مفهوم الصفوة والانتقال الديمقراطي: إنني أتعثر حين أرى

مفهوم الصفوة والانتقال الديمقراطي: إنني أتعثر حين أرى
  • 04 نوفمبر 2021
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله علي إبراهيم

(قدمت في أوائل أكتوبر المنصرم ورقة بعنوان “مفهوم الصفوة: إنني أتعثر حين أرى” إلى مؤتمر “الانتقال الديمقراطي في السودان والجزائر” الذي نظمه المعهد العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، قطر. وأردت بالورقة الطعن في صلاحية مفهوم الصفوة، كثير التداول بيننا، لتحليل فترات التحول الديمقراطي لمّا كنا تواضعنا أن مقتلها في صراع الصفوة “وفشلها وإدمان الفشل”.

وصارت العبارة الأخيرة فينا تميمة أعفتنا من النظر إلى ما بعدها.وأردت هنا أن أشرك الأصدقاء في البحث بنشر مشروعه الذي كنت عرضته على إدارة المؤتمر لأشرع في البحث بعد قبوله. وهو إشراك “ضوقة” لا أتوقع أن يسوغ لبعضكم من فرط إيجازه في غرضه. ولكنه سيغني إن لفت النظر إلى إشكالية مفهوم الصفوة حتى يظهر البحث في صورته النهائية).يخيم على الفترة الانتقالية في السودان بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٨ شبح بالفشل يأتيها مما تعارفنا عليه في علم سياستنا ب”الحلقة الجهنمية” التي تنتهي بمثل هذه الفترة الديمقراطية إلى انقلاب فديكتاتورية.

وهذا اليأس الباكر مما استقرأه المحللون من تجربة سبقت لفترتين انتقاليتين دشنتهما ثورة وقام نظام ديمقراطي في أثرهما ثم طواهما انقلابان عسكريان أقاما نظماً ديكتاتورية طويلة العمر: قادت ثورة أكتوبر ١٩٦٤ إلى انقلاب ١٩٦٩ كما قادت ثورة ١٩٨٥ إلى انقلاب ١٩٨٩. ويعلق المحللون هذه الردة عن الديمقراطية للديكتاتورية على جنب الصفوة التي على رأس مطلب الحكم المدني. وتنبأ النور حمد لفترتنا الانتقالية الحالية بمصير سابقاتها مؤخراً بقوله ” فحين يتنازع المدنيون أمرهم يصعد للقيادة الأدعياء . . .

  تؤول مقاليد الأمور للعسكر بصورة تلقائية. هكذا كان تاريخنا السياسي ولا يبدو أننا خرجنا من حفرة ذلك التاريخ المخزي” (التيار ٧ يناير ٢٠٢١).أريد في هذه الورقة نهجاً لتفسير أكثر تعقيداً ل”الحلقة الجهنمية” من جهتين. فأتناول من الجهة الأولى مفهوم الصفوة الذي عليه مدار الحلقة الجهنمية. وهو المفهوم الذي نقلناه إلى خطابنا السياسي عن الفكر الغربي، ولم نستأنسه بتحر وضبط يدني بهما زمامه لنا لمعرفة أعقد ببابنا الدوار بين الديمقراطية والديكتاتورية. أما من الجهة الثانية فسأرد، على بينة مخضي لمفهوم الصفوة، هذه الحلقة الجهنمية إلى “الثورة المضادة” الغائبة في تحليلنا. فما حاجتنا لمفهوم الثورة المضادة طالما كان فشل الثورة وفترتها الانتقالية مردود لصفوة علتها في أنها خربة الأخلاق، لا في خوضها لصراع اجتماعي  الصفوة طرفاً في حرب بين أطرافها. ومن هذه الأطراف صفوة الجيش نفسها التي جعلناها وصياً مفوضاً  لإنهاء الفترة الانتقالية بالضربة القاضية متى اصطرعت الصفوة المدنية.جاء مفهوم الصفوة إلى علم سياستنا بيد منصور خالد في مقالات نشرها بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤ وصدرت في كتاب لاحقاً (١٩٧٩).

