“لن يمشوا وحدهم ..  أبداً”

في ذكرى هيلزبورة و30 يونيو، متى ترتاح أرواح الضحايا؟

في ذكرى هيلزبورة و30 يونيو، متى ترتاح أرواح الضحايا؟
محمد سليمان
  • 01 يوليو 2017
  • لا توجد تعليقات

محمد سليمان

في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي كانت كرة القدم الإنجليزية، والتي كنا نتابعها عبر مقاطع ينقلها تلفزيون أمدرمان كيفما اتفق، إحدى المتع القليلة التي توفرها الخرطوم. كان فريق ليفربول يتسيد الملاعب حينذاك، لا في إنجلترا وحدها، وإنما على نطاق القارة الأوروبية. لم يكن فريقي المفضل لاعتماده، في نظري، على القوة البدنية أكثر من المهارات الفنية، وقد ازداد نفوري منه عندما عرفت أنه كان الفريق المفضل للرئيس الأسبق جعفر النميري الذي دعاه لزيارة السودان في 1982.

غير أن ذلك لم يحل قط بيني وبين الاعجاب بخصال وصفات اتسم بها أداء الفريق في كل مبارياته، وهي تلك اللحمة الحميمة، والشجاعة المتناهية، والإصرار الذي لا يلين، والبذل والكفاح من بداية المباراة حتى نهايتها. وكنت أسائل نفسي من أين استمد الفريق تلك الخصال، التي يتغير اللاعبون ولا تتغير. يعتزلون ويأتي من يخلفهم ولا تتبدل، وقد وجدت بعض ذلك في ثنايا قصة كارثة ملعب هيلزبورة.

منذ الصباح الباكر في ذلك اليوم، 15 أبريل 1989، أي قبل 75 يوماً فقط من انقلاب الجبهة القومية الإسلامية على الديمقراطية في السودان وسيطرة أحد أكثر أنظمة الحكم دموية وقمعاً وفساداً على مقاليد الحكم، أخذت جموع مشجعي فريق ليفربول تتقاطر إلى مدينة شيفيلد، لحضور مباراة الدور قبل النهائي في كأس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم بين فريقهم وفريق نوتنجهام فورست.

كان من المقرر أن تجرى المباراة على ملعب هيلزبورة في مدينة شيفيلد، والذي لا يتسع لأكثر من 35000 من الحضور.  وعندما أطلق حكم المباراة صافرته معلناً بدايتها كان الآلاف من مشجعي ليفربول ما زالوا خارج الملعب يحاولون الدخول عبر ممر ضيق، ولم تحسن الشرطة التصرف، فقامت بفتح الأبواب الخطأ أمام الجماهير لمدرجات كانت مكتظة وممتلئة عن آخرها أصلاً، فحدث تدافع هائل، وضغط رهيب على من هم في مقدمة المدرج، حتى انهار بهم السياج الحديدي الذي يفصلهم عن أرضية الملعب، وتحطمت الحواجز، وطحنت الأجساد بعضها بعضا، وسحق البعض تحت أقدام الآخرين، وحدثت الكارثة. وفي دقائق معدودات كان ستة وتسعون من مشجعي ليفربول، تتراوح أعمار ثمانين أو أكثر منهم بين العاشرة والثلاثين سنة، قد فارقوا الحياة، وأصيب ما لا يقل عن 750 شخصاً آخر ين، كسوراً وكدمات واختناقا.

لم تضع شرطة جنوب يوركشاير زمناً لتشرع في صرف الأنظار عن فشلها المريع في الحفاظ على الأمن والأرواح، فمباشرة عقب إلغاء المباراة، شرعت في تحميل المشجعين المسئولية عما حدث، متهمة إياهم بالسكر والعربدة، ولم تتوان بعض الصحف اللندنية الغوغائية عن تزييف الأحداث، وإطلاق النعوت والأوصاف على الضحايا، متهمة إياهم بالسكر حد الثمالة وبتحطيم الممتلكات العامة.

وعندما انقشع الغبار، وصمتت الضجة، كان الجناة قد هربوا بفعلتهم، وأصبح الضحايا هم المجرمين.  لعل إنجلترا لم تسبق “الإنقاذ” ب 75 يوماً في كوارث القتل الجماعي فقط، وإنما أيضاً في كيفية تزييف مشهد الجريمة وتحميل الضحايا وزر سفك دماء أنفسهم، ولا فرق بعد ذلك إن سميتهم مخمورين أو “شذاذ آفاق”، ولعل من حسن حظ ضحايا الكارثة أنه لم يكن في إنجلترا وقتها مدير لجامعة الخرطوم ليتهمهم بتدخين “البنقو” ايضاً.

