عَمَليَّةُ مِشْبَكِ الْوَرَق!

عَمَليَّةُ مِشْبَكِ الْوَرَق!
  • 12 أكتوبر 2021
  • لا توجد تعليقات

كمال الجزولي

روزنامة الأسبوع

 OPERATION PAPERCLIP

الإثنين

شقَّ عليَّ نبأ وفاة المفكِّر الكبير محمَّد بشير «عبد العزيز حسين الصَّاوي»، والذي طالعته ببعض المواقع، ضمن كلمة وداع سطَّرها في ذكراه زين العابدين صالح، بعد سويعات من رحيله بلندن، إثر ذبحة صدريَّة مفاجئة، مساء الأحد الثَّالث من أكتوبر 2021م.في المستوى الشَّخصي لم يتح لي، للأسف، الاقتراب من الصَّاوي، رغم جيئاته الشِّتائيَّات إلى السُّودان، ورغم الأصدقاء المشتركين الكثر، كالمرحوم جادين، أوان حياته، والمحامي يحي الحسين، والمهندس محمَّد وداعة، والصَّحفي محمَّد عتيق، متَّعهم الله بالصَّحَّة والعافية. غير أنني ظللت أحرص على متابعة بذله الفكري المرموق، عبر ما كان ينشر، طوال السَّنوات الماضية، من كتب ودراسات ومقالات حول قضايا النَّهضة، وحفريَّاته التَّنويريَّة المتعمِّقة، بمنهج يتفادى النِّزاعات السِّياسيَّة المعتادة، ويرفع الرَّأس من تحت أمواج الخلافات اليوميَّة السَّائدة، ليؤسِّس لاهتمامات أثرى، خصوصاً حول إشكاليَّة الدِّيموقراطيَّة والفكر القومي العربي، ربَّما لسابق علاقة عضويَّة بحزب البعث، لا سيَّما بعد خطوة الانشقاق الجَّرئ الشَّهير، بقيادة جادين، عن حزب البعث العربي الاشتراكي، مِمَّا أنتج حزب البعث السُّوداني، الأكثر توفُّراً على المسألة الوطنيَّة، وعلى خصوصيَّة قضاياها، من منظور التَّنوُّع، والليبراليَّة السِّياسيَّة القائمة على الحريَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة، كسياق لا غنى عنه لأيِّ مشروع نهضوي.قيل، في نعي فيلسوف كبير، تأكيداً لقيمة عطائه الاستثنائي، إنه، بلا شكَّ، سوف يواصل، في موته، إسداء خدماته الجَّليلة للبشريَّة، تماماً كما كان أوان حياته! ورغم أن البلاد خسرت، قطعاً، بالفقد الفادح للصَّاوي، إنساناً مخلصاً، ومناضلاً مستنيراً، إلا أنَّ المشعل الوضَّاء الذي تركه في ميراث فكره الفذِّ، وعقله الكبير، اتَّفق حوله النَّاس ام اختلفوا، سيواصل المساهمة في إنارة فوانيس الطريق الصَّحيح باتِّجاه التَّطوُّر، نسأل الله أن يشمله بغفرانه، وبواسع رحمته ورضوانه.

