تاريخ القلابات (1-2)

تاريخ القلابات (1-2)
  • 21 مارس 2021
  • لا توجد تعليقات

ترجمة: د..بدرالدين الهاشمي


The History of Gallabat

مقدمة: نُشِرَهذا المقال في العدد السابع من مجلة “السودان في رسائل ومدونات SNR” الصادر عام 1924م، من دون ذكر اسم المؤلف.
ذكرت في ترجمتي لغالب أجزاء هذا المقال أسماء القرى والمناطق التي ذكرها الكاتب كما كُتِبَتْ بالإنجليزية، وأوردت ما أظن أنه أقرب ترجمة عربية مقابلة، لتعذر الحصول على مصادر عربية ذكرت تلك المواقع.
ورد في موسوعة المعرفة (1) عن القلابات ما نصه: ” … اسمي القلابات والمتمة مترادفين في كتابات المؤرخين. ففي حين جاء اسم القلابات مقترناً بالمعارك التي حدثت هناك بين القوات المختلفة، نجد أن المتمة ارتبطت من الناحية التاريخية باسم المك نمر ملك الجعليين الذي فر إلى المنطقة بعد مقتل إسماعيل باشا أثناء غزوه للسودان وما تبع ذلك من حملة انتقامية شرسة قام بها صهره الدفتردار في السودان. وواقع الحال إن القلابات هو الاسم التاريخي الشامل للمنطقة ويضم القلابات بشقيها على ضفتي خور أبو نخرة: البلدة السودانية التي حملت اسم القلابات وهي الأقدم، والبلدة الإثيوبية التي أخذت اسم المتمة والتي أسسها المك نمر وأطلق عليها هذا الاسم تيمناً بعاصمته المتمة التي هجرها في شمال السودان. وفي المتمة الإثيوبية مات المك نمر وكذلك قُتِلَ فيها الإمبراطور الإثيوبي يوهانس الرابع. ولا يعرف سبب تسمية المنطقة بالقلابات. أما في معنى تسمية المتمة فقد ذكر هرمز رسام، سفير بريطانيا إلى بلاط الإمبراطور يوهانس الرابع الذي سافر إلى المتمة في نوفمبر سنة 1865م، بأن اللفظ عربي ويعني الخاتمة أو النهاية، للدلالة على أن المكان هو نهاية اقليم حكام الجعليين، أي آخر نقطة فيه.”
المترجم


