قصة قصيرة: يا لطيف

قصة قصيرة: يا لطيف
  • 13 يونيو 2020
  • لا توجد تعليقات

عبدالإله زمراوي

كانت نساء القرية التي كنتُ أعيش فيها يتحلقن بشغفٍ أمام التلفاز الوحيد القابع على مقربة من دكان “حاج العطا”، الذي غالباً يغط في نوم عميق، مع شخيرٍ موسيقي بديع يشبه موسيقى الريف الإنجليزي القديم. لا يعبأ كثيراً بالتأريخ وتضاريس الجغرافيا؛ خفيف الظل حديثه كهبوب النسمة الباردة في عزّ الهجير؛ لذلك كان الناس يأتون من حقولهم ليلاً للمسامرة والحديث في السياسة وتَتبُع الأخبار لأسعار القمح والفول والتمور في الخرطوم.

كان هذا الدكان الصغير ملاذاً لليتامى والأرامل؛ يدخلون بابَه الصغير منحنين قليلاً او كثيراً؛ لشراء الكبريت والملح والسكر والشاي؛ دون أن يقوم من عنقريبه؛ لإيمانه بان اهل قريتنا ليس بينهم سارق؛ وكانوا يكتبون ما اشتروه من أشياء صغيرة في دفترٍ بالٍ؛ قيل إنه قد ورثه عن جدنا الكبير.

كانت الحجة عطيات زوجة حاج العطا تسرع بخِفّة ورشاقة لإعداد فناجين القهوة بالزنجبيل للنساء اللائي يحضرن كل أسبوعٍ للاستماع لمواعظ الشيخ المُلتحي؛ الذي ظهر فجأةً، ودخل حياة القرويات بتلك المواعظ التي كان يختمها دوماً بذرف الدموع، وهو يدعو المؤمنين والمؤمنات؛ على الاقتداء بسُنّة بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في التقشف والزهد.

وعندما يأتي لذكر ربط بطنه الشريف بالحجارة لسد غائلة الجوع؛ يطلق الدموع مدراراً حتى يُخال للمشاهد بأنها دموعٌ تخرج من نافورة صغيرة. وعندئذ تدخل النسوة في نوبة بُكاء طويلة بأصواتٍ جماعية، كأنهن يبكين في بيت عزاء مع أُم شابٍ يافع ابتلعه النيل. لذلك دأبت الحاجة عطيات على وضع مناديل ورقية أمامهن؛ حتى لا تختلط دموعهن في فرشها الجديد؛ الذي اشترته من سوق سعد قشرة بالخرطوم بحري قبل عام في أثناء زيارتها لأخيها الذي يعمل في النقل النهري سائقاً لبنطون الحكومة.

كانت النسوة لا يشاهدن شيئاً في التلفاز سوى دروس الشيخ الملتحي ذارف الدموع كل أسبوع من قناة السودان؛ بحيث ينشغلن في الزراعة صباحاً ثم الطبخ وتنظيف البيوت بقية النهار. كانت الواحدة منهن وخاصة زوجتي تتباهى بدروس الشيخ الملتحي، وتُحدث بناتها بحماسة بالغة ثم تختم بدعاءٍ ورثتَه عن جدتها ونؤمن جميعاً بصوتٍ اوركسترالي آمين.

كان حاج السنهوري القادم من الجزيرة ايام فيضان النيل الشهير سنة ١٩٤٦م معروفاً بتدينه الصوفي، وكان يردد بصوتٍ سيمفوني جميل اسم الجلالة “يا لطيف” حتى صار معروفا بين الناس بتلك الكلمة التي تجري على شفتيه كجريان الماء في الغدير. كان رجلاً نسيج وحده يُشاهده المارة والجالسون القرفصاء دوماً ممتطياً ظهر حمارته البيضاء التي كان يتباهى بها ويسميها القصواء تيمناً بناقة الرسول الأعظم. ومن كثرة ترديده لاسم الجلالة نسي الناساإسمه ودرج الاطفال في القرية على تسميته بالحاج “يا لطيف”.