الثُّلاثاء

زمن طويل مرَّ على انفجار فضيحة الخطاب الرَّسمي الذي أوردت الأنباء أنه  صدر عن مجلس السَّيادة طالباً من وكيل وزارة الخارجيَّة دعوة رؤساء البعثات الدِّبلوماسيَّة، والمنظَّمات الاقليميَّة والدَّوليَّة المعتمدة لدى السُّودان، لحضور «حفل التَّوقيع» على ما سُمِّي بـ «الميثاق الوطني لوحدة قوى الحريَّة والتَّغيير» بقاعة الصَّداقة بالخرطوم، رغم نفي دوائر «الحريَّة والتَّغيير» نفسها أدنى صلة لها به! ومع ذلك فإن رغبة مريبة في تجاهل تلك الفضيحة، ونسيانها، يراد لها أن تغمرها تحت موج لجب من المستجدَّات، كتلاحُق الأحداث ما بين تمرُّد تِرِكْ في شرق البلاد، وانقلاب بكراوي في مدرَّعات الشَّجرة، ولكن .. هيهات! فهذه الأحداث أبعد من أن تكفي كمبرِّر لستار صمت كثيف أسدل، فعليَّاً، على تلك الفضيحة، رغم تجاوزها محض حشر أنف المكوِّن العسكري لمجلس السَّيادة في جانب من العمل العام لا يمتُّ لاختصاصاته بأدنى صلة، وشمولها وقائع يصعب، إن لم يستحيل، إنكارها .. مجَّاناً هكذا! فالخطاب يحمل ترويسة المجلس الذي يرأسه الفريق أوَّل البرهان، ويحمل توقيع أمينه العام الفريق الرُّكن محمد الغالي، وطلب إصداره منسوب إلى مني أركو، حاكم دارفور، وعنوانه أعلى سقف في خارجيَّة البلاد، ونشره تمَّ على أوسع نطاق في المواقع الاسفيريَّة، والصُّحف الورقيَّة، كما جرى تناوله، طوال أيَّام، بالتَّعليق المستنكِر الشَّاجب، بل واتُّهِم البرهان، شخصيَّاً، وزملاؤه في «اللجنة الأمنيَّة»، من قِبَل أعرض قطاعات الرَّأي العام، بالتَّآمر على الثَّورة، ومساندة الانقلابيِّين، ومحاولة خلق حاضنة سياسيَّة بديلة للفترة الانتقاليَّة، حتف أنف مواكب الثَّلاثين من سبتمبر الزَّاجرة لكلِّ متآمر، ومع ذلك لم يفتح الله على أيٍّ من المسؤولين المذكورين، بكلمة نفي تفضُّ المغاليق، وتدفع عنهم سيوف الاتِّهامات الغليظة، ما عدا التَّناقض المخجل الذي لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقي، ما بين تأكيد المجلس أن مني أركو هو صاحب الخطاب والطلب، وبين تغريدة مني أركو نفسه المبتسرة، تنفي ذلك دون أن تشفي غليلاً، فضلاً عن صبِّ المجلس مزيداً من الزَّيت على الفضيحة بخطابه الجَّديد، بتوقيع نفس أمينه العام، يتراجع، بغير انتظام، عن خطابه السَّابق!

الأربعاء

أحاول في شعري أن أقف شاهداً على واقع تاريخي أنا جزء منه. ولأن هذا الواقع من صنع بشر يخضع فعلهم، في الطبيعة والمجتمع، لقوانين موضوعيَّة حاكمة، ولأنه، أيضاً، نتاج صراعاتهم المحتدمة، عبر فعلهم المستمرِّ هذا، فلا مناص، إذن، من أن تأتي «الأنا ـ النَّحن ـ الهُم» متداخلة باستمرار، من خلال هذا القول الشِّعري. مع ذلك، ليست لديَّ أيُّ أوهام حول شرط «الفردانيَّة» في هذه العمليَّة الابداعيَّة؛ فأنا، كمبدع، حامل لعلاقات اجتماعيَّة أتأثَّر بها، وأؤثِّر فيها، أثناء سعيي للتَّعبير عنها، فتنعكس، بالضَّرورة، على رؤيتي، وأحلامي؛ لكن ابداعي يظلُّ متَّحداً مع ذاته، لا مع الواقع، منفرداً بخصوصيَّته، لا بجمعيَّته، نافراً من الآخرين، كشرط لا بُدَّ منه لألفته معهم! بعبارة أخرى، فإن مقاربتي للواقع الاقتصادي، السِّياسي، الاجتماعي، الثَّقافي الذي انتجني لا تعني انطباقه عليَّ، أو اتِّحادي فيه؛ بل إن اقترابي، بقصيدتي، من واقع شعبي، ومن الانسانيَّة على أقصى وسعها، هو الذي يشترط رفضي لهذا الواقع. من ثمَّ، ولأن المبدع لا ينظر للعالم بعيون لجنة، أو هيئة، أو جماعة، فإن «فردانيَّتي» الابداعيَّة ما تنفكُّ تفعل فعلها، لتتحقَّق، عبر المزج بين «الحبِّ» و«الكُره»، بين «القبول» و«الرَّفض»، بين الدَّافع لـ «التَّسامح» والرَّغبة في «الانتقام»، وذلك في تمظهر جدليٍّ، متقلقل، غير مستقرٍّ، ولا متَّسقٍ، ولا قابل للاستئناس!

