لَاهُوتُ الكَبَّاشِي !!

لَاهُوتُ الكَبَّاشِي !!
  • 01 ديسمبر 2020
  • لا توجد تعليقات

كمال الجزولي

روزنامة الأسبوع

الإثنين


لم يجعل الصَّادق المهدي، يوماً، من تديُّنه الشَّخصيِّ الرَّقيق، أو من تقواه الصَّادقة العميقة، عصا زجر، أو تعنيف، لحمل الآخرين، حملاً، على التزام الدِّين أو التَّقوى، مثلما لم يرض بغير الدِّيموقراطيَّة، في معنى الحريَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة، مرتقى نحو السُّلطة، أو نهجاً في طرائق السِّياسة.
ولم يحُل جاه أسرته، وثرائها النِّسبي، دون أن ينمو في عقله ووجدانه قدر كبير من التَّعاطف الحميم مع الكادحين والبسطاء، والتَّفاعل الإيجابي مع مطالب المساواة والعدالة الاجتماعيَّة.
كان شديد الإنسانيَّة في علاقاته، يغلِّبها، بوضوح، لدى مقاربته للأغيار، فلم يجعل، يوماً، من التَّمايز الإثني، أو السِّياسي، أو الدِّيني، أو الفكري، حاجزاً بينه وبين الآخرين على شدَّة تنوُّعهم. يجذبك إليه اهتمامه الشَّخصي بك، وبما تقول، وذكاؤه الاجتماعي في اختيار موضوعات أنسه معك، فكان من مؤانسيه مثقفون تتشقَّق أحاديثه معهم إلى أعقد مسائل الأدب والفلسفة، فكان يستمع إليهم بأكبر الحرص والاهتمام، مثلما كان ضمن مؤانسيه شخصيَّات خفيفة الظلِّ، كالهادي نصر الدِّين، أظرف ظرفاء المدينة، عليه رحمة الله، فعن طريقه، وأمثاله، كانت تبلغ الإمام أحدث الطرف والنِّكات، ويضحك لها من أعماقه.
كان جمَّ التَّواضع، كثير الاحتفاء بهذه القيمة. فلدى تشييع المرحوم نقد، وكانت تجمعهما محبَّة خالصة، كان الموكب ضخماً، والزِّحام على أشدِّه، فاقترب مني سكرتيره محمَّد زكي الذي كان له بمثابة الإبن الذي لم ينجبه من ظهره، وهمس في أذني بأن السَّيِّد الصَّادق يرغب في إلقاء كلمة وداع، لولا أن الزِّحام يحول بينه وبين القبر، فسارعت للمساعدة حتى مكَّنته من الاقتراب، واعتلاء تلة التُّراب قبل أن يجرفها الواسوق إلى داخل القبر، فألقى كلمته البليغة للشَّباب في ذكر محاسن نقد الإنسانيَّة، وعلى رأسها تواضعه الجَّم، قائلاً إن ما رفع من قدره هو ذلك التَّواضع، ثمَّ صاغ، بتلقائيَّته العذبة، اقتراحاً بأن يكون عنوان ذلك التَّشييع «الارتفاع بالاتِّضاع».
من خصائصه، أيضاً، فرادة وتنوُّع اهتماماته الثَّقافيَّة، ما كان ينعكس، غالباً، على تنوُّع وفرادة معارفه، ونتاجاته، حيث كتب، وحاضر، وشارك في ندوات، وورش، وسمنارات، بمستوى رفيع من جدِّيَّة التَّناول والطرح، حول أكثر القضايا تعقيداً، كالحوكمة، والعدالة الانتقاليَّة، والاقتصاد السِّياسي، والحرب والسَّلام، والعلاقات الدِّبلوماسيَّة، والتَّحالفات الاستراتيجيَّة والتَّكتيكيَّة، سواءً بسواء مع أبسط موضوعات مؤانساته الشَّخصيَّة، وأكثرها حميميَّة، كالكوميديا، وشعر الهمباتة، وجرتق العرسان، والرِّياضة التي لا يعتبرها مجرَّد لعب، والتي واظب على ممارستها بانتظام.