كان الولي الصالح السنهوري؛ كما كنتُ أناديه دوماً؛ في حاله هاديء السِمت لا يتحدث كثيراً إذ تشغله ترديد “يا لطيف يا لطيف” في غدوه ورواحه. إلا انه كان يخرج عن طوره، ويتحول فجأةً لأسدٍ هصور؛ يرفع عقيرته بالصياح؛ غاضباً عندما تقع عيناه الواسعتين على النسوة وهن يتحلقن مشدوهات حول التلفاز كمن يشاهدن مباراة مهمة في الدور الإنجليزي ؛ وكان لا يزيد على ترديد العبارة الثابتة التي حفظناها عن ظهر قلب من كثرة تردادها (يا نسوان هوووي الزول دة ابو دقينة دة حرامي كبير)؛ فتهُبُ الحاجة عطيات من جلستها الملوكية، وتصيح بصوتها الرنان الجميل (يا مولانا حرام عليك؛ عليك النبي شوف دقنو وشوف التقوى في الجبين وشوف دميعاتو الجاريات زي المطر) ثم تدخل بعد ذلك في نوبة بكاء مريرة؛ وهي تمد يدها لالتقاط المنديل تمسح بها دموع احزانها. عندئذٍ يهُب الشيخ السنهوري مُسرعاً لحمارته التي غالباً ما يتركها مربوطة على جذع نخلة قديمة تشكو حالها للزمن قُبالة الدكان، ويبدأ في الصياح بصوتٍ جهوري مزلزل يأخذُ بتلابيب السامعين؛ كأنه آذان الفجر المُهيب (الحرامي الحرامي أبو دقينة يومو قرّب خلاص)؛ ويقطع المسافة وهو يؤذن في الناس بين أقصى نقطة في القرية الى أدناها في دقائق معدودة، حتى يُخال اليك بان حمارته القصواء تلك تملكها نشاطٌ محموم، كأنها تسابق الريح المُرسلة.

وفي الحقيقة كانت دعاية الشيخ السنهوري تلك سبباً كافياً لانتشار برنامج الشيخ المُلتحي ذارف الدموع، وذاع صيته حتى بلغ المسجد الوحيد في القرية الذي يؤمه الصغار والكبار والنسوة، وصار الامام الرجل الطيب الأزهري منوّر يستشهد بالبرنامج، ويحث المؤمنين والمؤمنات على متابعته بقلبٍ صادق أمين حتى يجدوا الأجر والثواب العظيم منٍّ الله.

وهكذا صار برنامج الشيخ المُلتحي الدامع العينين والمُسمى “بالرحيق المختوم” قِبلة كل اهل القرية والقرى المجاورة على ضفتي النيل.

وكانت الحجة زكية تستغل وجود النسوة أمام الدكان وتُسر، وتهمس في آذانهن بسرٍ غامض انتشر في ما بعد كانتشار النارِ في الهشيم. وهي كما تقول سيرتها من ذوات الجاه والسلطان؛ حيث تربت في قصر أحد الباشوات في القاهرة ودرست حتى أكملت المرحلة الثانوية، وكانت تستشهد دائماً بأشعار شوقي وحافظ ابراهيم. كان سرها الباتع يتعلق بهذا الشيخ المُلتحي دامع العينين؛ إذ يأتيها خِلسةً في أحلامها بصفة دائمة كل ليلة جمعة؛ ويخصها لوحدها بخُطبةٍ منفردة سرعان ما تعيها كاملةً وتنقلها لهن بلكنة مصريةٍ صافية .

صدقت النسوة في قريتنا هذه الرؤى الليلية للحاجة زكية، وصرن يترددن عليها بين الفينة والأُخرى للاستماع لمواعظ الشيخ على لسانها لِما فيها الكثير من البركة والثواب، وصارت تمُد الزائرات ببعض التعاويذ والأبخرة. وهكذا ذاعَ صيتها في كل القرى المجاورة؛ حتى صارت ثرية بما تأخذه من عطايا نقدية او عينية كديكٍ صغير او ملوة تمر بركاوي واحياناً زجاجة سمن بلدي، وكثرت زبائنها بعد ان شُفيت زينب العرجاء من عيبٍ خلقي لازمها منذ الولادة، وحارَ الأطباء في علاجها، كما عالجت ايضاً الشاب نورين الأخرس في ذات ليلة قمرية حتى لهج باسم أُمه نفرين امامنا وكنتُ شاهداً على هذا الحدث المُعجز.

