الأصْــداءُ العالَـمـيّـة لِلـثـوْرة المَهْــديـّة: حيـن تصـيـر الأصــداءُ تاريْخـاً

الأصْــداءُ العالَـمـيّـة لِلـثـوْرة المَهْــديـّة: حيـن تصـيـر الأصــداءُ تاريْخـاً
  • 03 نوفمبر 2020
  • لا توجد تعليقات

جمال محمد إبراهيم

أقرب إلى القلب :

(1)

ما صدر عن دار المصوّرات في الخرطوم بتاريخ 2020 ، ليس كتاباً فريداً في موضوعه فحسب ، بل فرادته تجسّدت أيضاً في كون كاتبه طبيباً نطاسياً هو د. محمد المصطفى موسى وهوكاتب مهموم بمهنته وبالتاريخ وأيضا بكتابة القصص القصيرة .
لعلّ أهم ملمحٍ يطرحه كتاب “الأصداء العالمية للثورة المهدية” بشأن التوثيق لتاريخ السودان القريب نسبياً، هو ما يتصل بمنهج كتابة ذلك التاريخ. كانت تلك الكتابة في شكلها التقليدي تقتصر على رصد الوقائع الرسمية ، بل وتلتزم بعرض المواقف والوقائع الرسمية لقيادات ذلك الحراك السياسي والعسكري والأمني لذلك البلد المعين . وأكثر ما يعتمد عليه المؤرّخون هو الركون إلى الوثائق الرسمية ، ولا يدلفون إلى سواها والتي في الأصل ليست متاحة لهم . لكأنّ تاريخ الشعوب وقـفٌ على حراك قياداتها ونشاطات زعاماتها ، ولا وصل ولا اتصال بحراكِ تلك الشعوب، ولا بكيمياء تفاعلاتها مع ما يقع من أحداث ووقائع فيها وفي ما حولها من دروسٍ وعبر.

(2)
في تاريخ الدول الإسلامية نقرأ عن الحروب التي ابتنت الدولة الإسلامية شرقا وغرباً، وعن القادة الكبار الذين قادوا الجيوش مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبوعبيدة بن الجرّاح وسواهم، لكن لا يرصد من كتبوا التاريخ شيئاً عن بقية القيادات الأدنى، ولا عن الجنود المقاتلين ، كيف كان أداؤهم وكيف كانت أحوالهم أو لحظات تضحياتهم ولحظات خذلانهم . يحدثونك عن الدولة الأموية والدولة العباسية عهد معاوية وعهد يزيد وعهد الرشيد فيتعرّف الناس على سـيّر أولئك الخلفاء ولكنك لا تسمع عن سير أولئك الذين أداروا الدولة ولا عن الجنود حماة حدود الدولة ، ولا عن رجال الشرطة حفظة النظام. تلكم فئات من سكان تلك العهود ولكن لا يقول لك التاريخ كيف عاشوا وكيف كانت أحوالهم الاجتماعية. تسمع عن زوجات الخلفاء والملوك والأمراء والقادة ولكنك لن تج سيرة لحكايات زوجات غمار الناس وأحوالهن ، على سبيل التعرّف على صور عن حياة أولئك الناس. لن يتاح لك أن تعرف من بينهم من تذكّر زوجه وعياله فأدمع، ومن ضعفت قناعته بعقيدة القتال فتردّد. إنّ الجنود المقاتلين بشرٌ من لحمٍ ودم، فمن ترى قد رصد خلجات نفوسهم، ومن حـدّث عن لحظات شجاعة بعضهم حين استلوا سيوفهم، أو لحظات انكسار بعضهم حينَ تلجلجوا..؟
تلك وقائع لا يقع التماعها على أبصار المؤرخين، فلا تجد رصداً لها من أقلامهم ، ولا يُحكَى عنها في كتبهم . التاريخ الرسمي هو تاريخ القياصرة والملوك والأمراء والقادة العسكريين، وليس تاريخاً معنياً بأحوال شعوبهم ومجتمعاتهم ولا متتبعاً لحراكهم الاجتماعي والسياسي والثقافي، إلا إن اتصل ذلك الحراك بشئون أولئك الملوك والقياصرة والأمراء والقادة. !

