الخليل .. يا بلادي كم فيك حاذق

الخليل .. يا بلادي كم فيك حاذق
خليل فرح
  • 18 فبراير 2022
  • لا توجد تعليقات

وائل فتح الرحمن الصادق

مقدمة:
بصورة متعاظمة يحتار المتناول أمام الكتابة الثقافية عن شخوص مثلوا في رحلة مسيرهم الشامله إضاءات جسدت ما عليه عرى التاريخ وأنارت دروب الحياه وظلت في عرصات المستقبل المستشرف لدورهم وعطائهم المشاهد. أترى يصير سديداً تناولهم من زوايا نظر السيره الشخصية أم يضحى تعاطي نصوصهم الإبداعية مدخلاً وضاءاً لسبر أغوار فعلهم الثقافي، أم يصح النظر في سياقات تطور وعيهم وأسهامهم الممتد عبر الزمكان الإنساني!
في البدء ونحن نتلمس الطريق أمام قامه سودانية فارهه شعراً، وغناءاً، وعزفاً، وكتابةً صحفية، ونضالاً، وبذلاً سياسياً ضد المستعمر، ودعماً للمرأة في بواكير تشكل حركة الوعي الوطني السوداني وتأسيساً لها، يلزمنا أن نصف من أردنا الولوج إلى عوالمه المنثورة على سطح التاريخ والحاضر بأنه مثّل “حالة” ثقافيه ووطنية وسياسية شاملة بل يصير أبلغ من هذا لو وصفناه بالمثقف العضوي حسب قرامشي وهو المثقف الذي يطلّع بدور رائد في الإسهام المعرفي أو الفني أو الفكري العملي ولعب دوره المتسق قولاً و فعلاً في حياة الفكر وحياة الشعور من خلال الالتحام بالواقع الثقافي والاجتماعي والإنساني، والعمل لأجل تثويره وتطويره لعين الترقي الإنساني وسيرورته الصاعده إلى مراقي الحق والخير والجمال.
الخليل .. الحذق الباكر:
تظل السنوات الباكرة في حياة الفنان والمبدع والثائر المتمرد أهم فترات تشكله النفسي وتكونه الروحي وبلورته الاجتماعيه فيشب عن طوق الذات قادراً على الإسهام الحقيقي والفارق والمتجلي في شتى ضروب المعارف والثقافة والحياة الإنسانية. كان خليل فرح(١٨٩٤-١٩٣٢م) المولود والناشئ في أقصى الشمال السوداني في بلاد سليلة مجد وسؤدد من خلال دولاتها النوبية الضاربة في قدم الوجود الحضاري المدون في سير الكتابة التاريخية المحققة، كان في بواكير حياته مشبعاً بروح ولهى بالجمال، ونفس طلقة، وعقل متقد، سريع الالتقاط و ذات محبة للطبيعة، هذه الخصائص تجلت بوضوح آسر في أشعاره الغنائية النضاحة بعشق الجمال. إذن نستطيع أن نقارب نصوص الخليل ودلالتها في تشكله النفسي والذاتي في حياته الأولى وصباه المبكر وتأثره بالمكان “جزيرة صاي” واستلهامه الفريد وذاكرته الوقادة في توصيف نصوصه الشعريه بتمثلات الطبيعه البكر وجمالها الأخاذ.