وسرى مسرى النار في الهشيم. وعرض منصور في الكتاب برنامج عمل للصفوة الحديثة لم يخرج عما كانت عليه الناصرية أو النكرومية آنذاك. وطغت فيه عقيرة العتاب الأخلاقي لأهل الصفوة المستنيرة “يتعادون في مراد النفوس ويتفانون في مظاهر الوجاهة ويتنافسون كالضرائر في عرض الدنيا، وأي مراد، وأي عرض، في بلاد نبتها عشر وطلح وأكثر صيدها ضبع وديب. ضعف الطالب والمطلوب”. (١٩٧٩).مفهوم الصفوة معروف في منشأه الغربي بعلم “نزاعات الصفوة” خلافاً لما ذاع بيننا عنه فتصورناها طليعة منقية من الصراع، ومتى اصطرعت فسدت وأفسدت. وسنعرض لسيرة المفهوم في حاضنته الإيطالية الأولى عند قيتيانو موسكو والفرد برتو في العقد الثاني من القرن الماضي، وفي مهجره الأمريكي في الخمسينات (رايت ملز)، وانبعاثه في دراسات التحول للديمقراطية transitology في شرق أوربا بعد تداعي النظم الاشتراكية (جون هقلي) للقول بأنه مفهوم لتحليل الصراع الاجتماعي.

وهو كذلك في واقع الأمر مع أن من بادروا به أرادوا منه النأي عن الأخذ بالصراع الطبقي الماركسي.ونظرية الصراع الاجتماعي هي تلك التي تقول بأن الصراع سنة في المجتمع لا محيص منها، وأنه يضرب جماعات مختلفة هي في حالة منافسة لا تنقطع حول موارد وسلطان محدودين. فيطغى ذو الشوكة على من لا شوكة له. ومؤدى نظرية الصفوة في حاضنته الغربية أنها القلة التي تتخذ القرارات للكثرة. وتقوم على أساس غير طبقي للفاعل في الصراع (agency) للكشف عن مجالات التغيير في البنيات الاجتماعية في غياب الصراع الطبقي. وعليه فمدرسة التحليل بالصفوة في الغرب لم تسقط حقيقة شوكة الصفوة وصراعاتها في تناولها للتدافع الاجتماعي. فإن طغت المسحة الأخلاقية على ذلك الصراع في مفهوم موسكا وبارتو عن الصفوة إلا أنه عاد على أشده عند المنظرين اللاحقين.

فالمفتاح لفهم الصفوة عند المتأخرين هو امتلاك الصفوة للموارد خصماً على الطبقات التي تنتج تلك الموارد، وتلك التي تستثمر في انتاجها كالبرجوازية. ولا تصارع الصفوة الجماعات المار ذكرها دون هذه الموارد، بل تتصارع فصائلها نفسها حولها (ريتشارد لاشمان).أما مدرسة الصفوة الأمريكية في الخمسينات فهي الأصرح في أنها نظرية من نظريات الصراع الاجتماعي. فعدد رايت س ملز مفردات الصفوة الأمريكية التي تكونت من القادة السياسيين، وأصحاب الشركات الكبرى، وضباط الجيش العظام. وقال بأنهم، على وحدة سلطانهم، شديدو النزاع فيما بينهم.  فخلافاتهم، التي أضحت الضوضاء الخلفية للسياسة الوطنية، تقع بتواتر متسارع حتى لتبدو برهاناً أن الصفوة في واقع الأمر صفوات متعددة” (رايت وف هنتر).ونواصلمن يمين المقال قيتيانو موسكا العالم الإيطالي صانع مفهوم الصفوةومن يسارها سي رايت ملز من منظري الصفوة الأمريكيين.

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.