف على تحريرها فكنت أكتب لهم مقالاً أسبوعياً عن الحقيبة، وكان أول مقال لي بعنوان (الحقيبة دستور الفن السوداني الخالد)، والمقال الثاني بعنوان (صياع الليل البي الكرعين بسابقو الخيل) وهذا العنوان أخذته من قصيدة للعبادي يداعب فيها زملاءه من فناني وشعراء الحقيبة وتابعيهم والذين كان يسميهم الناس وقتها بالصياع، والسبب أن المهدية كانت قد حرمت الغناء والطرب والرقص والعزف فكان مزاج جيل ما بعد المهدية متشدداً صارماً لا يعرف غير مفردات الحرب والسيف والراتب والمدائح النبوية والمهدوية بإيقاع العصي والصفقة فقط، وعندما ظهر الغناء بشكل علني بعد المهدية مباشرة استهجنه ذلك الجيل، واستنكره وكانوا يسمون شعراء الغناء والمطربين وتابعيهم بالصياع .

لاقت مقالاتي عن الحقيبة رواجاً كبيراً بمدينة القضارف، وتشجيعاً منقطع النظير، وأصبح محبي الحقيبة يسألون عني وعن مكاني، وصاروا يحضرون لي بمكتب المحاماة، ويجالسوني كثيراً، وزودوني بكثير من الكتب والقصائد المهمة عن الحقيبة، وأذكر منهم الأستاذ خضر من منطقة كبوشية التي أنجبت غناء أم درمان والحقيبة (محمد ود الفكي وابن أخته عبد الله الماحي) فيما بعد وكان الأستاذ بابكر عبد الرحمن – والذي كان أديباً يحب الشعر القومي والمديح والدوبيت-عندما يحضر للمكتب ويجده مزدحماً يسألني (ناسك ديل ناس محاماة ولّ ناس حقيبة؟!) وذات مرة داعب المحامي الكبير بالقضارف الأستاذ الهادي الهداب زميله وصديقه الأستاذ بابكر وقال له (البكتبو عبد الباقي دة في الحقيبة لو بعلمو ليك في المحاماة كانت وداكم بعيد) .

لله درها من ذكريات شجية حبيبة إلى النفس، وحيا الله بلادي ودامر المجذوب وقريتي الجباراب وسقاها الغمام، ورحم الله عمي الحاج قدور وأختي الحاجة زينب بنت البركة، وعموم موتانا وموتى المسلمين.

التعليقات مغلقة.