في الضواحي وطرف المداين
يلا ننظر شفق الصباح
يالطبيعة الواديك ساكن
مافي مثلك قط في الأماكن
يا جمال النال في ثراكن
يا حلاة البرعن أراكن
في قفاهن تور قرنو ماكن
لاغشن لا شافن مساكن
في الخزام والشيح والبراح
الخليل .. شاعر النهضة القومية:
يعتبر الخليل رائد وأيقونة الشعر الغنائي النهضوي القومي في مبتدأ السير الوطني نحو الانعتاق من ربقة الاستعمار الثنائي، كما أنه بوصفه كاتباً صحافياً نافح عن أفكاره وانفعاله القومي برصين المقال الملهم في بواكير الحركه الوطنية جسد كل معارفه الإبداعية في إيصال رسائل المد المتقدم والمقاوم وتغنى بالذات الوطنية، تظهر تلك الروح الوثابة في قصيدته ذائعة الصيت الشرف الباذخ حيث نظم فيها روح من قبس الاستنهاض:
قوم وقوم كفاك يا نايم
شوف وشوف حداك يا لايم
مجدك ولى و شرفك ضل
امتى تزيد زيادة النيل
ظل الخليل من مبتدأ حياته الشعريه و لآخر أيامه يستنهض الذات الوطنية، تتجلى هذه الخصيصة واضحةً في أغنيته التي رثى بها ذاته قبل انتقاله يشحذ همم السودانيين ويقوي عزمهم بصور شعرية غاية في الجسارة في رائعته ماهو عارف قدمو المفارق يا محط آمالي السلام:
يا بلادي كم فيك حاذق
غير إلهك ما أم رازق
من شعاره دخول المآزق
يتفانى و شرفك تمام
الخليل .. نصير المرأة السودانية:
السياق الوجودي لتكون الخليل ورؤاه وأفكاره وفنه يشكل ذات الأهمية التي لازمت تكون المجتمع السوداني من خلال بدايات حركة الوعي القومية بعد عودة الاستعمار الثاني، من خلال بداياته القوميه البكر التي صاحبت مجموعاته الناهضة عقب زوال أول دولة سودانيه بالعنف الاستعماري الغاشم. كان الفضاء السوداني في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين ضاج بحوادث عظام جابت أصداء الوعي المتشكل والمقاوم من لدن انتفاضات باسله بعد المهديه ثم نشأة جمعية الاتحاد السوداني و حركة اللواء الأبيض حيث صار الخليل في القلب من تثويرهذه الأجسام المقاومة ولسان حالها الشعري والغنائي وظل معبراً بلسان سوداني مبين عن حق المرأة السودانية في التحرر والمناهضة الوطنية والمشاركة القومية ونيل حقها في الوعي والتعليم والولوج إلى الميدان السياسي العام ودخولها إلى حركة الوعي وقع الحافر على الحافر مع شريكها الوطني، كان ذلك عبر الأشعار الغنائية المستلهمة من روح نبيلة وذات عضوية ورمز مستوحى في جل قصائده المغناة، عزه تلك الملهمة التي بها صدح الخليل وملأ رئتيه غناءاً صارت صرحاً نسائياً و رمزاً لنهضة المرأة السودانية عبر الزمان المشاهد.
عزة في هواك
عزة نحن الجبال
وللبخوض صفاك
عزة نحن النبال
عزة شفت كيف نهضوا العيال
جددوا القديم تركوا الخيال
روحك يا أم سماح سرى كالسيال
شجوا الفؤاد حيوا محسور الليال


عزة في الفؤاد سحرك حلال
نار هواك شفى و تيهك دلال
ودمعي في هواك حلو كالزلال
تزيدي كل يوم عظمة وازداد جلال
أيضاً في غنائيته الرائجة و الملهمة لذات المرأة الوطنية فلق الصباح ظل يحثها على النهوض واللحاق بركب الوطن والوعي والوجدان السوداني الصميم.
عزة قومي كفاك نومك
ما كفانا دلال قومك
انت يالكبرتوك البنات فاتوك
في القطار الطار


عزة شوفي بنات قومك
سبقوك على كومك
أنتِ يا الولدوك
للقبيلة هدوك
إنت عز وفخار
الخليل رائد سوداني وشاعر فذ:
تبوأ خليل فرح مكانة رفيعة في ضمير الأمة السودانية ووجدانها الشغوف بالفن والجمال، وقد نال عن جدارة واستحقاق صدارة في ديوان الشعر السوداني، فهو بلا شك فنان وشاعر فذ الشاعرية، حباه الله سحراً في البيان واختصه باقتدار على اللغة والافتتان، فأجاد النظم، ورفد ديوان الشعر القومي السوداني بنفائس أسهمت في إمتاع وإشباع الذائقة السودانية الذكية، ولا شك أن أشعار الخليل تمثل فصلاً من فصول نهضة بلادنا على الصعيد الجمالي والفني والسياسي والاجتماعي، فهو مبدع خلاق بلا ريب، ومن أشعر من نظم الشعر في السودان.