وبالنَّظر إلى غزارة، وسداد، وجرأة انتاجه الفقهوفكري، كنت دائماً على قناعة بأنه فقيه حداثي لا نظير له في العالم الإسلامي. حدث أن دعتني هيئة شؤون الأنصار لحضور مناقشة سفره «نحو رؤية فقهيَّة جديدة»، والذي كان يرغب في تنظيم مؤتمر عالمي بشأنه، فأذهلنا بالنظر الثَّاقب، والتَّحديثات الجَّريئة، من شاكلة توطين سيداو، والدِّيموقراطية، وحقوق الإنسان، والموقف التَّحرُّري من المرأة، مثلاً، في تربة الإسلام. فعبَّرت عن ضرورة تفرُّغه لهذا النَّوع من الإنتاج الفقهوفكري، لكنه كان يرى أنه طالما توفَّرت لديه الطاقة، فسيقرن دائماً بين الاشتغال بهذا الفكر وبين النَّشاط السِّياسي.
لا بُدَّ أن نذكر للصَّادق، أيضاً، أنه أبدى نحونا، في اتِّحاد الكتَّاب، أوَّل تأسيسه، عناية وعطفاً شديدين، سواء بوقوفه شخصيَّاً، مع المرحوم أبو زيد محمَّد صالح، وكيل أوَّل وزارة الماليَّة، في عهد الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة، على إجراءات منْحِنا دار المقرن، آنذاك، أم بالاهتمام بالمشاركة بنفسه في احتفاليَّة تدشينها، فضلاً عن اهتمامه، كذلك، بصحَّة كبار السِّن، والمرضى من أعضاء الاتِّحاد، كما في حالة المرحوم جيلي عبد الرحمن.
أمَّا ما اتَّسم به، عليه رحمة الله ورضوانه، من شجاعة مبهرة، فذاك فصل يشهد عليه من وجدوا معه بالسِّجن، في عقابيل انقلاب الجَّبهة الإسلاميَّة عام 1989م. فقد كان أكثر من استهدفته عناصر أمن الإسلامويِّين بالقمع، حيث كانوا يأخذونه أوَّل المساء، معصوب العينين، إلى أماكن مجهولة، ولا يعيدونه إلا في أوقات متأخرة من الليل، وكانوا، خلال تلك السَّاعات يعرِّضونه لكلِّ صنوف التَّعذيب النَّفسي والبدني، انتظاراً لنأمة انكسار، أو رضوخ لمشيئتهم. غير أنه واجه ذلك كله ببسالة منقطعة النَّظير.
وبعد، إننا، يا حبيبنا الرَّاحل، إذ نؤمن بأنك ميت وإنهم ميتون، فإنَّما نتضرَّع إلى المولى الرَّحيم، القادر الكريم، أن يعود عليك بفضله وإحسانه، فيتغمَّدك بواسع رحمته وغفرانه، ويتقبلك أحسن القبول، ويجعل منزلك روضة في أعالي الجِّنان، مع المقرَّبين إليه، المرضي عنهم منه، أولئك الصِّديقين الخالدين، والصَّالحين، والشُّهداء، وحسن أولئك رفيقا، ويلهم بناتك، وأبناءك، وأهلك، وذويك، وصلة رحمك كافَّة، وأنصارك المخلصين، ومحبيك أجمعين، من أبناء شعبك، ومن عارفي فضلك، في كلِّ الأرجاء، وفي عموم الأقطار، وأن يلهمنا وإيَّاهم جميل الصَّبر على تحمُّل فقدك الجَّلل، وعبء غيابك السَّحيق، وأن يلهمنا وإيَّاهم حسن العزاء في انطفاء سراجك الوضئ، وانكسار ركنك الأشم، وإنَّا لله
وإنَّا إليه راجعون.