ولكن أهل ليفربول وعائلات الضحايا وأصدقاءهم لم يكتفوا فقط برفض روايات الشرطة والصحافة الغوغائية وأكاذيبهما وإساءاتهما وتزييفهما للأحداث، وإنما تكاتفوا جميعاً، في لحمة حميمة، وشجاعة متناهية، وإصرار لا يلين، وأعلنوا أنه لن يهدأ لهم بال، ولن يغمض لهم جفن، ولن تنتهي المباراة، إلا حينما تظهر الحقيقة، ويبرأ الضحايا، ويدان المجرمون الحقيقيون والمتآمرون، وتسود العدالة. هنا عرفت من أين استمد فريق ليفربول تلك الخصال.

وعلى مدى ما يقارب الثلاثة عقود، لم يحنث أهالي الضحايا وأصدقاؤهم ومواطنو ليفربول بعهدهم، وإنما كونوا الروابط والجمعيات لتنظيم عملهم، وعلى رأسها جمعية دعم أسر هيلزبورة، وأسسوا الصناديق المالية لتغطية نفقات انشطتهم والمصاريف القانونية، وتحت شعار “الحقيقة والعدالة” تنادوا واجتمعوا في كل سنة لإحياء ذكرى أحبابهم وليجددوا العهد، وحينما صدر الحكم الأول في 1991بأن الضحايا راحوا ضحية الموت العرضي، رفضوه ووسعوا حملتهم وزادوا ضغوطهم وأعادوا رفع قضاياهم، ولم يكلوا ولم يملوا في جهدهم لفتح تحقيق موسع في الأحداث وتحديد المتهمين الحقيقيين، وفي ديسمبر  2012، أصدرت هيئة قضائية أخرى قراراً بنقض حكم 1991، وفتح تحقيق جديد في القضية، ما استدعى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى التصريح وقتها بأن “مشجعي ليفربول كانوا ضحية افتراءات الإعلام و الشرطة” مقدماً اعتذاره لأسر الضحايا. وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات محصت فيها هيئة المحلفين آلاف الوثائق واستمعت إلى سيل غزير من الشهادات، فيما عرف بأنه أطول قضية في تاريخ التقاضي في إنجلترا، وفي الأسبوع الأخير من أبريل المنصرم، أصدرت قراراها بأن الضحايا قد قتلوا عن دون وجه حق، مبرأة الضحايا وجماهير ليفربول، ومحملة شرطة جنوب يوركشاير المسئولية عن مقتلهم، وأنها قد تسببت أو ساهمت في وقوع الكارثة، ومن ثم قامت بالتلاعب بالأدلة والتستر على الحقيقة.

وفيما اتجه تحقيق جديد لتحديد ما إذا كان هناك ما يستدعي المساءلة الجنائية، تقدم رئيس شرطة جنوب يوركشاير باعتذاره العلني لعائلات الضحايا وجميع المتضررين، وأعلن قبوله المطلق بلا أدنى تحفظ لكل ما توصلت إليه هيئة المحلفين، قبل أن يتم إيقافه عن العمل “بعد أن فقد الناس الثقة في الشرطة التي ظلت تكذب طيلة 27 عاماً”، فيما اعترف ضابط الشرطة الذي كان مسئولاً عن الملعب في يوم الكارثة بأنه قد أطلق كذبة فاجرة حينما اتهم الجماهير حينها بأنها قد اقتحمت الملعب عنوة.

وفي ظهيرة27 أبريل من العام الماضي، 2016، أي بعد 27 عاماً من المأساة، اجتمعت أسر الضحايا وأصدقاؤهم والآلاف من مشجعي ليفربول، أمام مجلس مدينة ليفربول، حيث أوقدوا ستة وتسعين شمعة، ووضعوا ستة وتسعين وردة حمراء على درج القاعة، وقرعت أجراس المدينة ستة وتسعين مرة، ثم في تؤدة وعلى مهلهم تلوا أسماء الضحايا واحداً تلو الآخر، تكريماً لهم وشهادة بأن ذكراهم لن تذروها الرياح.