سادت في غضون الثلاثمائة عام الماضية حقيقة أن تاريخ منطقة القلابات مرتبط أشد الارتباط بوقوعها عند ملتقى طريقين رئيسيين يربطان سهول السودان بشمال الحبشة.
وذكر الرحالة الأسكتلندي بروس (2) الذي كان قد مر عبر تلك الأنحاء في عام 1772م بعد أن قضى بعض السنوات في الحبشة أن “الشقلة” و”راس الفيل” في منطقة القلابات كانتا منطقتان في “حزام شنقلاShangalla ” تفصلان بين الحبشة وسلطنة سنار في الصلات التجارية، وأنه كان يملك ويقطن تلك المنطقتين “غرباء” لجعل الشناقلا يخافونهم ويحترمونهم في آن معا” (3).
ولا يوجد اتفاق حول من هو الذي استوطن في تلك المنطقة أولا، ومتى حدث ذلك. وذهب الرحالة بروس إلى أن تلك المستوطنات كانت قد أقيمت قبل زمن طويل من حملة ياسوس الثاني على سلطنة سنار عام 1733م، وكان المستوطنون فيها بكل تأكيد من المسلمين. ويبدو أنه من الراجح أن سلطنة سنار كانت هي من أقامت المستوطنة الأصلية في “راس الفيل” بناءً على ما ذكره بروس عن ديانة المستوطنين، وعن أن خور دنقلا (الواقع بين سانشو Sancho ودابدو Dabdo) كان يمثل الحدود بين السودان والحبشة.
وذكر النقيب اسمثCapt. Smyth, v.c. في مذكرة له أن شخصا اسمه فورنكيوي (Forinkwei) كان قد استوطن في تلك المنطقة (المسماة الآن القلابات) مع عدد كبير من أفراد بعض القبائل الدارفورية (مثل كوني Kuni وديما Dima ويومو Umu)، وأقام مستوطنته تلك كمنطقة تابعة للحبشة.
(ورد في موسوعة الويكيبيديا (1) أن “… مستوطنين من قبائل تكرور كانوا في طريقهم نحو الأراضي المقدسة في الحجاز لأداء مناسك الحج، واختاروا منطقة القلابات كاستراحة لقوافل إخوانهم الحجاج في غدوهم ورواحهم من الحج، وذلك بعد أن حصلوا على إذن من إمبراطور الحبشة الذي كانت تخضع له المنطقة آنذاك”. المترجم).
وسجل النقيب اسمث في مذكرته تلك أسماء شيوخ القلابات منذ بدء استيطانهم فيها وحتى عام 1900م، بدءًا من فورنكيوي ثم أخيه وانتهاءً بشيخ شرف في عام 1901م. غير أن تلك القائمة التي أوردها النقيب اسمث كانت قد خلت من اسمي شيخين ذكرهما الرحالة بروس (وهما عبد الجليل وياسين). ولم يأت بروس على ذكر مستوطنة رجال الفور ووداي التي ذكرها الرحالة الجغرافي غيوم ليجان Guillaume Lejean، رغم أنه كان قد تحدث عن قرية للفلاتة أقيمت شرق “راس الفيل”. ويبدو أنه من المحتمل أن مستوطنة فورنكيوي كانت قد أقيمت عقب زيارة بروس للمنطقة، أو أنها كانت في زمن زيارته مجرد قرية تابعة لـ “راس الفيل”، وأن فورنكيوي ومن خلفه صاروا زعماء لتلك المنطقة لاحقا.
وكانت منطقة “راس الفيل” تتبع مباشرة للحبشة إبان زيارة بروس لتلك المنطقة، وكان حاكمها هو قسمتي؟ Kasmati أو حاكم حبشي عينه ملك الحبشة (4). غير أن هذا المسؤول لم يكن يسكن في “راس الفيل”، بل كان قد عين له وكيلا محمديا (أي مسلما) لإدارة شؤون المنطقة. ومُنِحَ بروس نفسه وظيفة قسمتي “راس الفيل”، وأُعْطِيَ دخلا يعينه على العيش في سنوات ترحاله في أرجاء الحبشة. وقام بروس من بعد ذلك بتعيين وكيل له لإدارة المنطقة اسمه ياسين، خلف الوكيل السابق عبد الجليل. وظل ياسين محتفظا بوظيفته تلك حتى بعد أن لم يعد بروس يشغل تلك الوظيفة. وذكر بروس أن “راس الفيل” وسانشو كانتا في السابق في حالة مزدهرة، بدليل أنهما كانتا تدفعان جزية أو خَرَاجا قدره 400 و100 أوقية من الذهب، على التوالي، إلا أن ذلك توقف عقب تردي العلاقات بين الحبشة وسلطنة سنار وتوقف التبادل التجاري بينهما نتيجةً لحملة ياسوس الثاني على سلطنة سنار في حوالي عام 1733م. ولما لم يَنْقُصْ ذلك الخَرَاج الذي كان مفروضا على “راس الفيل”، هجرها سكانها إلى منطقة أخرى هي تشيركين ؟ Tcherkin.