الثُّلاثاء


مرَّت، قبل أيَّام، الذِّكرى المشؤومة لانقلاب 17 نوفمبر 1958م بقيادة الفريق إبراهيم عبُّود. وفي كتابه «مهنة في محنة» أشار محمود قلندر إلى أن أكثر من سدَّد الانقلابيون سهام ازدرائهم إليهم: السَّياسِّيُّون كسبب للفوضى، والصَّحفيُّون كلسان لهذه الفوضى! وقد تجلى عداؤهم للصَّحفيِّين، باكراً، منذ بيان الانقلاب الأوَّل، حيث أعلنوا عن تأميم وتعطيل الصُّحف الحزبيَّة، ومطابعها، ووكالات الأنباء، كما تجلَّى ذلك العداء عبر مؤتمر عبود الصَّحفي، مساء نفس يوم الانقلاب، حيث أصدر «أوامره» لممثِّلي الصُّحف المستقلة، قائلاً لهم، علناً، وبالحرف الواحد، وعلى رؤوس الأشهاد، وبلا أدنى مواربة: «لا تكتبوا شيئاً عن سياسة الحكومة، ولا تعلقوا على أعمالها، ولا تنتقدوا هذه الأعمال، سواءً في الشُّؤون الدَّاخليَّة أو الخارجيَّة، ولا تكتبوا شيئاً عن الأحزاب أو الطَّوائف، ولا تعلقوا أو تنتقدوا سياسات البلدان الأخرى»، كدا عديييييييل، وبالواااااااضح .. الما فاضح!

