دلالات ومعاني في يوميات أول أمريكي زار السودان (1821م)

دلالات ومعاني في يوميات أول أمريكي زار السودان (1821م)
  • 15 فبراير 2022
  • لا توجد تعليقات

عبد الله حميدة

(1) رسالة من تحت الماء
رافق الأمريكي (جورج انجلش) George English حملة محمد علي باشا – بقيادة ابنه اسماعيل – على السودان عام 1921م. وكتب مشاهداته وما وقع من أحداث، في يومياته المضمنة في كتابه المسمى:
A Narrative of The Expedition to Dongola and Sennar.
الصادر في بوسطن عام 1823م، والذي بقي بلغته الأصلية – دون أن يترجم إلى العربية – حتى عام 2008م حين هيأ الله لي أن أقوم بترجمته تحت عنوان: ( حكاية الحملة على دنقلا وسنار).
حوى الكتاب مزيجاً من مشاهدات الكاتب حول سودان القرن التاسع عشر الميلادي.. أرضه وسكانه، إلى جانب روايات شفهية ومعلومات عن عادات أهله وتقاليدهم وعقائدهم ومهاراتهم اليدوية، وعن مجري النيل وطبوغرافيته وأحيائه المائية وما ينبت على شاطئيه من نبات وما يدب عليها من حيوان. كما حوى الكثير من وجهات نظر الكاتب في شؤون البلاد والعباد مما يمكن الأخذ منه والرد عليه.
وسأورد في سلسلة المقالات التي أزمع أن أكتبها على صفحات هذا الموقع، اقتباسات مما حواه الكتاب من دلالات لبعض المشاهدات والروايات والآراء، بدءاً بانطلاق الحملة العسكرية المشار إليها وانتهاءً بوصولها إلى سنار عاصمة السلطنة الزرقاء السودانية.
واستهلها اليوم بالمقال الأول الذي اخترت له عنوان :(رسالة من تحت الماء).
كان الشلال الثاني أول ما لفت نظر الأمريكي (انجلش) من معالم أرض السودان وقد يتساءل البعض – هنا – أين موقع مدينة (وادي حلفا) من الإعراب؟ الإجابة أن هذه المدينة لم تكن – حينئذ – إلا موقعاً جغرافيا لقرية صغيرة اتخذها إسماعيل باشا معسكراً لقواته حسبما يروي نعوم شقير في سفره الضخم (جغرافية وتاريخ السودان).وقد سبقه الرحالة (بوركهارت) الذي مر عليها قيل ( إنجلش ) بثماني سنوات بالقول إنها كانت مجرد مرسي للمراكب القادمة من أسوان.
وإذن فقد كان الشلال الثاني أكثر شهرة وأهمية مما كان لوادي حلفا لأن الحملة العسكرية قد تحركت من طرفه الشمالي الذي يبعد عنها مسافة عشرة كيلومترات جنوباً والذي قال عنه حسن دفع الله مؤلف كتاب (هجرة النوبيين) انه من عجائب الطبيعة… أضف إلى ذلك أن الوصف الدقيق للشلال الثاني وفق ما ورد في كتاب (جورج انجلش) يعتبر وثيقة تاريخية لأنه شاهد عيان لهذا الشلال قبل أن يغرق في بحيرة النوبة بما يقارب مائة وخمسين عاما من الزمان. وبالتالي فان ما جاء في ذلك الوصف يعتبر من العلم النافع لكل من لم يشاهد الشلال اصلاً. كما أن الاقتباس من الوصف المذكور يثير تساؤلاً مشروعا حول الظروف والكيفية التي فقد فيها السودان تلك القطعة العزيزة من أرضه. وهذا مبحث شائك يطول فيه الكلام غير أن مجرد الإشارة إليه يضيف جديداً إلى أهمية ذلك الشلال وموضعه في وجدان أهل البلاد.
كتب (جورج انجلش) يقول: ( إن ما يطلق عليه الشلال الثاني هو سلسلة من المنحدرات والاندفاعات المائية التي تمتد إلى مسافة تزيد عن مائة ميل قبل ان تصل إلى منطقة (السكوت)، وقد عددت تسعة منها كان بعضها وعرا للغاية.)
ثم يصف طبيعة المنطقة المحيطة بالشلال فيقول: (لا يبدو منظر البلاد الواقعة على جانبي المنحدرات اشبه بذلك الذي يرى جنوب (أسوان) مباشرة إذ أن طبيعته صحراوية رملَّية تتناثر فوقها جبال وتلال صخرية من الجرانيت الاسود البديع الذي يشبه لونه ولمعته أجود انواع الفحم الحجري.
وكان المنظر اليتيم للخضرة الذي رأيناه هو ما ظهر على سطح بعض الجزر وفوق ضفتي النهر من مساحات صغيرة خصبة تحفل بالخضرة وبحركة المزارعين.)
وعند وصوله إلى الطرف الجنوبي للشلال قال:
( مضت ساعة مررنا خلالها ببقعة ذات منظر بديع..هنا تعترض النهر جزيرة صخرية عالية تقسم مجراه الي رافدين. ويري العابر بقايا حصون كما يري علي الضفة اليمني للنهر قبالة الجزيرة امتدادا لأرض زراعية وقرية تحفها اشجار النخيل الباسقة والخضرة اليانعة ).
ثم يقول في خاتمة الوصف: ( رايت تمساحا صغيرا لا يزيد طوله عن ثلاثة اقدام يستدفئ بحرارة الشمس، وحال اقترابي منه انطلق جريا كما الجن وقفز في مياه النهر.)

يكشف لنا هذا الاقتباس الوصفي للشلال الثاني مدى الفقد العظيم الذي وقع علي السودان باختفاء هذا المعلم الحيوي والعمراني والأثري والسياحي من خارطته بعد ان غمرته مياه النيل عند اقامة السد العالي. وليت ذلك الفقد قد اقتصر علي شلالنا العريق. فقد تكسرت النصال علي النصال لتضيف الي جراحات الوطن : محنة (انفصال الجنوب) وآلام (احتلال حلايب) والثمن الباهظ الذي مازلنا ندفعه لاستعادة (الفشقة).
ان متوالية تساقط اجزاء السودان لن تنتهي الا عندما تتوقف جرائم (شد اطرافه) وندرك المعني الحقيقي لمفهوم وحدة الوطن وعدم العبث بنسيجه الاجتماعي. فاعتبروا يا اولي الابصاربالرسالة التي بعثها اليكم شلالكم الثاني من…تحت الماء.
( ونواصل)

aha1975@live.com

التعليقات مغلقة.