المسرح

  • 09 فبراير 2020
  • لا توجد تعليقات

د. محمد عبازة

حقّق المسرح العربي فتحًا عظيمًا من جنوب شرق الوطن العربي حيث أطلّ علينا هذه الأيام المسرح الوطني السعودي وفتح لنا نوافذ (درايش) من الجهة الجنوبية الشرقية الجهة الّتي كانت مظلمة وخلناها سوف تبقى كذلك لسنين طويلة ولكن ها هو المسرح الوطني السعودي يطلّ من النافذة ثمّ يفتح الأبواب…
    كنت التقيت في عمان خلال أيام مهرجان المسرح العربي في دورته الثانية عشرة الأستاذ عبد العزيز السماعيل وحكى لي أنه مع جملة من المثقفين السعوديين ينتظرون انطلاق وتدشين المسرح الوطني، واعتقدت أنّ المسألة شبه مستحيلة في بلد نعتبره منغمسًا في حدود ومتون الثقافة الإسلاميّة ولا يريد أن يحيد عنها لذلك أخذت ما يقوله الأستاذ السماعيل على محمل الرغبات من طرف فنانين ومثقفين يطمحون أن يروا بلدهم معبّرا بمسرحه حسب تقنيات وحرفيّة عالية. لا أخفيكم سرّا أنّي لم أقتنع بقول مُحاوري واعتبرته من باب التمنّي بالرغم من أن الأستاذ السماعيل كان يتّقد حماسًا لهذا الإنجاز الثقافي الهام: المسرح الوطني السعودي الّذي سيترأسه. أهديته كتبي عن المسرح التونسي وودّعته على أمل اللقاء وفي نفسي تساؤل وحيرة متى سيُنجز هذا المسرح الوطني. لم يدُم الانتظار طويلا حيث صدق الرجل وكذب الحدس عندي فرأينا وفودًا عربية من المحيط إلى الخليج تحضر المناسبة وتُبارك الإنجاز وفعلاً هو إنجاز نُباركه جميعًا لأنّه حدث تاريخي بامتياز لهذا وصفته في بداية المقال بأنه الفتح العظيم. أعتقده إنجازًا كبيرًا في بلد كنّا نعتقد أنّه بعيدٌ عن مثل هذه الإنجازات الفنيّة المسرحية. نعتقد أنّ هذا الإنجاز هام للأسباب التالية:
    أولا: لابدّ أن نشير إلى أنّ المملكة العربيّة السعودية تمثّل الثقل الثقافي في البلاد العربيّة الإسلاميّة إذا اعتبرنا الثقافة الدينية بكلّ تفرّعاتها والتي هي ثقافة شئنا أم أبينا أنّها قادرة بهذا الثقل الثقافي على محاصرة نتاجاتنا الفنية والإبداعية إذا أرادت ذلك إذ يكفي أن تصدر فتوى من المؤسسة الرسمية الدينية حتى  يلتزم بها جميع المسلمين من تلقاء أنفسهم أو مُكرهين.
    ثانيا: كان لإغلاق النوافذ والأبواب في الجنوب الشرقي من الوطن العربي في وجه المسرح الّذي يُعتبر أحدث إبداعات الثقافة العربيّة وأكثرها إزعاجا وإقلاقًا للسلطة السياسيّة يُعتبر خنجرا مسلولًا يهدّد خاصرة هذا الوطن والفن النبيل فيه ذلك الفنّ الّذي يدعو ويدافع عن القيم الإنسانية الخالدة في الخير والحقّ والجمال وهو الفنّ الجماعي بامتياز الّذي يبرّر الاختلاف ويلتزم بالحوار ويدعو إلى السلام وينبذ العنف. كان غياب الجنوب الشرقي من الوطن العربي (الجزيرة العربيّة) مؤثرا على مسيرة المسرح العربي إذ اكتفت المملكة العربيّة السعودية بمشاركات رمزية في المهرجانات المسرحية العربيّة والتي كانت مشاركاتها عبارة عن مشاركة هواة بعيدة عن الحرفية والاحتراف والتقنيات والسيطرة على أدوات العرض المسرحي وكانت مشاركات المملكة عموما عبارة عن عروض تقدّم باسم المملكة تجسّد بها حضورها دون المراهنة على المراكز الأولى في هذه التظاهرات. ومع هذا الإنجاز وعن طريق المسرح الوطني السعودي سوف تدخل المملكة المنافسات الاحترافية عن جدارة تؤطّر فنّانيها هذه المؤسسة الفنية الإدارية.