الأربعاء


مع أكيد احترامي لجهد صديقي الأستاذ علي عجب المحامي في استراتيجيَّته المنشورة ببعض الوسائط، بتاريخ 13 نوفمبر الجَّاري، حول التَّعامل مع جريمة فضِّ اعتصام القيـادة العامَّـة، في 3 يونيو الماضي، والتي راح ضحيَّتها مئات الشُّهداء والجَّرحى، بإحالتها إلى المدَّعية العامَّة للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، ومع اتِّفاقي التَّام معه بشأن المحاذير السِّياسيَّة التي «قد» تحول دون إنفاذ العدالة الوطنيَّة، بل وتتهدَّد الفترة الانتقاليَّة بالإجهاض، إلا أنني اختلف معه، للأسف، في الإمكانيَّة القانونيَّة الدَّوليَّة لهذه الإحالة، الآن، وفوراً، عن طريق مطالبة وزارة العدل ورئاسة الوزراء للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة بأن تتولي، حسب الاقتراح، «.. التَّحقيق في الوقائع باعتبارها جريمة دوليَّة تدخل ضمن نطاق ميثاق روما المنشئ للمحكمة»؛ وتتلخَّص أسباب اختلافي في ما يلي:
أوَّلاً: لا يستتبع كون الجَّريمة من الجَّرائم الدَّوليَّة «وجوب أن تتولى التَّحقيق فيها لجنة دوليَّة»، ضربة لازب، وبالضَّرورة، فالدُّول الوطنيَّة التي يقبل قضاؤها الاختصاص الدَّولي يمكن لأجهزتها المختصة أن تتولى التَّحقيق، بالتَّبعيَّة، في مثل هذه القضايا.
ثانياً: إذا أدَّت إجراءات المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة إلى عواقب وخيمة لأيِّ سياسي، فإن ذلك ليس من صميم مسؤوليَّاتها، وإنَّما هو محض أثر جانبي مهما بلغ من الخطورة. ولذا، فإن الهدف الأوَّل والأخير من إجراءاتها في مواجهة البشير، مثلاً، كان هو نصب ميزان العدالة الدَّوليَّة. أمَّا إنهاء حكمه فلم يكن، قط، من أهدافها، حتَّى يُقال «إنها فشلت فيه»! كما وأن التأثير، سلباً، على مستقبل أيِّ سياسي، لا يُعتبر هدفاً لأيِّ إجراءات قد تتَّخذها هذه المحكمة ضدَّه، حتَّى يصحَّ الحكم، من النَّاحية القانونيَّة، بأنه «لن يكون هناك مستقبل سياسي لأي شخص مطلوب للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة»!
ثالثاً: القول بأن «لجنة التَّحقيق في فضِّ الاعتصام .. لن تستطيع توجيه الاتِّهام لأعضاء اللجنة الأمنيَّة لأسباب يعلمها الجَّميع»، أو أن «تقديم الجُناة الحقيقيِّين للعدالة أمر غير ممكن لأيِّ لجنة وطنيَّة طالما أن من ارتكبوا الجَّريمة هم أنفسهم من يشاركون بسلطات سياديَّة عسكريَّة في حكم البلاد»، هو قول قد يكون سائغاً من زاوية التَّحليل والتَّوقُّع السِّياسيَّين، أمَّا من زاوية التَّطبيق القانوني المنضبط لنصوص «نظام روما لسنة 1998م Rome Statute»، فيُعـتبر، على الأقل، سـابقاً لأوانه premature، ولا يُقبل إلا بمراعاة الآتي:
(1) اختصاص المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة «تكميلي complementary».
(2) ولانعقاده ينبغي ثبوت «عدم قدرة/ رغبة» الدَّولة المعنيَّة في تولي الإجراءات.
(3) ثبوت العكس يمكن أن يكون بمجرَّد ثبوت البدء في التحقيق في الجَّريمة، شريطة ألا يثبت أن الهدف من مثل هذا التَّحقيق، أو حتَّى المحاكمة لاحقاً، تمكين الفاعل، أو الفاعلين، من الافلات من العقاب impunity، مِمَّا يتعارض، طرداً، مع الفلسفة وراء القانون الجَّنائي الدَّولي، والمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة.
(4) أمَّا النَّموذج الأوغندي فإن حكومة كمبالا لم تسلك فيه، أصلاً، طريق القانون الوطني ضدَّ جيش الرَّب، بقيادة جوزيف كوني، إنَّما سعت في التَّفاوض السِّلمي حتَّى ثبت أنه بلا طائل، فلجأت، مباشرة، إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، رغم اعتراض الكثير من المنظمات، وجماعات المصالح، وعدد من زعماء «الآشولي»، بل وبعض المسؤولين الحكوميِّي، مِمَّن خشوا أن يؤدِّي ذلك إلى تقويض التَّسوية السِّلميَّة! الفرق شاسع، إذن، بين الحالة الأوغنديَّة والحالة السُّودانيَّة التي ابتدأ بشأنها تحقيق قانوني، رضينا أم أبينا، وكُوِّنت له لجنة خاصَّة فوَّض لها النَّائب العام اختصاصاته، ولم تبلغ، بعد، في رأي أيَّة جهة قانونيَّة، وطنيَّة أو دوليَّة، حدَّ أن تصبح ميئوساً منها، أو أنها ذاهبة باتِّجاه تمكين الفاعلين من الافلات من العقاب، رغم تباطئها المعيب!

الخميس


أكبر واقعة اعتداء على المال العام، في «عصور» ما قبل «الإنقاذ»، هي «اختلاسات مشروع النِّويلة» عام 1962م، والتي ما تزال محفوظة في الذَّاكرة الجَّمعيَّة. المبلغ كان في حدود عشرين ألف جنيه؛ لكن الحدث، والمحاكمة التي جرت بشأنه، كانا غير مسبوقين، فانتشر خبرهما، في صحف تلك الأيَّام، تماماً كما النَّار في الهشيم!
أمَّا قبل أيَّام، فقد أوردت صحيفة «الجَّريدة»، وباقتضاب، خبر القبض على الفريق شرطة محجوب ساتي، الرَّئيس السَّابق لهيئة الشُّؤون الماليَّة بوزارة الدَّاخليَّة، وايداعه حراسة شرطة المقرن! السَّبب أتِّهام المراجع العام للوزارة التي كان سعادة الفريق يرأس شؤونها الماليَّة، بتجنيب مبلغ 299 تريليون و414 مليار جنيه! و«التَّجنيب» غير المأذون به هو اسم الدَّلع لـ «الاختلاس»، و .. «نِحْنَا هَلْ جَنِّينَا أَمْ عُقُوْلْنَا نُصَاحْ»؟!