تتدافع المذابح والمجازر في بلادنا، بعضها يأخذ برقاب بعض، هيبان الأولى وهيبان الثانية وآزرني وسبتمبر، الأماكن والشهور، والحبل على الجرار. ترى كم من الضحايا لقوا حتفهم في مختلف أصقاع هذه البلاد دون أن يعرفهم أحد، دون أن يسمع بأسمائهم أحد، دون أن يرى صورتهم أحد، دون أن يعرف كيف قتلوا أحد، دون أن يعرف قاتلهم أحد، دون أن يحتفي بذكراهم أحد، بل ودون أن يذكرهم أحد.

طافت بذهني وأنا أشاهد احتفال ليفربول بسطوع الحقيقة وسيادة العدالة، صورة العيلفون، في مطلع أبريل 1998 عشية عيد الأضحى، حينما أطلق حراس معسكر التجنيد القسري النار على المجندين، الذين تراوحت أعمارهم الغضة بين الخامسة عشر والخامسة والعشرين، وقتلوا منهم في دقائق معدودات عدداً تجاوز في بعض الروايات المئتين، إما بالرصاص الذي أمطروا بوابل منه على ظهورهم، أو غرقاً في النيل إذ ألقوا بأنفسهم في لجته هرباً وطلباً للنجاة. “رأيت زملائي يحصدهم الرصاص ويبتلعهم الموج” تلك شهادة أحد الناجين القلائل. وقبل أن تشرق شمس اليوم التالي كانوا قد دفنوا الجثث في عدة مقابر في الخرطوم وأمدرمان لإخفاء آثار الجريمة. تلك لم تكن كارثة، وإنما مجزرة. والضحايا لم يموتوا إثر حادث، ولا بالخطأ، أو عن غير عمد، وإنما قتلوا عمداً وقصداً وكل جريرتهم كانت أنهم طالبوا بقضاء عطلة العيد مع ذويهم، برهة قليلة قد تخفف عنهم دعوة حانية من أم، أو بسمة راضية من أب، أو ضحكة شقية من أخ أو أخت، عنت وإذلال وعسف المعسكر. ولكن العيد لم يخلق لهؤلاء، لأنهم كما قال صلاح أحمد إبراهيم عن أسلاف لهم قضوا اختناقاً قبل ستين عاماً، كانوا أدنى قيمة حتى من “حزمة جرجير يعد كي يباع”،
“لكنهم رعاع، من الرزيقات، من الحسينات، من المساليت، نعم رعاع
من الحثالات التي في القاع”

حتى الآن، وبعد ما يقارب العقدين من الزمان، لا نعرف على وجه التحديد كم صبياً في تلك الليلة قتلوا، دع عنك أسماءهم، ولا نعرف على وجه التحديد من أصدر الأمر بإطلاق الرصاص عليهم، ولم يتم توجيه أي اتهام لأي جهة، بل ولم يتم فتح أي تحقيق عن المجزرة، ولازالت ضفة العيلفون حافية من الورد*. كل ما نعرفه أنهم في تلك الليلة الدامسة الدامية، حينما انفجر الرصاص، واندلعت العصافير هاربة من أعشاشها والأغصان، واستحال النيل الأزرق قانياً … مشوا وحدهم .. ثم “ران السكون*” ولا يزال!.

وفيما لايزال الصمت والسكون يطوقان السودان، وإذ يستقبل الوطن الذكرى الثامنة والعشرين لسطو “الإسلاميين” على دفة الحكم في الخرطوم وتنصيبهم لسلطة ما عرفت البلاد مثيلاً لها في القمع والقهر والفساد، أعلن الإدعاء العام لحكومة صاحبة الجلالة في بريطانيا أن لديها ما يكفي من الأدلة لتوجيه تهم جنائية لستة اشخاص من بينهم عدد من كبار ضباط الشرطة في مقاطعة ساوث يوركشير عند وقوع كارثة هيلزبورة، وأنها قد وجهت إليهم تلك التهم بالفعل. أخيراً حصلت جماهير ليفربول على الحقيقة والعدالة، هدأت أرواح الضحايا في السموات، وارتاحت ضمائر أحبائهم على الأرض، وحق لهم أن يشدوا أنشودة ليفربول الخالدة “لن تمشي وحدك .. أبداً”. فمتى ترتاح أرواح الضحايا في السودان؟

*الإشارات لقصيدة الشاعر فضيلي جماع “الورد ينبت في العيلفون”.

 

 

الوسوم محمد-سليمان

التعليقات مغلقة.