لا تزعم هذه الورقه إحاطة بالخليل وإنما هي محاولة لطواف عجول في سوح إبداعه الرحيبة، والتقاط لبعض مكامن التفرد في ديوانه العامر، وما من شك أننا أفلتنا أكثر مما أدركنا فحسبنا والحال كذلك محمدة المحاولة، وأجر الاجتهاد فيما اجتهدنا فيه وثواب المناولة فيما نقلنا. وسنعرض فيما يلي لبعض المتغايرات التي جمع بينها الخليل والتي أغرتنا بالتطرق إليها على نحو يمسها مسا، ويجسها جسا عسى أن يتم الغوص في أغوارها العذبة في مقام آخر:
الخليل متعدد المواهب، فهو شاعر وملحن يضع الألحان لأشعاره، ومعلوم أنه هو من وضع لحن قصيدته الأشهر والأعذب “عزة في هواك” والتي صارت أشبه ما تكون بالنشيد الوطني للسودان، قال علي المك أنه إنما كان يلحن قصائده بنفسه خشية أن تقع في أيدي العابثين ، وأنه كان يخرج بقصائده الغنائية أعمالاً فنية متكاملة شعراً ولحناً وأداءاً، فهو إذاً يغني أيضاً، وله صوت جميل و”عزة في هواك” نفسها مغناة بصوته ومسجلة على أسطوانة، وقد كان منشداً للشعر أيضاً، وله تسجيل ينشد فيه قصيدة عمر بن ربيعة “أعبدة ما ينسى مودتك القلب”، وفوق ذلك هو عازف حاذق يضرب بالعود إذ يغني معه.
وهو متعدد الأغراض في نظمه فله باع في التغني بالطبيعة، والغزل والنسيب، والمديح، والرثاء، والأخوانيات، وفي مناهضة الاستعمار، وفي الدعوة لتعليم المرأة وتحريرها من إسار القعود والقيود، وهو يكتب في الخمر، وهو يتبارى مع معاصريه من الشعراء، مع تفاوت في أنصبة هذه الأغراض من شعره، فيكثر يكثر شعر الطبيعة والغزل والخمريات، ثم الأخوانيات وهناك القصائد الوطنية وبديوانه قصيدة واحدة في مديح الرسول (ص) وهكذا.
وهو ينوع أيضا في القوالب التي يصب فيها شعره، فهو ينظم الشعر العمودي ولا يكتفي به، فله أيضا في “الدوباي” سهم، منه على سبيل المثال قوله:
نجومــــك والله يا لــيل جيش معبى وغاير
وعشمـــان متلي يـا ليل ولا ساكــت غاير
طويل ومسيخ ومعتم لاك مريح لاك غاير
أضاير في همومك ويمشي جرحــك غاير
وهي مما أنشده الفنان عبد العزيز العميري رحمه الله، وهي موجودة بتسجيلات الإذعة السودانية.
وله في حداء “السِيْرة” كما في “تم دور وادور”:
تم دور وادور عمو نورو شال فات الحلة نور
زي بدر التمام
وغير ذلك كثير.
و خليل ينظم الشعر بالفصحى والدارجة معاً، غير أنه ينظم أيضا بلغة هجين تزاوج بين الفصحى والدارجة في تناغم جميل رغم التباين، وهذه الخصيصة مما يتميز به الشعر السوداني طارف وتليد، فهي ليست مما تفرد به الخليل، غير أن مزاوجة الخليل فيها حلاوة وجمال، ونسق خلاق إذ تجري عنده المفردة الفصيحة مع العامية في سلاسة وانسياب مبهرين فلا تشعر باقتحام أو اغتراب بين النسق الفصيح والدارج، استمع لقوله في إحدى خمرياته:
أملي الكاس دِهاق يا غانية عبّي وهاتي
هزاني الحنين لي أمـدر طفقت أهــاتي
طـــال الشــــوق وآحيتـــي وآهــــــاتي
للغابـة وضفــــافه وقدلتـــي ونزهــاتي
وبالديوان شواهد كثيرة على ذلك.