الخميس

عقب فشل النَّازيِّين، عام 1943م، في هزيمة الجَّيش الأحمر في معركة ستالينغراد، جمعوا علماءهم، على بحر البلطيق، بقائمة وضعها رئيس «جمعيَّة أبحاث الدِّفاع»، لتطوير استراتيجيَّة تكنولوجيَّة جديدة ضدَّ السُّوفييت. وعقب الهزيمة النِّهائيَّة للنازيِّين في الحرب الثَّانية، ودخول السُّوفييت إلى برلين، شرع الأمريكان في جمع كلِّ ما يتعلق بأسرار التِّكنولوجيا العسكريَّة الألمانيَّة، حيث اكتشفوا «قائمة علماء» مخبَّأة في جامعة بون، فقرَّروا حصرهم، في أول برنامج تجنيد سرِّي، عام 1945م، بهدف دعم الأبحاث العسكريَّة الأمريكيَّة في فترة ما بعد الحرب، مِمَّا سُمِّي «برنامج أوفركاست»، على اسم مخيَّم عائلات العلماء في بافاريا. لكن، عندما تحقَّق الأمريكان من القدرات الاستثنائيَّة لأولئك العلماء، قرَّروا ترحيلهم، مع عائلاتهم، إلى الولايات المتَّحدة لتطوير أبحاث الفضاء العسكريَّة هناك، وبوجه خاص تطوير صاروخ «بي تو» البلاستي الموجَّه طويل المدى. وفي نوفمبر 1945م، أعاد ضباط سلاح المدفعيَّة بالجَّيش الأمريكي تسمية «برنامج أوفركاست» بـ «عمليَّة مشبك الورق»، حيث كانوا يميِّزون ملف كلِّ عالم يراد ترحيله بـ «مشبك ورق» خاص يعلِّقونه فيه!

الهدف من تلك العمليَّة، حسب كتاب «عمليَّة مشبك الورق: برنامج المخابرات السِّرِّيَّة لجلب العلماء النَّازيِّين إلى أمريكا» للكاتبة آن جاكوبسن، 2014م ــ Jacobsen, Annie; Operation Paperclip: the Secret Intelligence Program to Bring Nazi Scientists to America, Brown and Company 2014 كان هو الحصول على ميزة عسكريَّة في الحرب الباردة وسباق الفضاء مع السُّوفييت. ولم يكتفِ الرَّئيس ترومان بالموافقة، فقط، على العمليَّة، إنَّما وسَّعها، لتشمل1000 عالم ألماني، بموجب أمر سرِّي نُشر في سبتمبر 1946م. لكنه اشترط استثناء العلماء ذوي الخلفيَّات النَّازيَّة أو المتعاطفين معها! غير أن «السِّي آي إي»، في سبيل التَّحايل على ذلك الشَّرط الذي من شأنه إقصاء الكثير من العلماء المتميِّزين، كانت تتعمَّد عدم فحص ملفاتهم قبل وصولهم أمريكا، بل ومحو بعض المعلومات منها

بلغ إجمالي عدد الذين تمَّ ترحيلهم 1600، كان بعضهم، بطبيعة الحال، قياديِّين وأعضاء في الحزب النَّازي، ومن بينهم، مثلاً، عالم الصَّواريخ الأوَّل فيرنر فون براون الذي وصل إلى أمريكا عام 1945م، وألحق بالعمل في مجال تطوير صواريخ الجَّيش، قبل أن يُنقل إلى «وكالة ناسا» عام 1960م، ليصبح «مدير مركز مارشال لرحلات الفضاء». كما أصبح المهندس الرَّئيس للصَّاروخ «ستورني فايف» الذي دفع مركبة «أبوللو» إلى القمر، إضافة إلى العالم كورتيديبوس الذي كان عمل سابقاً في «قوَّات الأمن الخاصَّة» بألمانيا النَّازيَّة، قبل أن يصبح مديراً لمركز الإطلاق المعروف الآن باسم «مركز كندي للفضاء».

