قمر دورين الضوى (1)

قمر دورين الضوى  (1)
  • 28 يوليو 2020
  • لا توجد تعليقات

د. الطيب حاج مكي


قال تعالى: “وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”. صدق الله العظيم. وفي صحيح ابن ماجه عن عائشه رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (يا أيها الناس أيُّما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبةٍ فليتعظ بمصيبته بي عن المصيبة التي تُصيبه بغيري، فإنّ أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبةٍ بعدي أشد عليه من مصيبتي”.
ورحم الله أبو العتاهيه القائل:
أصبـرْ لكلِّ مصيبةٍ وتجلـدِ  واعلم بأنّ المرءَ غيرُ مخلدِ
فإذا ذكرتَ مصيبةً تسلو بها فاذكر مُصابك بالنبي محمدِ

في السابع من يونيو 2020 صعدت روح شقيقي وأستاذي خضر مكي إلى بارئها وودعه إلى مثواه الأخير عارفي فضله ومحبيه وتلاميذه فضلا عن أوفياء تقاطروا من كل حدب وصوب رغم ظروف الجائحة الصحية المعلومه. وكان الكل يعزي الكل فالفقد واحد المصاب جلل على الجميع. وكأن لسان الحال يقول:
الاثنين نهارًا قايله
يوم ودعت من الزايله
الأملاك دموعن سايلة
وكم هملت يا أبو العائلة
احتفظت بالكلمات التي قيلت في رثاء خضر يوم رحيله من الزايلة (أم بنايا قش)، وهي كلمات من شائع ما كان يَسمع ونسمع. ولكني لاحظت أنها تكاد تتطابق في وصفه وأن الكل أحصى ذات صفاته. يستوي في ذلك الأهل الذين عايشوه وطلابه الذين درسهم وعامة معارفه من بلاد السودان. وتتطابق خاصة فيما عرفنا عنه من علم وزهد ونزاهة فضلا عن قول الحق ولو على نفسه. وقديما قيل ألسنة الخلق أقلام الحق. وأرجو أن تكون تلك الكلمات من بشريات الله للمؤمن في هذه الحياة الدّنيا، وعند المفارقة، وإن شاء الله تكون البشرى في الآخرة.

روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة، من ملأ الله تعالى أذنيه من ثناء النّاس خيرا وهو يسمع، وأهل النّار، من ملأ الله تعالى أذنيه من ثناء النّاس شرّا وهو يسمع ) (رواه ابن ماجة في سننه).

ومع اختلاف البدايات وتفاوت محطات التحصيل وتشعبها فإن التنشئة الأولى لجيل أخي خضر مكي كانت في الأسرة التي ظلت تملأ أذنيه بالثناء على كسب سلفه الصالح، الذي عرف بنشر الدين وحفظ كتاب الله وتحفيظه للناس. ولابد قالت له (حبوباتي) ما قلن لنا لاحقًا، أن لأسرته الممتدة (مسيد) حيثما أقامت. وأنه حفيد لاثنين وعشرين حافظا لكتاب الله. وتسلسل الحبوبات جدودهن كابرا عن كابر وكأنهن يحفظن سيرة مقدسه. ولا تنسى أي من(حبوباتي) أن تورد مقامات السلف من يرقدون في ثراء أم ضبان وفي أم عسل حيث يرقد البرابيش السبعة السلسلة المتبعة وأميرهم المجاهد مع المهدي الإمام (جبل الكسره)، وتعدد مآثرهم ولا تتجاوز مليط وقبب البنية (تالي) نواحي بارا وفي الشوق والأصفر فضلا عن الحفاظ الأقدمين الذين خلدهم صاحب طبقات ود ضيف الله.
وهكذا تميزت بيئة جيل خضر مكي بيئة بقدرما تحث على العلم تفيض بمحنة لامثيل لها. أسرة ممتدة كل بيت مفتوح على بيت ويغرق الطفل في محبة وحنو لا يعرف معه الطفل الشقاء والمعاناة والضيق الذي حل بنا لاحقا. ومع أن حياة القرية لا تعرف الكهرباء ولا تتوفر فيها المياه إلا بشق الأنفس، وأن المدارس هي خلاوي قرآنية تشد إليها الرحال ولكن النفوس طيبة ولدى الناس نزوع لغرس المحبة وقبول الفرد واحتضانه ومساعدته وخاصة في تلقي العلم. هكذا دخل خضر الخلوة التي لم تكن تبعد عن بيتنا سوى أمتار قليله. ثم أرسلته الأسرة إلى (البحر) لكي يحفظ كتاب الله. وعندما وصل إلى ود الفادني أسعدته جدية شيوخها وسهرهم على تحفيظ الطلاب للقرآن. ثم انتقل إلى النيل الأبيض حيث (سمع) القرآن في قرية الصفيرايه. وخلق صداقات عميقه كونها عبر التآخي في الله الذي تمدد فيما بعد وترسخ مع الأيام. مع ذلك طلب منه الوالد الذهاب لأم درمان لتلقي المزيد من العلم في معهد أم درمان. غادر خضر الصفيرايه ببعض إحساس ووجع في قلبه من حزن على فراق زملائه في الخلوة وخاصة أولاد الشيخ أحمد ود عوض الله رحم الله الجميع. وفي محطة أم درمان تطول به الإقامة وتتعدد مشارب تلقي العلم. كانت حلقات العلم يومئذ تحاكي حلقات الجامع الأزهر. وكان مسجد أم درمان العتيق في وسط البلد هو موئل العلم ومكان علماء المذاهب الأربعة. أيضا كان مسجد الإمام المهدي مكانا لمن يريد تلقي دروس في تفسير كتاب الله. وقد كانت حلقة الإمام الهادي يوم الثلاثاء من كل أسبوع. بعد ثلاث أعوام من الاجتهاد والمثابرة زاد الحنين وفاض بخضر فعاد (للحلة). وكان احتفاء الوالده به حفيًا وكان احتفال الأسرة به مدهشاً. احتفالا يليق بأول ابن من المنطقة يدخل معهد أم درمان العلمي. وفي هذا الاحتفال يتحدث خضر حديثًا جعل شقيقته آمنه تسميه (قمر دورين) وتسميه حبوبتي أم زين العالم ولعائشة بت الهادي اسم.

إلى لقاء

التعليقات مغلقة.