والخليل نظم الشعر المباشر الصريح، وبخاصة في الفخر والرثاء والوطنيات، لكنه أيضا نظم الشعر ممعناً في الرمز والترميز، بل مولعا به والشواهد من كلا الضربين منثورة في ديوانه، وقد أجاد فيهما معاً، فخلدت أشعاره الوطنية التي بلغت حد الثورية مثل “الشرف الباذخ” ومثل أبياته التي يقول فيها:
وقفا عليك وإن نأيت فــؤادي سيان قربي في الهوى وبعادي
يا دار عاتكتي ومهد صبابتي ومثار أهوائي وأصل رشادي
كما خلدت رمزياته كلها تقريبا من لدن “فلق الصباح” و “لم خيل الضل على الأريل” إلى “تم دور وادور”، وقبل ذلك كله خلدت “عزة في هواك” التي صارت أشبه ما تكون بالنشيد الوطني غير الرسمي كما ذكرنا، ومن غريب ما وجدت في هذا الصدد أنه اضطر لشرح رمزية “عزة” في إحدى قصائده عندما بدا له أن هذه الرمزية جلت عن إدراك البعض، فأجلى الأمر صريحا في قصيدته “الداء العضال”:
قالـوا صـابو الـداء العضــال ضحيــة نايـــــر الوجـــن
قالـوا كلّ وأعيــاه النضــــال وانتهـك لقــــواه الشـــجن
أصلو تايه مـن يومو ضــال في خيالــو طيــور بلهجن
قالوا هام في الغادة أم حجال “عزة” ذات التيه والعجن
نافرة منو وضـاق بو المجال ويــن يقبــل دة ليلـو جـن
ألى أن يقول:
لو تفكـــــر يـــا ذا الفضــال أو تصـــيب بعـض الفطـــن
هو ما تايه ومن يومو ضال و”عزة” يا فاو هي الوطن!
يتغزل الخليل غزلا رفيعاً رقيقاً سامياً مهذباً كما في فلق الصباح:
في لهيبك أشوف ساحل كالفراشة أجيك راحل
يـا لطيــــف الطيــــف أنا خـــــايف كيـــــف
أهوى وأبقى في نار
ولكنه كذلك يتغزل غزلاً حسياً وصفياً كما في “بين جناين الشاطي” و”بين ها القصور” وغيرهما.
وقد وظف شيئاً من شعره لأجل وحدة وادي النيل داعما تيار الاتحاد مع مصر في مقابل التيار الاستقلالي في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ولا غرو فهو أحد مناصري حركة اللواء الأبيض المعروفين، وقد كان على حد كلمات علي المك يمثل “الوجه الثقافي لثورة 1924م” غير أن خليلا ًعاد وتحول نحو الاستقلال التام للسودان، وتغني بالقومية السودانية، والعزة الوطنية فجاءت أمدرمانياته، فطفق يشبب بأمدرمان عاصمةً للوطنية السودانية وتجسيداً للذات السودانية، وعندما تحدث الدكتور علي المك في مقدمته لتحرير ديوان خليل فرح عما أسماه “أبطال خليل فرح”، جعل أمدرمان إحدى أبطاله وفي ذلك يقول “البطل عند خليل فرح هو الطبيعة، وهو أمدرمان التي صارت للوطن محل القلب والعقل والوجدن، وإنها الثورة، ثم محمد أحمد المهدي، والبطل هو النيل ومثلما كان الموسيقيون الأوربيون إبان القرن التاسع عشر يبحثون عن إبراز الذات القومية وتأكيدها كان خليل فرح كذلك” إلى أن يقول “بحث خليل فرح عن الذات القومية أورده اللحن الشعبي، والمدائح وأورده وادي النيل كله ما فيه ومن فيه….. وقد تكون أمدرمان خلاصته، هذه المدينة التي سلبت خليلا لهجته المحلية وسلمته وجداناً قومياً شاعراً، ويتساءل “هل كانت أمدرمان تمثل ثورة الإمام المهدي وثورة 1924م جميعا؟” ونحن نظن أن تحولاً ما حدث للخليل نحو الاستقلالية فليس الأمر على سبيل الجمع بين متناقضين كما يوحي تساؤل علي المك، بل هناك توالٍ وليس توازٍ فيما نرى وعسى أن تكون هذه المسألة مجالا لبحث الباحثين.
التفاتات أخرى:
الطرفة وخفة الظل في شعر الخليل:
ديوان الخليل لا يخلو من الطرفة وخفة الروح والبساطة مع عمق المعاني، وفيه مدعاة للابتسام والإعجاب برشاقة الكلمة وظرفها، من ذلك قوله في قصيدته عن “تعليم المرأة”:
قالوا جاهلة وخاملة مدسدسة أبدى من عليمة مقدسـة
أسأليهــم أهــــل الهندســــــة الدنيا دايرة ولة مسدسة؟
وله تشبيهات طريفة مثل تشبيهه لجلج العاشقين وعجز بيانهم ب”تمتمة” اللسان:
رحماك ستي ألسنة الغرام تمتامة!
