السودان.. حين تتجاوز النخوة و الشهامة كل القوانين

في زمنٍ صار فيه “قانون الوجوه الغريبة” عنواناً للحرب والتمييز والفرز العرقي، يطلّ علينا مشهد آخر، نقيض تماماً، يُعيد إلينا صورة السودان الذي نحبّه ونتشبّث به و نفخر به.
ممرضة سودانية، الأخت رانيا حسن احمد، حكمت عليها محكمة سعودية بدفع غرامة باهظة بلغت ٨٠٠ ألف ريال سعودي. مبلغٌ يفوق طاقة أي فرد، ويهدد مستقبلها ومستقبل أسرتها. لكن ما بدا في لحظة كأنه مأساة فردية، تحوّل في ساعات قليلة إلى ملحمة تضامن وطنية لا مثيل لها.
عندما شاع الخبر بين الجالية السودانية في المملكة، تداعى الناس من كل فجّ. لم يسأل أحد عن قبيلتها، ولا عن لهجتها، ولا عن ولايتها. لم يتفحص أحد لون بشرتها أو أصلها العرقي. كان السؤال واحداً فقط: “كيف نساعد؟”
اتصل بعض الإخوة بـ الاتحاد العام لأبناء دنقلا بالمهجر. وكان المبلغ المتوفر حتى تلك اللحظة هو ٥١ ألف ريال فقط. فجاء ردّ الاتحاد قصيراً، لكنه كان كالزلزال:
“أبشر.”
وفي غضون ٢٣ دقيقة فقط، أودع الاتحاد في الحساب ٧٥٠ ألف ريال كاملة، ليُغلق ملف الغرامة في سويعات، ويكتبوا صفحة من أنبل ما يمكن أن يسجله تاريخ السودانيين في المهجر.
رفض اتحاد ابناء دنقلا أن يُعلن عن موقفهم، وكأنهم يريدونه خالصاً لوجه الله. لكن كيف لنا أن ندفن الجميل؟ كيف لا نرفع القبعات وننحني احتراماً لأهل الفزعة، أهل الشهامة والمرؤة؟
لقد فعلوها من قبل، حين تكفّلوا بسداد ديون أهلنا في كادوقلي، وحين أعتقوا الرقاب من السجون، وها هم يفعلونها اليوم مع أختنا رانيا.
نعم نقولها بصوتٍ عالٍ : كل سوداني دنقلاوي. و كل دنقلاوي مسيري و كل رزيقي دنقلاوي و الكل سوداني
في الوقت الذي يزرع فيه البعض بذور الكراهية تحت لافتة “قانون الوجوه الغريبة”، جاء هذا الموقف ليؤكد أن السودان ليس جغرافيا ممزقة ولا أعراقاً متنافرة. السودان هو هذا المشهد: ابن الشمال ينهض قبل ابن الغرب و ابن الشرق يمد يده قبل ابن الجنوب ، والكل يتسابق ليقول: “أنا سوداني.”
عندما يُغنّى: “يا بلدي يا حبوب.. أبو جلابية وتوب”، فالمقصود ليس اللباس، بل هوية كاملة تمشي على قدمين.
وحين يهمس العاشق: “حبيت عشانك كسلا.. وخليت دياري عشانك”، فهو لا يتحدث عن مدينة، بل عن حبٍّ وطن يقاس بالتضحية.
السودان ليس مجرد وطن، إنه إحساس.. يلبس جلابية مزركشة بكل ألوان الأرض: من بياض النيل، إلى سواد الطمي، من خضرة الجروف، إلى حمرة الرمال
يا سودان، من جبل مرّة إلى شلالات النيل، أنت قصيدة لم تُقرأ بعد، وأغنية لا يكتمل لحنها إلا بضحكات أهلك.
ورغم الحرب والتمييز والتفكك، ينهض من قلبك دائماً ما يذكّرنا بأنك جميل، وستبقى جميلاً.
تحية لاهلنا في دنقلا ، وتحية لكل سوداني أصيل.
لقد رفعتم الرأس، وكتبتم لنا درساً أن الوطن ليس “قانون وجوه غريبة”، بل وجوه متآلفة
تُنقذ بعضها البعض ولو في الغربة.