وكان بروس في سنوات زيارته للمنطقة يعد سانشو منطقة حدود قديمة للحبشة وتابعة لـ “راس الفيل”. ثم قطنها من بعد ذلك أهالي Basé الذين أسلموا، وكان يحكمهم زعيم مطلق الصلاحيات (أرباب) يسمى قمبارو Gimbarog كانت له طبوله الخاصة به. ووصف بروس تلك القرية بأنها كانت قد بُنِيَتْ على تل يقع في وسط منطقة سهلية. وكان الوصول للقرية ممكنا عبر مَسَار اصطناعي على الجانب الشرقي من التل، بينما كانت هنالك منحدرات متعامدة أخرى للتل. ووصف الرحالة الإنجليزي فرانك لنسيلي جيمس (1851 – 1890م) في الصفحات رقم 201 – 203 من كتابه المعنون “The Wild Tribes of the Soudan قبائل السودان المتوحشة”
موقعا مُحصَّنا آخر في أرض كوناما Kunama/ Basé بمنطقة لاكاتيكورا Lacatecouraالواقعة شرق نهر الستيت. وكانت قرية زعيم “راس الفيل” في ذلك الوقت تقع على خور كاكاموت Kakmut غرب نهر اتبرا (وأحد روافده على الشاطئ الأيمن)، على بعد أربعة أميال شرق جبل “راس الفيل”(وتقع بحسب رأي الرحالة لايجان على “خور يابوس”، أو بالقرب من قرية توكولين Tukulein). ويبدو أن منطقة “راس الفيل” في زمن بروس كانت تشمل تقريبا منطقة القلابات وسانشو الحالية (أي في العام الذي كتب فيه المقال في 1924م أو نحوه. المترجم). ويقول بروس إن بتلك المنطقة 39 قريةً، غير أنه لم يذكر أي من تلك القرى كانت موجودة بالفعل حينما مر بالمنطقة.
أما بالنسبة لجيران “راس الفيل” فقد ذكر بروس بأن “راس الفيل” كانت تقسم منطقة الشنقلا (وسكانها سُود شعر رأسهم كالصوف wooly – headed) إلى قسمين: قسم في الغرب مجاور لفازوغلي (وهي جزء من سلطنة سنار) وحول منبع نهر آباي. ويتاجر سكان هذه المنطقة الشناقلة في الذهب. وربما كان غالب هؤلاء من القمز في قوبا Gubba، ومن البرتا في بني شنقول. وكانت قوبا تتبع لحكم سنار في مرحلة زمنية معينة من مراحل سلطنة الفونج. وكان هنالك أيضا قسم آخر يسكنه شعب جنجار (Ganjar) الذين كانوا يقطنون منطقة على بعد مسيرة ثلاثة أيام غرب خور كاكاموت، أي في المنطقة الواقعة بين “راس عامر” ومشرع شريق على نهر الدندر. وشعب جنجار فرسان أقوياء يعدون بالآلاف. ويقال بأنهم كانوا في الأصل من السُود المسترقين عند العرب في سلطنة الفونج. وعندما طرد سلطان سنار أولئك العرب، قام المسترقون باحتلال تلك المنطقة وأقاموا بها مستوطنة مستقلة، تزايدت أعدادهم فيها. ويصعب فهم وصف بروس لـ “راس الفيل” بأنها كانت تقسم الشعبين المذكورين لنصفين.
وكان يجاور “راس الفيل” من الجهة الشمالية عرب الدباينة (Dabbayna)، الذين يبدو أنهم استولوا على المنطقة من بيلة (Beila) إلى نهر تبرا. وذكر بروس أن هؤلاء العرب أحالوا كل الأراضي بين بيلة وتواوا Tiwawa (بالقرب من القضارف) إلى صحراء. وذكر أيضا بأنه كان قد أُخْبِرَ بأنه بعد مغادرته لسنار قامت قوات من مسلمي “راس الفيل” بالتعاون مع عرب الدباينة وفرسان جنجار(من منطقة كوارا Kawara) بحرق تواوا، ونهب عرب جهينة الذين كانوا يقيمون معسكرهم بجوارهم.
وفي غضون الفترة التي قضاها بروس في تلك المناطق ساد بين شيوخ “راس الفيل” والتواوا قدر معقول من التفاهم مكنهم من العيش بسلام، وحَدَّ من اعتداءات العرب نوعا ما. وكان بروس يقوم بتوزيع ما يصيبه بعض عرب المنطقة من جِزْي وأَخْرِجَةٌ على العرب الآخرين. غير أنه، على الرغم من ذلك، كان بروس يرى بأن طريق القضارف – القلابات لم يكن آمنا بتاتا لسير القوافل التجارية.