كنتُ أعيشُ آنذاك مزارعاً بسيطاً قبل انتقالي للخرطوم للعلاج؛ أكدح يومي كله في الحقل؛ أسبح قليلاً في النيل ثم اعودُ لبيتي عند القيلولة؛ فأجد زوجتي قد جهزت الإفطار وهي تتحدث دون توقف عن هذا الشيخ الملتحي واطفالي الصغار متحلقون حولها؛ تملأ مآقيهم الصغيرة الدموع السخية.

كنتُ دوماً اكتمُ ضحكتي ولا ابديها عندما أرى هؤلاء النسوة ومعهن زوجتي يجلسن القرفصاء أمام دكان حاج العطا وهن يستمعن للشيخ الملتحي بخشوعٍ بالغ، يذرفن الدموع بنشيجٍ مسموع، وكنتُ أجدُ راحةً عجيبة، وأنا أجلس غير بعيدٍ منهن أسترِقُ السمع بكل حواسي لشخير عمي العطا؛ الذي كنت اتذوقُ حلاوته، كأنني استمع للسيمفونية السابعة. كنت اقرأ في ذبذبات شخيره المتقطع كتّاباً لتاريخٍ موغل في القِدم.

قادني حظي العاثر في ذلك اليوم المليء بالتعرجات؛ فوجدتُ نفسي فجأةً بغير هدى، كأنما كنتُ أُساق سوقاً أمام الدكان؛ وقد امتلأت الساحة عن بكرة ابيها هذه المرة بنسوةٍ غُرباء من قرىً مجاورة مما شدني لمعرفة ما يدور في هذه القرية الوادعة عند منحنى النيل في تلك الساعة العجيبة.

يبدو بأن الحجة عطيات قد أذاعت بين نساء القرية بخبر حفلٍ لتكريم الشيخ الملتحي صاحب الرحيق المختوم يشرفه رئيس الحكومة؛ التي تسمع عنه ولا تعرف اسمه، ولكن تستطيع ان تتعرف على صورته كما قالت لي ذات يوم.

وكدتُ في تلك اللحظة مُحدثاً نفسي أن أجزم بأن أحد الشباب وهو حسني عبدالدائم ممن يسمون أنفسهم بشباب المقاومة الذين تملكوا قلوب أهل القرية بتوزيعهم الخبز وقيامهم بحملات النظافة دون آجر؛ قد حدثهن عن هذا الحفل، وقد علمتُ ذلك بعد ان وجدته يهيئ الدارة للنسوة بنشاطٍ غريب، ويوزع ابتسامته الغامضة، كأنه في يوم عُرسه.

وكانت الحجة زكية أكثرهن نشاطاً وجَلبة تكاد أن تموت شوقاً لمشاهدة حفل التكريم الذي تنقله القناة لشيخها الملتحي ذارف الدموع الذي يزورها في المنام، والذي بسببه حالفها الحظ، وصارت من أثرى نِساء القرية، وتمكنت في وقتٍ وجيز من شراء أسورة ذهبية من الصائغ جاد الرب.

أدار الشاب حسني عبدالدائم؛وهو يردد الشعار الذي كان منتشراً آنذاك في القطر حرية سلام وعدالة؛ مؤشر التلفزيون على قناة السودان. ساد صمتٌ غامضٌ الا من شخير الحاج العطا الذي أدار ظهره للنسوة. وللحظةٍ خُيل لي أن النسوة قد استغرقن في نوم عميق.