الجُّمعة


بعث إليَّ الأستاذ احمد طراوة، مشكوراً، يعلق على تناولي لاعتراض الفريق أوَّل كبَّاشي على عبارة «فصل الدِّين عن الدَّولة»، في البيان الذي كانت ورشة جوبا تعتزم إصداره، واقتراحه وضع عبارة «علاقة الدِّين بالدَّولة» بدلاً منها، وكنت وصفت ذلك الكلام بأنه «لا معنى له»، فقال طراوة: «أطلَّ كبَّاشي كمفكر ديني، وشريك عسكري ذكي، رامياً القول كما شاء لحكومة حمدوك، فرفض صيغة (فصل الدِّين عن الدَّولة) بوصفها روشتَّة غير صحيحة لعلاج الأزمة التَّاريخيَّة، وطرح ضرورة استبدالها بصيغة (علاقة الدِّين بالدَّولة)؟! لم أنزعج لما قاله الكوز كبَّاشي، بقدر ما انزعجت لتعليق الطليعي النَّابه الأستاذ كمال الجزولي، حين قال: إن صيغة كبَّاشي (لا معنى لها)؟! فصيغة الكبَّاشي لها معنى مباشر خطير، ودلالات أيديولوجيَّة أشد خطورة، وهي ليست صيغة جدال واعتراض، أو عكلتة عسكري ضدَّ ملكيَّة، بقدر ما هي مدخل صريح لمشروع الدَّولة الدِّينيَّة الكامل. ودعني أضيف ما يحفز جهود الأستاذ كمال الجزولي، وهو يخوض معاركه الحواسم ضدَّ فكرة الدَّولة الثيوقراطيَّة، وينافح، بهمَّة عالية ومحترمة، نحو دولة مدنيَّة راشدة؛ فقد كانت انتلجينسيا اللاهوت الكالفيني المسيحي الجَّديد تدعو لنفس صيغة الكَّبَّاشي داخل حلقات النِّقاش الهيجلي تلك، بينما كانت جماعة اليسار الهيجلي تتمسَّك بموقف متميِّز ذي مسارين: مسار برونو باوور الذي شدَّد على ضرورة أن يهجر اليهود فكرة الدِّين تماماً، وربط تحرُّرهم الرُّوحي، والسِّياسي، والاقتصادي، بالاقلاع النِّهائي عن تعاليم العهد التَّوراتي القديم، داعياً، صراحة، لإخراج الدِّين من حياة النَّاس. أمَّا المسار الآخر فمسار كارل ماركس الذي رفض فكرة إخراج الدِّين من حياة اليهود، والمتديِّنين عموماً، وأن المشكلة ليست في تعاليم الأديان، بل في وجوب إخراج الدِّين من كلِّ مؤسَّسات الدَّولة البرجوازيَّة الحديثة التى ما تزال مشمولة بمظلة الكنيسة الاقطاعيَّة. كما نبَّه ماركس إلى أن تحرُّر اليهود الرُّوحي، والاقتصادي – السِّياسي، أمر وثيق الارتباط بتحرُّرهم من رأس المال الرِّبوي، وهيمنة الدَّولة الطبقيَّة الرَّأسماليَّة الجَّديدة، فالدَّولة الدِّينيَّة هي سنام الرَّأسماليَّة البرجوازيَّة التي تعمِّق التَّقسيم الاجتماعي – العرقي، بالقمع السِّياسي، والاضطهاد الدِّيني، وتكرِّس التَّغريب alienation الثَّقافي/الرُّوحي».
أكرِّر شكري لأحمد، لكن كبَّاشي اقترح، ببساطة، استخدام عبارة «علاقة الدين بالدَّولة» بدلاً من عبارة «فصل الدِّين عن الدَّولة»، وهو ما لا معنى له! عموماً يسعدني أن أفتح باب الرُّوزنامة لكلِّ راغب في المناقشة.