ومن طرائف تراكيبه قوله:
زعلان ليه والمولي عاصم رايح وين شابك المعاصم؟
وقوله:
شوفوا الخال في خدو هاجم قاموا الناس فتحوا المعاجم!
ومن تشبيهاته البديعة:
لا زال النخيل في توتي مادي الشاحدة وشمبات لسة ترفل في نعميا وجاحدة
وقوله
دنك دمـــو ســـايل أظنو مــــات مفلوق
وغيرها كثير.
ومما أضفى طرافة على ديوان الخليل أن قصائده تزخر بأسماء شخوص كثيرة بعضها معاصر له، فهو لا يستنكف عن إيراد الأسماء حتى في غير الأخوانيات، مما يشيع في قصائده حميمية وألفة محببة:
من أمثلة ذلك:
وين رفاق الأنس يا “بلة” والليالي النادية منبلة
وقوله:
وين انت يا “خالد حسن” هاجرنا هجران الوسن
وقوله:
العافية زي مس القطيف تتمشى مع لطف اللطيف
شن زارنا من الحمى طيف كفارة يا “عبد اللطيف”
وقوله الفصيح:
اوقدي يا نفيسة النار للشاي وأحيي فديتــك المصباحا
واحلبي الشّـــاةَ واملئي معـــكِ الإبريقَ واستعجلي الأقداحا
وغير ذلك كثير في الديوان، بل بلغ به الأمر أن ضمن احدى قصائده اسم أحدهم ثلاثياً:
يا جديـــة وادي النصُـــر مين قنــــاك وجابـــــك مَصُـــر
الحجـــل داقنــــو صُـــــر دق “شريف ود علي ود نصُر”!
خمريات الخليل:
أسرف الخليل في خمرياته وتجاوز، استمع إليه أن شئت وهو يقول:
هذه الدنيا على علاتها مقلة إنسانها بنت العنب!
وقد بدا الخليل في خمرياته مجاهراً ومفاخراً وهازئاً بالنواهي والزواجر:
در يا ساقي دون ندمان على مطبــوق
وصهلل يا نديم واسمعني مما يــروق
زيم يا شادي زيم شنف مسامع السوق
وانشــد في معانــــي البابليـة وســوق
دع ما قالُـو مالك فيهــــا وابنُ دُسوق
كـروم بابل قبيل ساقيتنا ليها تســـوق
وقوله:
يا ندامى سيبـــوا الحســاب
مال عقولكم ميزانــه ســاب
خلوا الحساب ليوم الحساب
والصديق والمال اكتسـاب
وخمرياته كثرٌ و بها فراده و جمال بلا مجون ، فهي حال الشعراء الرهيفبن :
داك رسولن هدو جانا تاب
ربي هون لينا المتاب
ونختم خمرياته البارعه ب :
جمدانه وابريقين وكاس
ونديم وساقي خدودو ماس
وجنينه سايقه نخيل وآس
انا والحبيب ما معانا ناس
قالوا عن الخليل:
الدكتور علي المك محقق وناشر ديوان خليل فرح:
حقق ونشر الدكتور علي المك زهاء الخمس وسبعون عملاً شعرياً وغنائياً تنوع بين أشعاره الرمزية والوطنية الصريحة وأغاني عن الطبيعة والمرأة الرمز والغزل العفيف والحسي معاً والإخوانيات والخمريات أشعار السيرة السودانية والدوبيت ونظم عن النيل وادب الرحله وأغاني المدن وتخليدها في الذواكر الجمعية.
“خلود الخليل من خلود وطنه، هذا أمر محتوم، لكون خليل يذكر حين يذكر الوطن وهذا لا ينسى، وله الفضل أكبره في تطوير ما اصطلحنا على تسميته شعر الغناء الشعبي، ومثل ذلك الفضل إليه ينسب في ألحان ذلك الغناء، وتيسر له هذا لأنه بدأ بداية صحيحة، شعره قضايا أمته، ومن موسيقاه ما استند على الإلهام الشعبي، ولقد منح الخليل الشعراء من بعده جرأة التعبير.. وكان أول رواد شعر الغناء أحس بالطبيعة الوطن، والوطن الطبيعة، ولأن خليلاً كان بفنه لأمته فإنه سيكون”.