    ثالثا: أعطت المملكة صورة للعرب والعالم أنّها دولة انغمست في الثقافة الدينية إلى غاية الاختناق ولم تترك المجال لغيرها لمنافستها أو محاورتها أو الاختلاف معها ولم تقتنع بأنّ للثقافة فرعين دنيوي ومقدّس فوقع التركيز على المقدّس ولم نر وجودًا يُذكر لفروع الثقافة الأخرى من الفنون سواء المسرح أو السينما أو الفنون التشكيلية إلى درجة جعلت جلّ المثقفين ينظرون إلى الدولة السعودية باعتبارها منبرًا للفتاوى الدينية وناشرة للكتب ذات التوجّهات الإسلاميّة بكلّ أنواعها وأحجامها وأشكالها. ويأتي إنجاز المسرح الوطني السعودي ليقلب المسلّمات ويدعو المثقفين العرب لإعادة النظر في قناعاتهم الراسخة ومراجعة أطروحاتهم العالقة ومحاولة البدء في تغيير العقليات والأذهان والأفكار المسبقة.
    رابعا: قرأنا في كتب التاريخ أنّ الجزيرة العربيّة مهد أجدادنا ومصدر ثقافتنا وجذور لغتنا وعنوان هويتنا كانت تزخر بتراث مشرق سواء أكان هذا التراث ماديّا أم لا مادّيا. من ناحية التراث المادّي لابدّ أن نذكّر بمكانة تلك الكهوف والكتابات والرموز والمغاور الّتي عمّرها البشر وترك فيها آثاره العلمية والفنية وهي مواقع تناثرت في شبه جزيرة العرب ودلّت على أنّ سكّانها لم يكونوا رعاة إبل فقط بل كانت لهم ثقافة تضارع أعرق الثقافات. أما التراث اللامادّي فقد قرأنا في كتب الأدب انتشار الأسواق الأدبية مثل سوق عكاظ وذي المجاز وذي المجنّة حيث كانت تقام شتّى أنواع العروض الحيّة رقصا وغناء ومباريات شعرية تنافس فيها شعراء فحول  ورقصت فيها جوارٍ وغنت فيها فنانات من أعراق مختلفة.
    قدّم المسرح الوطني السعودي برئاسة الأستاذ عبد العزيز السماعيل الكاتب المسرحي الذائع الصيت والذي سوف تزداد شهرته بعد أن يصبح المسرح السعودي معتمدًا على محترفين وتقنيين وفنانين لا يقلّون إبداعية عن غيرهم من الفنانين العرب إذ أنّ المخرجين والممثلين السعوديين الّذين وجدوا منبرا وركحا يقدّمون عليه وفيه وبه ومعه أعمالهم الإبداعية ذات اللمسات الاحترافية.
    قدّم المسرح الوطني السعودي عمله الافتتاحي (درايش النور) أو نوافذ النور وكان هذا العنوان لأول عمل مسرحي شديد الإيحاء وبالغ الدلالة فالنوافذ فُتحت والنور دخل ولم يكتف بالنوافذ فأضاف الأبواب وكان نور المسرح الّذي سيضيء سماء الثقافة السعودية بتعبيرة فنيّة تدعو إلى التسامح وتنبذ العنف وتؤمن بالحوار وهي تعشق الجميل والجمال.
    تحياتي للأستاذ عبد العزيز السماعيل وتحياتي للمسرح السعودي الّذي سوف يحقّق توازنا في النتاج المسرحي العربي بإنارة ضلع جنوبه الشرقي.
    ننتظر مساهمتكم في تطوير المسرح العربي وأنتم على ذلك قادرون.

عن الشروق

التعليقات مغلقة.