نحن ومصر .. أواصر وأعاصير

نحن ومصر .. أواصر وأعاصير
  • 02 مارس 2020
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

كلما تنخفص الطائرة لتهبط بنا في ميناء القاهرة الجوي أحس بحبل سري يشدني لأرض الكنانة فبعض أهل أمي في محافظة أسوان وأعمام أبي المصريون يعيشون في القاهرة بعد أن خرج من البلد جدهم ولم يعد، وكذا ابن عمي من زوجته المصرية. وبعض خالاتي ولدن في الفيوم حيث كان جدي شرطيا حتى تقاعد صولا وأولاد عمي في عين شمس .. هذا على سبيل المثال وكثيرون علائقهم أقوى، وبعضهم بجنسيتين. وخدم والدي جنديا مع القوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية في مصر وأخ من الأهل أنجب ولدا من عائلة السادات،

الذي خدم والده في السودان وتعود جذور والدته لبارا، التي طالبته برفع الأذان عبر الراديو والتلفزيون لتعرف مواقيت الصلاة وكان القرار الأول في هذا الصدد. ومن هنا كان السادات يردد:
علاقتنا بالسودان عائلية
وتسجل دوائر زواج السودانيين بالخارج أن أعلاها الارتباط بالمصريات هذا رغم زهدي في جدوى التزوج بالأجنبيات، وظللت منذ وقت بعيد أردد:
ال ما تعرف الكسرة والملاح
ووردي والكابلي ما تلزمنا
سألت دبلوماسيا صديقا عن شقيقه فقال مازحا:
صاحبك مما تزوج مصرية ما لاقينه!


محمد نجيب أول رئيس لمصر بعد الثورة على الملكية ولد في السودان وأقاربه يعيشون في الدامر وكان قلبه على السودان وفي كتابه ” كنت رئيسا لمصر ” يقول إنه ترعرع صبيا في دلقو حيث كان والده مأمورا في المركز وإنه تعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد العمدة فرح صالح بدلقو، الذي أصبح ابنه سيد فرح بطل ثورة ١٩٢٤ لاحقا مديرا للحدود ومحافظا في مصر. وسمعت من كبارنا أن الحاج محمد إدريس علمه العوم.


أوصى نجيب بدفنه في السودان وبكل هذه الحميمية واهتمامه العالي بالشأن العام السوداني سمي به أحد أكبر شوارع الخرطوم.


لقد قادتني الظروف وربما الحظوظ لزيارة دول عديدة غير أني لا أجد براحي بالخارج إلا في أم الدنيا وكذا كثيرون بحكم روابط الجغرافيا والتاريخ والمصاهرات والتداخل، بجانب أنهم يمتازون بمعسول الكلام فيطربك ما تسمع إلا إن أخطأت وتجاوزت فما عليك إلا الاصطبار على جمرات الكانون، التي تسببت في إشعالها وإلهابها.


يسألني من ألتقي من المصريين إلى أي البلاد أنتمي؟ فأقول إلى بلاد النوبة التي كانت ممتدة حتى الجيزة يزرع أهلها شواطئ نيلها ويمتلكون حتى تدفقت الهجرات المتتالية على مصر ما جعل أسلافنا يتراجعون جنوبا فنحن من أهل مصر، وأضيف:
وفي السودان كان النوبيون ينتشرون في المناطق الممتدة بين البحر الأحمر والنيل ولكنهم انسحبوا شمالا بتوغل هجرات تموضعت مكانهم. والخرائط التاريخية القديمة تؤكد هذا. يكفي أن ألان مورهيد مكتشف منابع النيل الأبيض يشير في كتابه إلى أنه وجد نوبية عادلة تحكم شندي المزدهرة تسمى ستنا.


أعود إلى موضوعنا فأقول إن علاقتنا بمصر استراتيجية لن نستطيع فطمها وإن أردنا لتشابك الصلات والمصالح، والشعبان عسل على لبن، لكن ما يعكر صفوها أطماع الساسة وأهواؤهم ففي الوقت الذي تنهمك فيه مصر جاهدة في تمصير مناطق حلايب وشلاتين ومحاولة جعله واقعا مستغلة ضعفنا وهواننا، التي احتلتها رد فعل لمحاولة اغتيال حسني مبارك الخاطئة، بل كان هناك اتجاه لاقتحام السودان عسكريا لكن رفضه مبارك، كان من الأصوب اللجوء للتحكيم الدولي، الذي ترفضه مصر، كما فعلت ليبيا وتشاد حيال قطاع أوزو، الذي كان متنازعا عليه بينهما فوضعت الحرب أوزارها بعد أيلولتها لتشاد ” بالقانون”. والسودان الذي يملك من الوثائق ما هي كفيلة بأحقيتها، الذي ساعد مصر بها على استرداد طابا من إسرائيل قادر على انتزاع حقه عاجلا أو آجلا وإلا كيف يصبح الهدندوي مصريا؟


إننا لا ننسى أفضال اخت بلادي الشقيقة فحسبها تخريج أفواج طلابنا من جامعاتها، بل من فرع جامعة القاهرة بالخرطوم، غير أن السودان وقف مع مصر في أحلك ظروفها ومعاركها بالسلاح والمناصرة .. ألم يحارب أبطالنا في الجبهة على القناة ببسالة واحتضنت قاعدة وادي سيدنا الجوية أسراب المقاتلات المصرية خلال العدوان الإسرائيلي؟ ألم يكن السودان بجانب عمان والصومال، الذي ناصر مصر حين انقلب عليها العرب غداة عقدها معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل حتى إنهم نقلوا مقر الجامعة العربية لتونس؟
ثم إن السودان تنازلت عن وادي حلفا العزيزة وقراها لتؤمن مصر ماءها وكهربتها حتى دون أن تمد شمالنا المتاخم بالتيار.


وفي ذلك قال واحد من أهلنا في حلفا إن المبلغ الزهيد الذي دفعته مصر تعويضا لا يساوي إغراق قبر والده .. وصدق.


فهل يرخي الساسة آذانهم ويحكمون عقولهم لطي الخلافات الحدودية بما فيها نتوء حلفا المنزوع غصبا لتصفو العلائق الأزلية الممتدة في وادي النيل منذ أن حفر النيل الرابط الأزلي بعنفوانه حوضه الخصيب منذ ٣٠ مليون سنة؟

أختم بطرفة تحضرني اللحظة تتصل بالرئيس نميري، الذي باغت مصلحة حكومية مبكرا وأخذ يعاقب المتأخرين فجاءه حلفاوي وعلل بأن وفاة حبوبة الجيران أخرته، فرد نميري:
لماذا لم تعز وتحضر لعملك فورا؟
فرد الحلفاوي بظرف وكانت المناسبة قريبة:
انت لما توفي عبد الناصر قعدت ٧ أيام ال سألك منو؟
فضحك نميري حتى مال من كرسيه وهو يقول:
فضل ادخل
انت ما تنقدر


صفحة أشواط العمر في فيس
القاهرة

الوسوم أنور-محمدين

التعليقات مغلقة.