وكان ملك الحبشة يحصل على الخيول الضخمة ليستخدمها فرسانه من شيخ بيلة. وفي تلك الأيام كانت العلاقات بين سلطنة سنار والحبشة في أدنى مستوياتها، ومن المحتمل أن تكون علاقات البلدين حينها على الحدود في أقصى درجات التوتر.
وكما ذكرنا من قبل فان سكان القلابات الحاليين (أي في عشرينيات القرن العشرين. المترجم) ينحدرون من المستوطنة التي أقامها فورنكيوي، وهو كنجاري من منطقة باري في دارفور. وكان ذلك الشيخ قد استقر بالقلابات مع ثلة من اتباعه بعد رجوعهم من الحج في القرن الثامن عشر. ويبدو أن أتباعه هؤلاء كانوا من الفور ومن البورغو (في وداي). وظل فورنكيوي على علاقة طيبة مع الأحباش إلى حين وفاته. وخلفه في الزعامة على المنطقة شقيقه عطرون (Atrun) ثم إمام ود عطرون، ثم حسن، الذي خلفه أخاه مري (من جبل مرة بدارفور).
وفي حوالي عام 1810م، في سنوات حكم واحد من الشيوخ المذكورين، ساءت العلاقات بين الفور والبورغو ودخلا في معارك انتهت بهزيمة البورغو وهجرتهم – مع شيخهم عثمان عبد الرازق – إلى مستوطنة جديدة هي قدابي (Gedabi) بعد نهر اتبرا. وذكر الرحالة ليجان بأن سبب تلك الحرب بين الفور والبورغو هو أن الفور كانوا قد نصبوا بالقوة ملكا لم يرض عنه البورغو.
وظلت العلاقة بين مستوطنة القلابات والحبشة حسنة، حتى تولى أمر القلابات الشيخ مري (الذي ذكرناه آنفا)، والذي عينه حاكم شقلو (Chelgu) الحبشي وكيلا له. ولما شن حاكم شقلو حملة عسكرية ضد العرب، هجره الشيخ مري وأتباعه وساندوا العرب. وبُعَيْدَ مقتل حاكم شقلو في معركته ضد العرب أعلن مري عن استقلال مستوطنته. ومنذ ذلك التاريخ وحتى زيارة الرحالة ليجان للقلابات في عام 1864م بقيت القلابات محافظة على استقلالها. غير أن ليجان كان يرى أن ذلك “الاستقلال” لم يكن يعني الكثير، إذ أن القلابات ظلت تدفع الجِزْي لأي من جيرانها الذين كانوا يفوقونها قوةً في أي وقت من الأوقات. وأخيرا قُتل الشيخ مري (أو من خلفه) في معركة حربية ضد ديجاز كونفو Dejaz Konfu أحد أعمام الامبراطور تيودروس الثاني (5).
وفي عام 1838م زار محمد علي باشا السودان، وفيها رأى أن لدية فرصة سانحة ليبعث بجيشه للاستيلاء على الحبشة التي كان تمزقها في تلك السنوات الانقسامات والثورات الداخلية. وسير محمد علي جيشا بقيادة خورشيد باشا عَبْر القلابات لمهاجمة غوندار. وفي غابات منطقة أبو كلامبو (Abu Kalambo) الواقعة بين القلابات وواني (Wahni)، وقع ديجاز كونفو أسيرا لدى الجنود المصريين فقطعوه إِرْبًا إِرْبًا.


إحالات مرجعية

  1. انظر موسوعتي المعرفة والويكيبيديا في هذين الرابطين https://tinyurl.com/782xrak7 و https://tinyurl.com/h783zubx
  2. جيمس بروس (1730 – 1794م) هو رحالة وجغرافي أسكتلندي زار تلك المناطق عام 1772م.
  3. الشنقلا Shankalla / Shangalla بحسب ما جاء في الموسوعة البريطانية في عام 1911م هو اسم يطلق عموما على كل الذين هم من غير القبائل العربية أو الحبشية، التي تقطن المنطقة الواقعة غرب قوجام على الحدود السودانية – الحبشية، ويتكونون من قبائل زنجية وأخرى شبيهة بالزنوج. https://en.wikisource.org/wiki/1911_Encyclop%C3%A6dia_Britannica/Shangalla
  4. أفادني خبير بأن كلمة “قسمتي Kasmati “هذه ربما تكون لقبا حبشيا إداريا قديما يعادل “مدير قسم” أو حاكم إقليم أو ما شابه.
  5. لنبذة تاريخية عن امبراطور الحبشة تيودروس الثاني، انظر هذا الرابط: https://tinyurl.com/wd73buv4

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.