الحكم اللامركزي يفارق “الدستورية” وروح الثورة (5) ..مراجعات مطلوبة لتصحيح مسار القانون

الحكم اللامركزي يفارق “الدستورية” وروح الثورة (5) ..مراجعات مطلوبة لتصحيح مسار القانون
  • 29 أغسطس 2020
  • لا توجد تعليقات

استعرضنا في أربع حلقات مضت رؤيتنا القانونية حول مشروع قانون تنظيم الحكم الاتحادي، والعلاقة بين أجهزته لسنة 2019م، والملاحظ أن الوثيقة الدستورية اهتمت عند تحديدها مهام الفترة الانتقالية بالإصلاح القانوني، وإعادة بنائه لضرورة ذلك في البناء المؤسسي، وحوكمة إدارة الدولة.

لقد نصّت المادة 8 الفقرتان (2) و(5) من الوثيقة الدستورية على إلغاء القوانين والنصوص المقيدة للحريات، أو التي تميّز بين المواطنين على أساس النوع، وإنفاذ الإصلاح القانوني، وإعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية، وضمان استقلال القضاء، وسيادة حكم القانون.

 كما تضمنت الوثيقة في المادة 16(3) ضمن مهام مجلس الوزراء في الفترة الانتقالية مهمة ابتدار مشروعات القوانين ومسئوليته في الاشراف على انفاذ القوانين وفق الاختصاصات المختلفة واتخاذ جميع الإجراءات والتدابير الكفيلة بتنفيذ مهام الفترة الانتقالية.

هذا الاهتمام بالجوانب القانونية نابع من أهمية إصلاح القوانين وابتدار مشروعات قانونية جديدة تحقق إحداث النقلة النوعية المطلوبة للانتقال للحكم المدني الديمقراطي، أحد أهم أهدف الثورة ديسمبر المجيدة التي مُهرت بدماء شبابنا ومواطنينا الشرفاء.

إن ما قدمته من قراءة وتحليل ورؤية حول القانون جاء انطلاقاً من المسؤولية الوطنية والمهنية التي تتطلب دعم الحكومة الانتقالية في مسيرتها لتحقيق النجاح المطلوب، وما يمليه الضمير الحي وأخلاق المهنة. وبهذا الفهم فإني أرحب بكل ملاحظة أو نقد أو رؤية حول ما أبديناه من آراء وملاحظات حول القانون، لعل جميعها تساعد على القيام بالمراجعات المطلوبة لإصلاح مشروع القانون.  

من الواضح أن إعداد مشروع القانون وإجازته بواسطة مجلس الوزراء جرى على عجل، ولم يستصحب روح الثورة بعدم النص على مهام أساسية لحكومات الولايات خلال الفترة الانتقالية، كما لم يستصحب مشروع القانون الذي قدمه حزب الأمة القومي تحت عنوان (قانون تنظيم الحكم الولائي)، الذي قُدم لرئيس الوزراء ومستشاريه في بداية يوليو 2020م، ووجد الإشادة من جانبهم، كما فارق مشروع القانون مبادئ دستورية أساسية بتجاهل الفصل الواضح بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الفترة التي تسبق تشكيل المجلس التشريعي.

كما أن مشروع القانون بصيغته لا يحقق مطلوبات الحكم اللامركزي، وهي تضيق من خلال أحكامها سلطات الولايات وقياداتها، وتشكّل قيوداً في ممارستهم لسلطاتهم وصلاحياتهم بالشكل المطلوب؛ إضافة إلى حجب الارادة الشعبية عن حقها في ممارسة والتشريع والرقابة  على الحكومة الولائية، بترسيخ جميع السلطات في يد حكومة الولاية التنفيذية.

إننا نقدم هنا ملخصاً لرؤيتنا، على أمل مراجعة ومعالجة الاختلالات التي صاحبت إعداد مشروع القانون قبل عرضه لإجازته بشكله النهائي في الاجتماع المشترك بين مجلسي السيادة والوزراء؛ تفادياً لما يمكن أن يحدث من تعقيدات في المشهد السياسي حال صدور القانون بشكله المعيب.

 وتتلخص أهم النقاط التي تتطلب المراجعة في الآتي:

أولاً: إصدار القانون بمسمي (قانون تنظيم الحكم اللامركزي والعلاقة بين أجهزته) نتج مننه تداخل بين سلطات واختصاصات الحكم الاتحادي والحكم الولائئ، وهو أمر مربك كان من الواجب تجنبه من خلال إصدار تشريع منفصل لتنظيم الحكم في الولايات تحت مسمي (قانون تنظيم الحكم الولائي)يتماشى ومتطلبات المادتين 4(1) و9 (1) من الوثيقة الدستورية التي تؤكد لامركزية الدولة، وأن تكون لمستويات الحكم المختلفة اختصاصات وصلاحيات حصرية ومشتركة وموارد لكل مستوى حكم يحددها القانون.

ثانياً : نصّت المادة 17(2) من القانون على تكوين المجلس التشريعي الولائي باختيار أعضاء المجلس من مكونات الحرية والتغيير، والمكونات الاجتماعية الأخرى بالولاية، دون تحديد لتلك المكونات؛ وهذا ما يفتح الباب للاجتهادات واختلاف الرؤى، عليه يجب معالجة هذا الأمر من خلال تنزيل ذات المعايير والنسب المنصوص عليها في المادة (24) من الوثيقة الدستورية لسنة 2019م الخاص بتكوين المجلس التشريعي الانتقالي القومي الولائي للمستوى الولائي؛ لتفادى الخلافات، وحفظ التوازن والتوافق السياسي بين مستويات الحكم في الدولة، في اطار الالتزام بنصوص الوثيقة الدستورية.

