السودان: هل حب الوطن إيمان حقاً؟ أم هو تخيلات وأحلام شعراء عشاق وطن؟

السودان:  هل حب الوطن إيمان حقاً؟ أم هو تخيلات وأحلام شعراء عشاق وطن؟
  • 18 أكتوبر 2020
  • لا توجد تعليقات

د/عوض الجيد محمد احمد


الوطن نقطة ارتكاز الإنسان:
من أَجَلِ آياتِ الله سبحانه وتعالى أن خلق الإنسان من طين الأرض وقدر له في الأزل القديم أن يعيش فيها، رغم أنه خلقه في السماء وأسكنه الجنة أمداً لا يعلمه إلا هو جل شأنه، قبل أن يخدعه الشيطان ويغويه وزوجه، فينزلهم الله إلى الأرض. وقد جعل الله جل جلاله تلك المعصية التي وقعت في السماء سببا لتحقيق الأمر – المقدر أصلاً – وهو استخلاف الله للإنسان في الأرض والعيش فيها لا في السماء.

ولكي يعمر الإنسان الأرض حبب الله إليه طين الأرض منذ طفولته الباكرة وحتى موته. فلا يستأنس الطفل منذ يفاعته بشيء استئناسه باللعب بالطين والرمل والماء حتى قبل أن يعي من أمر الوطن والوطنية شيئاً. ذلك أنه من هذه العناصر خُلق. ثم إن الإنسان يألف بيته وتنداح ألفته إلى حيِه وقريته فنواحيه ثم وطنه الكبير.

ويُروى عن المرحوم (طه الضرير) أنه كان- وهو أعمى يشم التراب في (البطانة) الشاسعة فيحدد المكان الذي هم فيه بالضبط. وقد طلب قبل موته أن يحملوه إلى (البطانة) حيث تحسس شقوق الأرض وتنسم رائحة الطين ثم ودع الدنيا مستأنساً مرتاح البال بل وتحدى الدنيا أن تفعل به بعد هذه (الشمَة) ما تشاء.

ويروى أيضاً أن شاعرنا المبدع الشيخ الجيلي بن الشيخ العباس ود بدر (شاعر : ليالي الأنس لذاذ بالحيل) قصدوا به الخرطوم للعلاج من علته التي توفي بها. وعلى مشارف الخرطوم بحري قرروا المبيت لدخول الليل. فقام الشيخ واستقبل القبلة ونظر للأرض الممتدة أمامه والبرق الذي يبشر بإروائها وإحيائها- بشراً وأنعاماً- وأنشد:
الليلة يا القبلة أم سحاباً شايل
شن سويتي في القلعة وسروب ناس نايل؟
واحدين مسَروا وواحدين بسوقوا الشايل
معاك سلامة يا الدنيا أم نعيما زايل

شخص بلا وطن شخص بلا هوية:
قادني لحديث شجون الأرض والديار والوطن هذا ما انتشر في بعض الأسافير من أقاويل يفهم منها أن حب الوطن تعصبٌ بلا أيدولوجية. بل هو عند البعض شرك أو قريب من الشرك. ويلتمس ناشرو هذه الرسائل سنداً متوهماً لها من الدين ويفتشون لها الذرائع والمبررات. كما أن بعضهم يعتقد أن أوطاننا هذه إنما هي ثمرة استعمارية نشأت بسبب اتفاقية سايكس- بيكو الشهيرة سنة 1916 بين بريطانيا وفرنسا. مع أن هذه الاتفاقية محدودة ومحددة في نطاقها وقد تمت بغرض اقتسام منطقة غرب آسيا وبعض ممتلكات الامبراطورية العثمانية هناك. بينما وُجدت الدول الحالية أو كثير منها، وفي منطقتنا خاصةً، قبل هذه الاتفاقية بآلاف أو مئات السنين، ومنها السودان، والجزيرة العربية والعراق ومصر والشامات واليمن والحبشة والمغرب العربي. وكان السودان بالتحديد موجوداً وتبلغ مساحته أكثر من مليون ميل مربع على الأقل منذ بداية القرن التاسع عشر.

