لجنة الانتخابات السُّودانية من “سُكومار سن” إلى “مختار الأصم”: قراءة تقويمية؟

لجنة الانتخابات السُّودانية من “سُكومار سن” إلى “مختار الأصم”: قراءة تقويمية؟
مختار الأصم
  • 26 فبراير 2022
  • لا توجد تعليقات

أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

أعيد نشر هذه الحلقة السابعة من مقال مسلسل بعنوان: “لجنة الانتخابات السُّودانية من “سُكومار سن” إلى “مختار الأصم”: قراءة تقويمية؟، وذلك بمناسبة رحيل البروفيسور مختار الأصم في يوم الاثنين الموافق 20 ديسمبر 2021م، بمدنية مانشستر البريطانية، فله الرحمة والمغفرة. وإعادة نشر هذه الحلقة تؤكد بأن الموت يعنى رحيل الإنسان روحاً وجسداً، لكن تظل سيرته متداولة بين الناس، لما فيها من مواقفٍ تحسب له أو عليه، ولذلك يظل التاريخ شاهداً على سير الإعلام، بما حققوه من كسب مادي أو معنوي. ومن هذه الزاوية، يحاول هذا المقال أن يقدم إضاءات كاشفة على طرفاً من سيرة البروفيسور الأصم عندما كان رئيساً للمفوضية القومية للانتخابات.
مقدمة
تناولنا في الحلقات السابقة ملامح من سير رؤساء لجان الانتخابات البرلمانية في السُّودان، ابتداءً من سكومار سن وانتهاء بأبيل ألير، محللين سيرهم في إطار أداء تلك اللجان، ودرجات التزامها بمعايير النزاهة والعدالة المرتبطة بتنفيذ العملية الانتخابية. واستبعدنا من ذلك رؤساء اللجان الانتخابية التي أشرفت على الانتخابات العامة التي أُجريت في عهد الحكومتين العسكرتين الأولى (1958-1964م)، والثانية (1969-1985م)، بحجة أنها تمَّت في مناخ غير ديمقراطي، وأنَّ الهدف الأساس منها كان يتبلور في إضفاء نوعٍ من الشرعية على الحكم العسكري. بَيْدَ أن هذا الاستثناء لا يمنعنا القول بأن انتخابات 1953م قد جرت في ظل نظام استعماري، ولكنها كانت بمثابة خطوة محورية تجاه الاستقلال، وترسيخ قيم النظام الديمقراطي في السودان، في وقت كان الحدس الديمقراطي عالياً، وأحزاب الحركة الوطنية في عنفوان مجدها السياسي، والخدمة المدنية في عصرها الذهبي المذوق بالمهنية والاستقامة. وهذا الحال يتماهى في بُعْدِه التحولي مع انتخابات عام 2010م، التي كان الهدف المرجو منها إحداث نقلة سياسية من النظام العسكري الشمولي إلى نظام ديمقراطي تعددي، لكن الاختلاف بين انتخابات 1953م وانتخابات 2010م يتمثل في غياب ثقافة الديمقراطية في أروقة النظام الحاكم والقُوى المعارضة، بدليل تشظي الأحزاب السياسية، وضعفها في مواجهة الحزبين الحاكمين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، وفوق هذا وذاك تدهور الخدمة المدنية وفقدانها للمؤسسية والاستقامة. ولذلك نلحظ أن لجنة سكومار سن بالرغم من أنها تأثرت بتجاذبات عضويتها الحزبية (الوطني الاتحادي والأمة) والدولية (مصر وبريطانيا) ذات الصبغة الثنائية المتخاصمة؛ إلا أنَّ أدائها الإجرائي والإداري كان على مستوى عالٍ من المهنية، بشهادة كل الأطراف السياسية التي شاركت في الانتخابات، والفضل في ذلك يرجع إلى رئاستها المحايدة، واللجان التابعة لها في المديريات، التي أدت دورها الوظيفي على الوجه الأكمل. أما انتخابات 2010م فقد أُجريت في ظل جهاز تنفيذي وأمني مسيسٍ، وخدمة مدنية تعاني من مسالب التمكين التي ابتدعها النظام الحاكم، كما أنَّ غياب ثقافة الديمقراطية على مستوى الأحزاب الحاكمة والمعارضة قد ألقى بظلاله السالبة على حرية الاختيار وديمقراطية التعامل مع الآخر، ولذلك أضحى عطاء المفوضية القومية للانتخابات عُرضة للقدح والتشكيك من الجهات الرافضة لنتائج الانتخابات، والمؤسسات الرقابية الدولية والمحلية التي وثقت بعض مسالب العملية الانتخابية .