ثالثاً: ما ورد بنص المادة 23 من مشروع القانون بشأن أيلولة السلطة التشريعية للحكومة الانتقالية الولائية ممثلة في الوالي وحكومته وممثلين عن الحكومات المحلية، من خلال اجتماع مشترك في الفترة التي تسبق تشكيل المجلس التشريعي، أمر مخالف للوثيقة الدستورية، ولمبدأ الفصل بين السلطات لذا يجب تعديل هذه النصوص بالفصل التام بين الجهازين التنفيذي والتشريعي؛ ليكون متوافقاً مع المبدأ الدستوري، والوثيقة الدستورية لسنة2019 م.

رابعاً : جرى  حصر مهام المجلس التشريعي في إصدار القوانين الولائية، وإجازة الموازنة، ومراقبة أداء الحكومة التنفيذية، وتشكيل اللجان المتخصصة والطارئة، وطلب التقارير من أعضاء الحكومة، وإصدار اللوائح المنظمة لأعمالها، مع غض الطرف عن المهام الأساسية للفترة الانتقالية المنصوص عليها في المادة (8) من الوثيقة الدستورية الواجب تنزيلها على مستوى الولايات، إضافة الى عدم النص على السلطات الأساسية للمجلس التشريعي المتمثلة في مراقبة أداء السلطة التنفيذية ممثلة في الوالي وحكومته، وحق المجلس في مساءلتهم، وسحب الثقة منهم عند الاقتضاء تماشياً مع الأحكام  الواردة في المادة (25) (ب) من الوثيقة الدستورية لسنة 2019م

خامساً: لم يتضمن مشروع القانون الشروط والمعايير الأساسية الخاصة باختيار الولاة والمتفق عليها بين شركاء الحكومة الانتقالية المتمثلة في الايمان بأهداف الثورة، والتمتع بالسند الشعبي في الولاية، والإلمام بقضاياها وتركيبتها السكانية والثقافية والاجتماعية، وألا يكون الشخص ممن شاركوا في مؤسسات وأجهزة الحكم في ظل النظام البائد عند سقوطه، وأهمية هذه الشروط تستوجب النص عليها في القانون.

 سادساً: الاحكام الخاصة بصلاحيات الوالي الواردة في القانون صلاحيات إشرافيه وروتينية، ولا يعكس السلطة التنفيذية الحقيقية التي يجب أن يمارسها الوالي في ظل اللامركزية؛ بصفته التنفيذي الأول المسؤول أمام رئيس الوزراء عن أداء مهامه. ومن المهام الأساسية التي غاب النص عنها في مشروع القانون مسئولية الوالي المباشرة عن حفظ الأمن والاستقرار في الولاية إذ اكتفي القانون بالنص على رئاسته للجنة تنسيق الأمن في الولاية، دون تجديد لمهام اللجنة ومسئولياتها ودور الوالي في ذلك، كما يلاحظ أن تسمية اللجنة نفسها بلجنة تنسيق في غير محله إذ أن المسئولية الأمنية من المهام الأصيلة التي يجب أن تمارسها اللجنة برئاسة والي الولاية وليست عملية تنسيقية

سابعاً: إنشاء ما يسمى بالمجلس الأعلى للحكم اللامركزي، وتعيين جهاز تنفيذي برئاسة وزير الحكم الاتحادي؛ ويعد القانون يعد تغولاً على صلاحيات وسلطات حكومات الولايات ويضعف من ممارستها لصلاحياتها بالشكل المطلوب.

ثامناً: غياب الاحكام الخاصة بالأجهزة العدلية في الولاية ممثلة في الجهاز القضائي، والإدارة القانونية للولاية والمحاكم الأهلية، وما يتصل بكل ذلك على ضرورتها من ناحيتي التعيين والإشراف الإداري، وما يجب أن تتمتع به هذه الأجهزة من استقلالية، مع تحديد مهامها واختصاصاتها، وكذلك المرجعية الفنية لكل جهاز، ويصيح من الواجب النص تفصيلاً على ذلك في مشروع القانون

 تاسعاً: غياب مجموعة من الأحكام المتنوعة المهمة الواردة بالوثيقة الدستورية المطلوب استصحابها، وتنزيلها لتمارس على مستوى الولايات عن مشروع القانون، التي تشمل دون حصر، الأحكام الخاصة بالالتزام بالوحدة والتنوع، الديمقراطية، وسيادة حكم القانون، والالتزام بوثيقة الحريات الأساسية الواردة بالوثيقة الدستورية، والتنسيق والتعاون بين الولايات، والدعم المعلوماتي للحكومة الاتحادية والذمة المالية لشاغلي المناصب.

عاشراً: وجود أخطاء شكلية تتمثل في أخطاء لغوية، وعدم الدقة والضعف في تفسير الكلمات والمصطلحات التي وردت في المادة (1) من القانون، إضافة إلى ضعف الصياغة وعدم دقة العبارات، والوضوح في كثير من المواد الواردة بالقانون، وغياب روح الوثيقة الدستورية التي تمثل المرجعية الدستورية وهذا ما يفتح الباب أمام الاختلافات حول تفسير القانون، وإشكالات أساسية في التطبيق العملي. وهذا يتطلب المراجعة والتدقيق للقانون في جميع جوانبه الشكلية.

والله من وراء القصد، وبالله التوفيق.

المستشار البشرى عبد الحميد

التعليقات مغلقة.