(3)
ثم هنالك جانبٌ آخر يتصل بتوفّرِ المعلومات التي ينظر فيها المؤرّخون، وذلك أمرٌ من المستجدات بمكان في العقود الأخيرة، التي شهدت فيها البشرية حربين عالميتين قضتا على أخضر العالم ويابسه . بات بعدها ثمة اهتمام بالحرص على المعلومات فتحجب بعضها لأسبابٍ سياسية أو أمنية ، خاصة إذا اتصلت بأحوال السلطة والحكم. ذلك الحجب إن وقع فإنه لا يتيح للمؤرّخين معلومات توثق الوقائع وتفاصيلها. صار من التقاليد المرعية أن لا يخرج المحجوب إلى العلن ، إلا بعد أجلٍ زمنيٍّ معيّن. ذلك مسلك يعود تاريخه لإتفاقية فيينا لعام 1815 م، إلا أن بعض الدول الأقوى والأشدّ سطوة- وإنْ كانت راشدة- قد تعمد إلى حجبِ المعلومات في الوثائق الحسّاسة وفق قانونٍ ملزمٍ، ولا يسمح بتداولها إلا بعد نحو ثلاثين عاماً، كما جرى العرف مثلاً، وتقل أو تزيد حسب درجات السرية. من البلدان التي تهتم بأمر الشفافية والحق في امتلاك المعلومة مملكة النرويج وفيها مركز مرموق إسمه مركز النزاهة في قطاع الدفاع . لفت انتباهي إصدار ذلك المركز كتيبَ صغير الحجم عميق التناول والمدلول عن التوازن المرتجى في حق الحصول على المعلومة، بين دواعي الأمن ومتطلبات الشفافية عنوانه : “أدلة الحوكمة الرشيدة :الحصول على المعلومات وحدود الشفافية العامة” صدر في عام 2012م، ومؤلفه اختصاصي إسمه فرنسيسكو كاردونا. ولك أن تسألني وما علاقة كتابتك عن إصدار محمد المصطفى كتابا عن الأصداء العالمية للثورة المهدية التي خلصت السودان من حكم أجنبي الصبغة، سيطر على أحوال البلاد لأكثر من ستين عاماً ، من عام م1821 وحتى 1885م؟

(4)
إنّ متطلبات الأمن في أقلّ أو في أقصى حالاتها، تصادم بطبيعتها الحقّ في حصول عامة الشعوب على المعلومة، وهو حقّ تسنده المواثيق الدولية الراعية لحقوق الانسان. غير أن معظم حكومات العالم المتجهة نحو إقرار الشفافية وتعزيز الديمقراطية، بدأت في الاستجابة لصون حقِّ الحصول على المعلومة ولو بنسبٍ محدودة، خاصّة في بعض البلدان الغربية ، وربما الاستثناء الأبرز هو حالة حفظ ذلك الحق في السويد كما ذكر كارادونا في كتيبه المشار إليه عاليه. كتاب الطبيب النطاسي محمد المصطفى عن أصداء ثورة المهدي في السودان في الصحافة العالمية، لم يُكتب بقلمٍ جديدٍ تاريخ وقائع تلك الثورة ، فيكرّر ما أصدره المؤرخون التقليديون، ولكنه عرج على أراشيف صحف عالمية، يُنقب في صفحاتها عمّا نشرتْ من تغطيات صحفية عن تلك الثورة التي أقامت حكماً في بلاد السودان بعد أن أجلت الأجانب عن ترابه ، وحققت حكماً وطنياً مستقلا في بلدٍ هو في قلب القارة الأفريقية. جاءنا الرجل بكتابٍ جامع ما كان متاحاً لأولئك المؤرخين التقليين أن ينظروا في تلك المادة التي أنجز جمعها بجهدٍ غير يسير، وبهمةٍ لم تعرف الكلل ، فيما هو منخرطٌ في مهنته طبيباً منقطعا لعلاج مرضاه في بلدٍ بعيدٍ عن موطنه هو إيرلندا.