الشَّاهد أن فضل «عمليَّة مشبك الورق» على تقدُّم علم الفضاء الأمريكي غير منكور. لذا أحيطت بسرِّيَّة عاليَّة، لدرجة أن السُّلطات رفضت كلَّ المطالبات الصَّحفيَّة الملحَّة للكشف عنها! لكن تمَّت الموافقة، مؤخَّراً، على إصدار بعض وثائقها، لما أثارته من جدل ونقد كثيف طال، بخاصَّة، كون أمريكا تعاملت مع علماء ذوي تاريخ نازيٍّ أسود! على أن أولئك العلماء لم يعدموا من يدافع عنهم بأنهم لم يكونوا «جميعاً» كذلك، وأنهم قدَّموا خدمات «جليلة» لأمريكا خلال الحرب الباردة، فضلاً عن أن أمريكا، لو لم تسارع لاستخدامهم، لاختطفهم السُّوفييت (!) وساق أصحاب هذه الحُجَّة، دليلاً على ذلك، من تجنيد الأخيرين، كما قالوا، لأكثر من 2000 متخصِّص نازي خلال ليلة واحدة!والآن، هل، تراها، تحتاج «تَّورة ديسمبر» إلى «عمليَّة مشبك ورق»؟!

الجُّمعة

منذ مجزرة الثَّالث من يونيو 2019م وحتَّى انقلاب بكراوي، صباح الحادي والعشرين من سبتمبر 2021م، وما أعقبه، لم تكُفَّ حراكات العسكر عن محاولاتها الخاسرة لكبح الثَّورة، وترويع الثُّوَّار! وقد أصاب دولة الرَّئيس حمدوك باختزاله توصيف هذه المحاولات، وما تهدف إليه، بأنها، أوَّلاً، مدبَّرة من داخل وخارج القوَّات المسلحة، وأنها، ثانياً، قد سبقتها تحضيرات واسعة أبرزها الانفلاتات الأمنيَّة في المدن، والنَّشاطات التَّخريبيَّة في الأقاليم، كالشَّرق مثلاً، وأنها، ثالثاً، تستهدف إجهاض الانتقال المدني الدِّيموقراطي، وأنها، رابعاً، تمثِّل مظهراً للأزمة التي كان أشار إليها حمدوك في مبادرته «الطريق إلى الأمام»، حين تحدَّث عن «ضرورة إصلاح الأجهزة الأمنيَّة والعسكريَّة»، ومواصلة «تفكيك نظام الثَّلاثين من يونيو» الذي يشكِّل خطراً على الانتقال!ولأن جملة أدلَّة منطقيَّة ما تفتأ تهشُّ بأكثر من إصبع نحو حلف عسكريٍّ سياسيٍّ يربض، ولا بُدَّ، خلف كلِّ هذه الحراكات التَّآمريٍّة، فإن رأس البوصلة الأساسيَّة في هذا المنطق ما تنفكُّ تتَّجه إلى ذات الفلول الاجتماعيَّة التي ظلت تساند النِّظام البائد، وترضع من ثديه، حتَّى يومه الأخير، فهي، وحدها، صاحبة المصلحة الحقيقيَّة في محاولة حصار الثَّورة بكلِّ هذه الأرتال من الحقد، والإحنة، والضَّغينة. ولأن حِلفاً كهذا يصعب قيامه على خطَّة يتيمة تتبدَّد كلُّ آمال النِّظام البائد بفشلها، فلا بُدَّ من توقُّع اعتبارها بمثابة «الخطَّة/أ»، بحيث يكون قد جرى التَّحسُّب، دون شك، بإعداد «الخطَّة/ب» كي يتمَّ اللجؤ إليها عند اللزوم!من ثمَّ فإن قراءة «مسرحيَّة» الاحتفال بتوقيع ما سُمِّي «ميثاق تحالف الحريَّة والتَّغيير» الجَّديد بقاعة الصَّداقة بالخرطوم، مساء الرَّابع من أكتوبر 2021م،  مضافة إليها «مسرحيَّة» إرهابيِّي جبرة «الجزئين الأوَّل والثَّاني»، ومقترنة معهما زيارة الفريق البرهان ومدير المخابرات العامة الفريق جمال عبد المجيد إلى موقع «الحدث»، تحت حراسة المدرَّعات، لهي قراءة راشدة، باعتبارها «الخطَّة/ب» التي تلي «الخطَّة/أ» الفاشلة، كزوبعة تهدف لإعادة «هيئة عمليَّات» المخابرات العامَّة، ولاستكمال «الانقلاب» الذي يقوده البرهان على المكوِّن المدني في السُّلطة الانتقاليَّة، خوفاً «على» رئاسة السَّيادي، وخوفاً «من» إزالة التَّمكين!