الدكتور محمد جلال هاشم: الخليل: ( رجل بقامة أمة)
“يكشف شعر الخليل عن تصالح تام مع الطبيعة، بدوره يكشف عن تصالح آخر يتعلق بشخصية الخليل، فقد آلف بين ذات المبدع المضطربة التي لا تستقر على حال في سعيها لاستكناه الوجود وإعادة إنتاجه عملاً إبداعياً به يحقق الإنسان ربوبيته وبين تسليم صوفي بمقتضى الحال جعل الخليل رجلاً ملتزماً بمعايير الوقت الاجتماعية من قيم وأخلاق، فخرج من كل ذلك بذات مطمئنة ونفس مستقرة،عاشت أربعه عقود، كما لو كان كل يوم فيها يساوي خمسين ألف سنه ثم رحلت إلى ربها راضية مرضية”
الأستاذ كمال الجزولي: الخليل: زهر الكلام، نعناع النغم، وريحان الإيقاع!..
لقد اتَّخذ المبدع الكبير خليل فرح من “وطن الجَّمال”، وتاريخه، وسيرته، وترميزاته، حبيباً سكن إليه، وتماهى معه، وذاب فيه، وبقي ذاكراً له، مولهاً به، مدنفاً من عشقه “في كلِّ أحواله، وأفعاله، وأقواله”، حتَّى لقد نثرت البراعم بوح القرنفل من حنجرته، وفرد الحمام أجنحة الطلاقة على كلماته، ومدَّ الدَّليب تعاريش ظلاله الوارفات إلى ألحانه، فنشع في الشَّرايين زهر الكَلام، وفي الأوردة نعناع النَّغم، وفي فضاء الرُّوح ريحان الإيقاع. هكذا غنَّى الخليل، وغنَّى، وغنَّى، حتَّى آخر شريان ينبض في قلبه، وحتى آخر نفَس يتردَّد في صدره، وحتَّى لم يبقَ فيه شئ لا يغنِّي، فمضى يبذل لهذا الوطن الحبيب أرقَّ اعتذارات الغناء السُّوداني، بل أرقَّ اعتذارات الغناء العربي طرَّاً:
“فِيَّ شِنْ أبقيتْ للطَّوارِقْ
غِيرْ قِليباً فِي همُومو غارِقْ
ولِساناً بَرَدُو الكَلامْ “
خاتمة:
يقول الباحث والمؤرخ والقاص الدكتور محمد المصطفي موسى في كتابه التاريخي القيم الأصداء العالمية للثورة المهدية في بابه الثامن عن أصداء الثوره المهدية في حركة الثقافه والأدب العالمي :
“إن الرصيد الإنساني الحقيقي المتبقي بمقاومة مستمره لظاهرة الفناء الكوني ليس هو انتصار حركات التغيير في حلبات الصراع المسلح، فتلك المكاسب قد تظل- في كثير من الأحيان- مكبلة بقيود الأزمنة والأمكنة وما يكتنفها من ظروف جيوسياسية معينة ومحددة، الذي لا مراء فيه أن القوة الكامنة في النص المكتوب الذي يعقب الفعل الثوري كانت دوماً هي التي تمنح ذلك الفعل بعضاً من وهج الوجود والكثير من إكسير البقاء. فالتغيير التي توثقه قوافي الشعر وفن القصة والكتابة قبل دفاتر المؤرخين، يبقى -وإن اختلف الناس حول تقييم أحداثه بمعسكراتهم المتباينة- خالداً في الضمير الإنساني الحي .. تماماً كما الأثر الراسخ الذي تحدثه قدم ما فلا يزول بعوامل الطبيعة ”
ها قد كان وسيظل الخليل باثأره الباقيه عبر تعاقب الأجيال السودانية في أعماله الخالدة في الضمير السوداني القومي، حقاً كما نظم هو ” لا تقوم الشعوب إلا على ماضٍ”
ما يئسنا الخير عوده سايق
الحي يعود إن أتى دونه عايق
إلى يوم اللقاء وانت رايق
السلام يا وطني السلام
السلام
وائل فتاح الصادق
wail_elgali@outlook.com
فبراير

التعليقات مغلقة.