أدار الشاب حسني عبدالدائم؛ وهو يردد الشعار الذي كان منتشراً آنذاك في القطر حرية سلام وعدالة؛ مؤشر التلفزيون على قناة السودان. ساد صمتٌ غامضٌ إلا من شخير الحاج العطا الذي أدار ظهره للنسوة. وللحظةٍ خُيل لي بأن النسوة قد استغرقن في نوم عميق.

كان الشاب حسني يشرح بكلتا يديه؛ وبكل ما أوتي من فصاحة للنسوة؛ عن لجنة ازالة التمكين، وكن جميعاً في وضعٍ مشرئبٍ؛ مشرئبات بكامل أعناقهن لرؤية بدر التمام الشيخ الملتحي وهو في كامل حُلّته؛ فإذا بالنسوة يستمعن لافندي يلبس لبس الفرنجة واعتقدن جميعاً بأنه مُقدم الحفل التكريمي.

كان يقرأ من ورقة أمامه أسماء أشخاص حتى كادت الحجة زكية أن تطلق زغرودة عندما نودي اسم شيخها الملتحي صاحب الدموع لولا تدخل إحدى النسوة وهي تتمتم: يا خسارة ما معقول الشيخ طلع حرامي، واختلط الحابل بالنابل ما بين بكاءٍ ونحيب.

كان لابد لي ان أتدخل وانا أؤكد بنشوةٍ غريبة بأن الشيخ المُلتحي ذارف العينين قالت الحكومة في الخرطوم بأنه لصٌ كبير يُقال وزدتُ من عندي دون ان يطلب مني أحد بانه قد سرق اموال اليتامى والأرامل والمساكين..

وانا أجلس القرفصاء بين النسوة مدعياً الحُزن الدفين، رأيت كما يرى النائم في الاحلام؛ الحاجة زكية وهي تسقط من مقعدها المميز الجميل، وهي تصيح كالمجنونة بلكنة مصرية: حرام عليكو مستحيل يا ناس، وأصبحت تتلوى كأنما لدغتها عقربة او ثعبان فقامت زوجتي بقراءة الفاتحة في أذنها حتى استفاقت.

طار صواب النسوة عندما ظهر فجأةً الشيخ السنهوري كالنبي الخضر على حمارته القصواء وهو يقود مظاهرةً من أطفال القرية ويقول بصوته الجهوري: (وحدوا الله لا اله الا الله صدق وعده وهزم الحرامي الشيخ الملتحي)، فيردد الجميع وراءه حتى استفاق عمي العطا من نومه وهب واقفاً كصبيٍ صغير، وصار يردد معهم بصوته الأجش المعهود ذي البَحة المُحببة.

صار الشيخ السنهوري بعد تحقق نبوءته محط أنظار أهل القرية ومزار النِساء؛ يتجمعن زرافاتاً ووحداناً؛ امام بيته الطيني البسيط في اطراف القرية حتى يتبركن بطلعته المُباركة، وهو يُلوِّح بمسبحته المتلألئة فوق رؤوسهن متمتماً بيا لطيف. وانتشر خبر صلاحه وولايته وعم القرى حتى يُقالإن اهل الصعيد في مصر يحضرون أبناءهم للتبرك والشفاء.

علمتُ بعد مغادرتي للقرية أن الحاج عطا قد هجر دكانه الصغير، وصار حوَاراً للولي الصالح السنهوري؛ يلبس المرقع والجبة ويتكيء على عصاه يردد في كل صباحه وليله (الحي الله والدائم الله والحرامي ظهر على يد شيخي السنهوري)؛ وصار مجذوباً ينام اينما حلّ به الترحال..

اما الحجة زكية فقد غادرت القرية، واستقر بها المقام في القاهرة، ويُقال إنها قد أُصيبت بمرضٍ عقلي ولا تتحدث الا بلغة الاشارة، وقد شوهدت في ضريح السيدة زينب تسقي الزوار بالماء بعد أن تقسم بانها ماء زمزم.

وهكذا انتهت اسطورة الشيخ المُلتحي وضاعت دمعاته الغزيرة بين غضب النسوة ودعوات الولي السنهوري

التعليقات مغلقة.