السَّبت

بالسَّبت الثَّاني من أكتوبر 2021م، وبدعوة كريمة من «هيئة شؤون الأنصار للدَّعوة والارشاد»، وبمقرِّهم بودنوباوي بأم درمان، أتيح لي أن أشارك، معقِّباً على الورقة الأساسيَّة التي قدَّمها الأمين العام د. عبد المحمود أبُّو، وذلك في منتداهم الدَّوري، الذي أقيم، هذه المرَّة، حول «رؤية الهيئة لتحدِّيات الانتقال ـ الأزمات والفرص».كان لابُدَّ لي من أن افترع تعقيبي بالتَّرحُّم على روح الإمام الرَّاحل، والثَّناء على استنارته لجهة الفقه التي تجلَّت في الكثير من اجتهاداته، كالتي ضمَّها مؤلَّفه البديع «نحو مرجعيَّة إسلاميَّة متجدِّدة»، ولجهة الحداثة التي حدت به، ضمن ما حدت به، إلى بذل جهد مقدَّر في الارتقاء بـ «هيئة شؤون الانصار» على طريق أشراط المجتمع المدني، رويداً رويداً، من حيث انفتاحها للعضويَّة، وهيكلتها الدِّيموقراطيَّة، وانتخاب قياداتها، وحداثة برمجتها وأساليب تسييرها، وما إلى ذلك.ثمَّ انتقلت، بعدها، إلى تناول موضوعات الورقة، حيث اتفقت مع بعضها، واختلفت مع البعض الآخر. وفي ما يلي أعرض لاثنتين منها كالآتي:

(1) نوَّه الدُّكتور بأهميَّة وضرورة «العدالة الانتقاليَّة»، وأعلى من شأن تجربة جنوب أفريقيا، وهما تنويه وإعلاء مستحقَّان، ما في ذلك شك، وموروثان، ولا بُدَّ، من استنارة الإمام الرَّاحل، فقد كان دائم الاهتمام بهذه التَّجربة، وتمجيدها، ولفت الانتباه إلى ضرورة الاقتداء بها في السُّودان. لكنَّني، على يقيني من ضرورة اجتراحنا لنموذج سودانوي في «العدالة الانتقاليَّة»، ظللت، للأسف، قليل الثِّقة في ملائمة النَّموذج الجنوبافريقي لظروفنا، من حيث انتقاله، مباشرة، من «الحقيقة» إلى «المصالحة»، متجاوزاً عامل «الانتصاف»، مِمَّا سيشكِّل نقصاً معيباً، بل وسيعتبر قصوراً، إن اقتدينا بحذافيره.

(2) لم يكن من الممكن إغفال ملاحظة لافتة للنَّظر، بإلحاح، في قول د. عبد المحمود بأن «جريمة فضِّ الاعتصام أحدثت جرحاً غائراً في جسد الوطن»، مشيراً إلى أن «أزماتنا انكشفت مع انتصار الثَّورة»، وهو قول صَّائب تماماً، لولا أن الدكتور أردف عازياً كلَّ هذه الأزمات إلى «النِّظام الشُّمولي البائد»، وقائلاً «إن ذلك النِّظام أخفاها». فعقبت، أوَّلاً، بأن الدُّكتور ربَّما لم يقصد إلى هذا المعنى، تحديداً، حيث أن النِّطام البائد «لم يستطع»، في الحقيقة، «إخفاء أزمات الوطن»، بقدر ما تبلورت هذه «الأزمات»، وتجسَّدت فيه، تماماً كما حدث، قبله، ضمن نظامي نوفمبر ومايو الشُّموليَّين السَّابقين عليه. فلئن كان العنوان الأكبر لهذه «الأزمات» هو «تنكُّب الدِّيموقراطيَّة» التي كنَّا قد تواضعنا على اختيارها طريقاً للتَّطوُّر، وأسلوباً للبناء، منذ فجر الاستقلال السِّياسي، فقد وقعت مفارقتها خلال الأنظمة الشُّموليَّة، بحسب شموليَّتها نفسها التي لا يُنتظر منها، كقاعدة، خلاف ذلك. وثانياً تقتضينا موضوعيَّة النَّظر، والرَّغبة في إصلاح المسار والمسير، ألا نغفل عن حقيقة أن ذلك قد وقع، استثناءً، أيضاً، عبر بعض الأخطاء الكبيرة التي تورَّطت فيها الأنظمة الدِّيموقراطيَّة نفسها.