تاريخيا كان العالم القديم يميل إلى هتك أية حدود والعمل على تكوين الامبراطوريات العابرة للحدود بالغزو والاحتلال. وفي كثير من الأحوال كانت هذه الحروب التوسعية تقع تحت مختلف المبررات والذرائع الدينية. ولكن جل الغزوات كانت حقيقةً تسعى للكسب والغنائم والمطامع الدنيوية وإن سيقت لها – بحق أحياناً وبدون حق في أكثر الأحيان- مبررات دينية باعتبار أنها تمثل إرادة الرب وتعمل على نشر قيم السماء. ومن هنا تضخمت دول صغيرة نسبيا مثل بلجيكا والبرتغال وبريطانيا وهولاندا والدنمارك بالغزو حتى تضاعف حجمها بمستعمراتها أضعافاً وسطرت النموذج لغيرها من الدول الطموحة للتوسع الفكري أو الجغرافي. فرغم زوال عصر الاستعمار إلا أن البشر هم البشر ومطامع الدول والجماعات من مطامع الأفراد فيها أو هي مجموع مطامع طائفة منهم.

للوطن قداسة رعاها القرآن الكريم:
الأصل في الدين أن النفس البشرية مطلقاً ، والأرض والعرض والدين حرمات لا تنتهك إلا بحق وعدل. (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ). ﴿٨٤ البقرة﴾

وقد ترتب على قتل ابن آدم لأخيه ظلماً وعدواناً أن صار قتل النفس بغير حق عند الله يساوي إبادة البشر جميعا صالحهم وطالحهم. كما ذم الله العدوان على النفس بتقريع شديد لفاعله ثم أعطى الإخراج من الديار أو الوطن نفس القوة:
(ثُم أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) ﴿٨٥ البقرة﴾
وجعل الله كلا الفعلين المنكرين سببا مشروعا لشن الحرب:

(قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا؟ ( ﴿٢٤٦ البقرة﴾
فإن قتلوا أو هجروا من ديارهم ووطنهم كان ذلك ضمن أسباب المغفرة لهم:

(فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴿١٩٥ آل عمران﴾.
وبين الله جل جلاله أنه لم يطلب من خلقه قتل أنفسهم أو ترك ديارهم لأن ذلك يشق عليهم كثيراً.

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴿٦٦ النساء﴾

وعندما تطلبت مقتضيات الدين القتال أو الهجرة عن الوطن والديار عظم الله الأجر جداً لعظم ما كلفه لخلقه من التضحية بالنفس أو الوطن. ومن هنا علا شأن المهاجرين وسما قدر أهل بدر رضي الله عنهم جميعاً. كما أن المولى الكريم لم يتسامح مع العباد حين وصل بهم الصلف أن هددوا رسلهم بالتهجير من الأرض إذا لم يكفوا عن دعوتهم للحق وجعل رده على هذه الجريمة النكراء هلاك هؤلاء القوم الذين وصفهم الله تعالى بالظلم:
(وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين). 13 إبراهيم.
وفي سورة الحج (39-40) : وضح المولى جل شأنه أن الإخراج من الأرض والديار ظلم يبرر القتال ويستدعي نصرة الله جل جلاله:
“أُذن للّذين يقاتلون بأنّهم ظُلموا وإنّ اللّه على نصرهم لقديرٌ الّذين أخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ إلا أن يقولوا ربّنا اللّه ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعضٍ لهدّمت صوامع وبيعٌ وصلواتٌ ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرًا ولينصرنّ اللّه من ينصره إنّ اللّه لقويٌّ عزيزٌ”.