السَّبت


يكاد أشمل تعريفات «الثَّقافة» ينصبُّ على دلالة الكلَّ المُركَّب من أشكال الوعي الاجتماعي المُعبَّر عنها في الفلسفة، والعلم، والحقوق، والآداب، والفنون، والمثيولوجيا، كما وفي القيم الدِّينيَّة والأخلاقيَّة المائزة للأبنية الذِّهنيَّة والعاطفيَّة لأوسع الطبقات الشَّعبيَّة، والنَّاتجة عن نشاطها الخلاق، وتصوُّراتها الأكثر رسوخاً في أسلوبها للانتاج، وسبلها لكسب العيش، والمتمحورة حول مفاهيمها عن الحياة والموت، ونهجها في تغيير الوسط الطبيعي، وطرائقها في المأكل، والمشرب، والملبس، والزِّينة، والعمارة، وعلاقات رجالها ونسائها، كبارها وصغارها، ومناهجها في التَّربية والتَّعليم، وطقوسها في الزَّواج، والميلاد، ودفن الموتى، وإقامة المآتم، وما إلى ذلك. من ثمَّ فإن تناول «الثَّقافة» لا يستقيم بدون تأسيسه على أعمدة ثلاثة رئيسة تتمثَّل في «التَّربية» كصائغ لـ «الثَّقافة»، و«اللغة» كحامل لها، من جهة، و«الإعلام» كناقل لها من جهة أخرى. لذا، فإن أغلب دامغي «السِّياسات الثَّقافيَّة» في بلداننا بالقصور، إنَّما يسدِّدون نقدهم، بالأساس، إلى الإسهام الوافر لهذه الأعمدة الَّثلاثة في مشهد التَّردِّي الذي يمكن اختزاله في التَّخلف العام، والانقسامات المجتمعيَّة، والشِّقاقات الحزبيَّة، والاضطرابات الاجتماعيَّة، بدلاً من المساعدة على تحقيق اللُّحمة القوميَّة، والسَّلام الاجتماعي، والاستقرار السِّياسي، ومن ثمَّ الارتقاء بمعدَّلات التَّنمية البشريَّة.
السِّياسات «التَّربويَّة»، مثلاً، تُوغل في التَّمييز الطبقي بين الأطفال في «التَّعليم»، حيث لا تعجز ولو نظرة عابرة إلى شوارع المدن الكبرى أن يلحظ أطفال الأغنياء، الذين من سيماهم يُعرفون، تقلهم السَّيَّارات الفاخرة، في الصَّباحات، نحو مدارسهم الأجنبيَّة الدُّولاريَّة، بينما يتَّجه بعض أطفال ما تبقَّى من الطبقة الوسطى المتآكلة إلى مدارس أهليَّة قد تزوِّدهم بقدر متواضع من اللغة الأجنبيَّة، امَّا أطفال الفقراء فيكدحون إلى ربِّهم كدحاً، يُقذف بأكثرهم، دون حتَّى وجبة إفطار، فاقداً تربويَّاً يُطحن، في الأسواق، طحناً، ويُدفع بأقلهم إلى مدارس حكوميَّة رديئة البيئة والتَّجهيز، وحتَّى لو استثنينا قلة تتبوَّأ الصَّدارة في امتحانات الشِّهادة، فإن هذه القلة ليست حكوميَّة بالكامل، إذ هي، في واقع الأمر، شراكة بين الحكومة وبين وقف الشَّيخ مصطفى الأمين، وعموماً لا تسل، بطبيعة الحال، عن أيِّ تميُّز، بأيِّ مستوى، في تدريس اللغات الأجنبيَّة في المدارس الحكوميَّة! وهكذا فإن أبناء الأغنياء