ووددت لو ان د. عبد المحمود أشار إلى أبرزها في حلِّ الحزب الشِّيوعي أواخر عام 1965م، وطرد نوَّابه من الجَّمعيَّة التَّأسيسيَّة، ورفض حكم القضاء بعدم دستوريَّة تلك الاجراءات، مِمَّا حدا ببابكر عوض الله للاستقالة من رئاسة القضاء، ثم عودته داخل دبَّابات انقلاب مايو 1969م الذي أطاح بالنِّظام الدِّيموقراطي المستعاد بالمهج والأرواح، من بين فكَّي نظام الفريق عبود، في ثورة أكتوبر 1964م. ورغم ضلوع الإمام الرَّاحل، على رأس حزب الأمَّة، في ذلك الفعل الذي هدَّد الدِّيموقراطيَّة بجدِّيَّة، إلا أن الاشارة لا تفوتنا، هنا، إلى إبانته المستقيمة في حديثه لمجلة اتِّحاد طلاب جامعة الخرطوم عام 1985م، حيث شجب حلَّ الحزب الشِّيوعي، وما تبعه، وترتَّب عليه، من إجراءات، واعتذر علناً عنه، واصفاً إيَّاه، صراحةً، ولو بعد عشرين عام، بأنه «كان موقفاً سياسيَّاً غير محسوب نتج عنه موقف انفعالي»؛ وإلى ذلك، أيضاً، موقف المرحوم أمين التُّوم المشابه، ضمن مذكِّراته المنشورة في نفس العام 1985م. ولا يفوتنا، هنا أيضاً، من جهة ثالثة، الإقرار الصَّريح بمسؤوليَّة الحزب الشِّيوعي نفسه عن بعض الانقلابات على الدِّيموقراطيَّة، وأشهرها انقلاب مايو 1969م، رغم كلِّ ما يمكن أن يقال عن وقوع ذلك الانقلاب في سياق ردِّ الفعل على اضطهاد الشِّيوعيِّين عام 1965م، وأيضاً في سياق الانقسام الشَّهير داخل الحزب بين أغلبيَّة بقيادة الشَّهيد عبد الخالق محجوب ضدَّ الانقلاب، وأقليَّة بقيادة معاوية سورج وأحمد سليمان شاركت في تدبيره من خلف ظهر الحزب.الأحدمرَّت، في السَّادس من أكتوبر الجَّاري، الذِّكرى الثامنة والأربعون للانتصار المصري العظيم على العدوِّ الإسرائيلي عام 1973م.

ومن أطرف ما روى الصَّحفيُّون ومؤرِّخو تلك الحرب، الحادث الذي وقع في الثَّامن من اكتوبر، حيث وقع اشتباك جوِّي، في سماء بورسعيد، بين طائرات الميج 21 المصريَّه وطائرات الميراج الإسرائيليَّة، وانتهي الاشتباك بسقوط طائره ميراج اسرائيليَّة، وانسحاب بقيَّة السِّرب الاسرائيلي.

لكن تصادف، في تلك الأثناء، وصول طائرات ميراج اسرائيليَّه اخري لسماء بورسعيد لنجده التشكيل الأوَّل. فظن كلُّ تشكيل اسرائيلي ان التَّشكيل الآخر طائرات ميراج مصريه من السرب 69 الذي كان متمركزاً في قاعده طنطا. وهكذا اشتبك التَّشكيلان الإسرائيليَّان مع بعضهما البعض!

kgizouli@gmail.com

التعليقات مغلقة.