(5)
لنا أن نحمد بداية ما قُـدّر للكاتب من إمكانيات أتاحتها له ووفرتها العولمة وثورة الاتصالات، حيث عضّدتْ من مقتضيات الشفافية وفي اتاحة المعلومة، وأدخلتنا جميعاً إلى عالمٍ مُتسعٍ بلا حدود ومحتشد دون امتلاء، بكلِّ معلومة تخطر على ذهن بشر. هاهو باحث مقتدر مثل محمد المصطفى يستغل قدراته جميعها في الإمساك بمباضع البحث ومشارط التحليل ، من مهنة الطب التي منحته الصبر على سبر الأغوار والولوج إلى اكتشاف ما لم يكتشف ، والدخول إلى دهاليز لم تكن متاحة، حوتْ معلوماتٍ عن أصداءٍ وردتْ في صحفٍ غربية عايشت ثورة المهدي ودولته في السودان من 1885م إلى 1899م، لم يطلع على معظمها -إن لم نقل جميعها – أيٌّ من كتاب التاريخ الأكاديمي التقليدي. ما حظي أولئك الكتاب في زمانهم، بالنظر في المحجوب عن أبصارهم من وثائق أو صحف ولا عرف الزمان وقتذاك قنوات فضائية أو شبكات عنكبوتية. وليس لنا أن نلوم مؤرخينا فقد بلغ جهدهم أقصى الممكن وكلّ المتاح. وقد يرى من يرى أن في ذلك قصورٌ موضوعي ولكني أراه حصراً في أمرين : أولهما يعزى لمتطلبات الأمن وحساسيات السيطرة على بلدٍ تحت سيطرة كولونيالية شمولية، وثانيهما غياب ما أتاحت ثورة الاتصالات وما وفرته العولمة من قدرات في الحصول على المعلومات بوسائل مستجدة . لم تتح لمؤرخينا التقليديين تلك الأراشيف الإلكترونية ولا حزم ملفات المعلومات التي شاعتْ في الشبكة العنكبوتية والوثائق التي أتيحت نسخها الناعمة بعد أن كانت محجوبة بقوانين ملزمة ، فلم تكن متاحة إطلاقاً. .

(6)
إنّ العولمة وما أحدثته معها ثورة الاتصالات من تحوّلات عارمة في الصحافة الحرّة والأجهزة الإعلامية من قنوات فضائية أو مواقع إلكترونية حرّة ، قد أفضتْ بالتوازن المنشود بين الشفافية ومتطلبات الأمن- ومنذ اتفاقات فيينا في القرن التاسع عشر – إلى محطات إستجدتْ فيها من التحدّيات، ما قد يعزّز درجات الشفافية العالية على حساب الضرورات الأمنية ، فيحدث الإختلال الذي يُفسّر ظاهرة “الويكيليكس” التي جعلت من منشئها “سنودن” “بطلاً إلكترونياً”، تطارده الحكومات الموتورة. إلا أننا نحمد لظاهرة العولمة أنها وقفتْ إلى جانب الشفافية وعزّزت في إتاحة المعلومات للجميع. .
للأسطر السابقة ضرورةٌ لازمة ورجاءٌ مطلوب ، يحيلنا قطعاً لفهم أبعاد الكتاب الذي أنجزه صديقنا د.محمد المصطفى موسى ، وهو لمن لا يعرفونه طبيبٌ بالمهنة ، ومتعلقٌ بالتاريخ وتوثيق وقائعه بحكم اهتماماته بتاريخ بلاده القريب، وذلك إلى جانب اهتماماته الأدبية الجديرة بالنظر وبالاهتمام. . وقف د.محمد المصطفى على تاريخ بلاده القريب ، فلم يكتفِ بما ورد في كتب التاريخ التقليدية والأكاديمية ، ولا بما سمع من وقائع محكيّة ، لكنه دلف ليتخذ لنفسه أسلوباً غير مسبوقٍ عند كُـتّـاب التاريخ التقليدي ، موثراً أن يتجه لإكمال ذلك النقص الذي لمسه لينظر في أصداء الثورة المهدية التي حكمت السودان وأسست دولة مستقلة كاملة الاستقلال في الأعوام بين 1885 وعام 1899 . لعلّ إقامته الطويلة نسبياً في ايرلندا قد حفزته ليتعرّف على تلك الصحافة الإيرلندية التي ظهر احتفاءٌ من طرفِ بعض إصداراتها في تلكم السنوات، بالثورة المهدية وبالإمام محمد أحمد المهدي وبشخصه تأثراً وتأثيراً.
تلك كانت محفّزاً دفع الرجل ليبحر في رصد أصداء مواد الصحف العالمية القديمة عن الثورة المهدية ، ليؤكد لنا بما هو يقنع أنّ ما قد كُتب في تلكم الصحف، ليس “كلام جرايد” على مزاعم العامة عندنا، ولكنه تاريخ حقيقي. . يرمّم فجوات التاريخ التقليدي ويسدّ فراغاته. .
الخرطوم – أول نوفمبر 2020

التعليقات مغلقة.