وحدهم هم مَن يُحظون في الغالب، بالمناصب العليا، مستقبلاً، في الحكومة، والمصارف، والشَّركات الخاصَّة، كما وبالوظائف المميَّزة في بلدان الغرب، إذا هاجروا إليها، بحكم إتقانهم للغات الأجنبيَّة، والعلوم الغربيَّة، دون أن يكون لدى معظمهم أدنى إلمام بتاريخ بلادهم، أو جغرافـيتها، أو «ثقافة» عموم أهلها، دَعْ إحساس «الاغتراب alienation» الذي ينتابهم حيالها وحيالهم.
أمَّا السِّياسات «اللغويَّة» فما تنفكُّ تواصل تجاهلها لتحسين مناهج تعليم العربيَّة الرَّصينة، شاملة حتَّى النَّماذج المعلاة heightened من دارجة الشَّعب المبدعة، فضلاً عن التَّقليل من قيمة اللغات المحليَّة، وتسميتها «رطانات»، بينما يشجِّع إهمالها هذا شيوع الدَّارجيَّات المتدنِّية، خصوصاً وسط غالبيَّة الشَّباب، فضلاً عن إهمال الإنجليزيَّة والفرنسيَّة كلغتي علم عالميَّتين، في حين أنَّ مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التَّنمية البشريَّة، يتطلَّب، بحسب كثيرين، كالعراقي د. علي القاسمي، مثلاً، لغةً وطنيَّةً تسـرِّع من تبادل المعلومـات، والإبداع فيها.
وأمَّا السِّياسات «الإعلاميَّة» التي يُفترض ألا غنى عنها، لجهة «التَّربية»، كتدريب مستمر على القيم الثَّقافيَّة العالية، أو لجهة «اللغة» كحامل لهذه «الثَّقافة» الرَّفيعة، فإنها، بأثر تعاقب أنظمة الاستبداد والاستعلاء الشُّموليَّة، وتطاولها، تنحو، في بلداننا، إلى تسطيح الوعي، وإغراقه في الغناء الهابط، والرَّقص الخليع، والأفلام الرَّخيصة، والعامِّيَّات الوضيعة، وكلِّ ما من شأنه أن ينحط بالذَّوق العام. مع ذلك، للمفارقة، تجزل معظم هذه الحكومات إنفاقها على «الإعلام» الرَّسمي ليؤدِّي دوره، فقط، كبوق يعلن، بالحقِّ وبالباطل، عن «إنجازاتها»، أو يواجه معارضيها، معتبرة إيَّاه محض «حارس أمين» لسياساتها، حتَّى لا نستخدم تعبير guard dog البذئ في المصطلح الأجنبي!

الأحد


في أكتوبر 1932م جرت انتخابات لجنة نادي الخرِّيجين المنقسمين بين شيخ الفيل «الأنصاري» ومحمَّد علي شوقي «الختمي». وعلى حين كان المتوقَّع اكتساح الفيل، أبدى شوقي براعة في الاستقطاب، فقلب التَّوقعات. ومن الأساليب التي اتَّبعت في المعركة أن «الشَّوقيست» حسين منصور كان يؤم صلاة المغرب في النَّادي، تالياً، بعد «الفاتحة»: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}، مِمَّا كان ينتزع الضَّحك! أمَّا «الفيليست» فقد كانوا يردِّدون أغنية كرومة: «أنا شوقي مهما ازداد برضي شايفو قليل»!

***

kgizouli@gmail.com

التعليقات مغلقة.