والحق أنه لو كان الوطن بلا قيمة دينية لما كان للقضية الفلسطينية أساس ترتكز إليه. وقد كتب مفكرو فلسطين أبحاثاً رصينة وقدموا دراسات كثيرة في هذا الموضوع.
هل للوطن بديل يغني عنه؟
قد يقول قائل إن الإسلام دين كوني لا يرتبط برقعة أرض فلا يجوز للمسلم أن يرتبط بوطن أو رقعة أرض. ومن هنا يجوز له أن يبيعها أو يخونها من أجل العقيدة. وهذا بالضبط ما وضح المولى عكسه تماماً في محكم التنزيل. والآيات التي أوردناها واضحة بذاتها. وخطورة الفصل بين العقيدة والوطنٍ الذي ترتكز إليه أنها تربط العقيدة بمكانٍ افتراضي لا وجود له.
تاريخياً- ومنذ سنة 35 هجري- سادت دولتان إسلاميتان على رأسهما أميران للمؤمنين أو خليفتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كلاهما قرشي وكلاهما صحابي وكلاهما أبناء عمومةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع تفاوت درجة القربى. ورغم تقاتلهما المرير لم يكفِر أي منهما صاحبه أو يرمه بالزندقة أو النفاق أو الفجور أو أيٍ من المسميات التي افتتن بها بعض المعاصرين من المسلمين.
وقد تنازل الحسن بن علي عليه السلام لمعاوية فتوحدت الدولة الإسلامية. غير أن تلك الوحدة حملت بذور السقوط الدامي للدولة الأموية، كما قاد انفراد الأمويين بالحكم إلى دمار الكثير من قيم الحكم الإسلامي الحق. فقد استأثر الأمويون بزخارف الدنيا وأهانوا واستهانوا بكل مقدس عند الله ورسوله من الأنفس، والأمكنة، والقيم. ولما فاض الكيل بالناس ثاروا عليهم ثورةً نجمت عنها بحق إحدى مجازر التاريخ الكبرى مصداقاً لقول الحق جل شأنه:
(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).
وكما هو الحال عند بعض أصحاب الخلط الديني فإن بعض معتنقي الأفكار (التقدمية) الحديثة لا يعترفون بالأوطان والحدود. كانت الشيوعية مثالاً صارخاً لعالمية الدولة وتمردها عن أية حدودٍ جغرافية. واليوم يجري فرض الديمقراطية كمفهوم عالمي يستوجب تدمير الحدود الجغرافية والوصول لقلب الدول وقتل ساكنيها إذا لم يقبلوا بها وبحقوق الإنسان التي يحددها ويفرضها الذين غلبوا على أمرهم من أهل الغرب (الذي كان مسيحياً). وعلى رأس هذه الحقوق وفي مقدمتها الحريات والحقوق الجنسية للرجال والنساء بغض النظر عن المعتقد الديني.
وقد تضعضعت الشيوعية بانهيار الاتحاد السوفيتي وضعف توغلها العابر للحدود الجغرافية للدول واصبحت (الديمقراطية الغربية) شماعة الاستعمار الجديد. وطلباً للسلامة ركب الموجة العاتية كل من استطاع حتى ولو كان لا يؤمن بالديمقراطية أصلاً ولا يطبق من الشورى إلا اجتماع قوم منتقين بعناية وانفضاضهم. فالديمقراطية حاليا تحمل راية الحريات العامة ولكنها تحمل في ثيابها فيروس العصر لتفتيت الدول والكيانات السياسية القائمة. والكثير من هذه الكيانات السياسية القائمة تبدو كأفيالٍ عمياء في غابة تعج بالمفترسات.

وبدون شك فإن السودان- رغم عدم تقديره حق قدره من قبل بعض حكامه وأهله – فهو فيل ضخم يمكن أن يقاوم بصلف وقوة كل مفترسٍ دخيل. وقد تخلخل وضعه كثيراً بكل أسف حينما اعتقد بعض حاكميه أنه وطنٌ مترهل ومفكك وأنه حقيقةً يجب ألا يتعدى حدود مملكة سنار القديمة ليسهل عليهم التحكم فيه.

ومن المعلوم أنه إذا اختلت قناعة حراس الغابة بضرورة حماية حدودها أو ساكنيها من الاعتداء أو القتل سقط الوطن أو بعضه في أيدي الطامعين– لا قدر الله.
ختاماً:

من بين كل ما يملأ الساحة السياسية من أفكار غثة أو سمينة فإن تلك التي تستهين بالوطن ككيان جامع أنعم الله به على شعبه المضياف الكريم وتلك التي تحرض على تفتيت البلاد وتشرذمها غضباً على الفشل السياسي والإداري، هي الأخطر على الوطن وأهله. وهي الأفكار التي سيفرح بها كل الأعداء وكثير ممن نظنهم من الأصدقاء وكل من يتبنون فكراً قاصراً يصور لهم أنهم أول الكاسبين من تدميرنا لوطننا بالشطط في الخصومة والحرص على التفتيش عن سندٍ ديني أو فكري نبرر به دعوات التمزق والشتات.

والله الهادي إلى سواء السبيل

مستشار قانوني وخبير تنمية مؤسسية

التعليقات مغلقة.