نحاول في هذه الحلقة أن نلقي الضوء على دور البروفيسور مختار محمد الأصم، الذي تمَّ اختياره رئيساً للمفوضية القومية للانتخابات، بعد أن تقاعد البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، الذي عُين خلفاً للأستاذ أبيل ألير. ورئاسة الدكتور عبد الله كانت في مرحلة انتقالية بعد انفصال جنوب السودان وبداية الإعداد لانتخابات 2015م. ولذلك نكتفي بالقاء بعض الضوء على جوانب من حياته الأكاديمية والتنفيذية، ونختم ذلك بالشهادة التي قدمها بعد قبول استقالته من المفوضية للقومية للانتخابات في يوليو 2014م. تخرج الدكتور عبد الله أحمد عبد الله في كلية الزراعة جامعة الخرطوم، وحصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في الزراعة في جامعة كاليفورنيا، بالولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الدكتوراه الفخرية من جامعتي الخرطوم والجزيرة. ومن أهم المناصب التي تقلدها: مدير جامعة الخرطوم، ورئيس مجلس جامعة وادي النيل، ورئيس مجلس جامعة أعالي النيل. وإلى جانب هذه الوظائف الأكاديمية شغل منصب وزير الزراعة والأغذية والموارد الطبيعية، وحاكم الإقليم الشمالي في فترات متفرقة من العهد المايوي (1969-1985م)، وكذلك سفير جمهورية السودان لدى الولايات المتحدة الأمريكية في عهد حكومة الانقاذ. أما الشهادة التي أدلى بها بعد قبول استقالته من المفوضية القومية للانتخابات، فيقرأ نصُّها هكذا: “أرجو مخلصاً أن انتهز هذه الفرصة الطيبة؛ لأعبر عن عظيم امتناني وشكري وتقديري للسيد رئيس الجمهورية، وللسيد النائب الأول لرئيس الجمهورية؛ لتفهمهما واستجابتهما الكريمة لطلبى بالاعفاء من رئاسة المفوضية القومية للانتخابات، بسبب اعتلال الصحة، وتدهور المقدرة على الأداء الذي أرغب فيه. وأن اعبِّر عن الرضا لأداء المفوضية الذي اعتقد أنه اتسم بالمهنية العالية، والشفافية، والاستقلالية التي كفلها لها الدستور المؤقت، وقانون الانتخابات. وأنا أشهد، وأُشهد الله على أنَّ المفوضية القومية للانتخابات قد حظيت بالاستقلال التام، ولم تتعرض لأي تدخل، أو إملاء من أي جهة حكومية، أو غيرها. وأننا قد أسسنا بحمد الله مؤسسة انتخابية سودانية قادرة على إجراء الانتخابات في المستقبل، وقمنا أيضاً بإعداد ذاكرة قوية للمفوضية تعين الأجيال القادمة على إجراء الانتخابات، والاستمرار في التحول الديمقراطي المتطور، وقد أسسنا أيضاً لعلاقات داخلية مع الأحزاب السودانية، ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات الإقليمية والدولية. وقد أصبحت المفوضية الآن عضواً كامل العضوية في اتحاد مفوضيات الانتخابات الإفريقية، وفي مفوضيات واتحاد الكوميسا، والاتحاد العالمي لمفوضيات الانتخابات.”
فإذا قارن دكتور عبد الله بدكتور الأصم، فنلحظ أن أهمية الدكتور الأصم وخطورة دوره تكمن في أنه الرئيس الذي أوكلت إليه مهمة الاشراف على الانتخابات القومية لعام 2015م، في ظل مشهد سياسي معقد على الصعيدين المحلي والإقليمي، وفضاء جغرافي أقل مساحة من فضاء المليون ميل مربع، بعد انفصال جنوب السودان، ولكنه فضاءٌ مثقلٌ بالنعرات القبلية، والاحتقانات السياسية، والنزاعات الحزبية.
المفوضية القومية في طبعتها الثانية
وقَّع الرئيس عمر البشير في 6 يوليو 2014م مرسوماً دستورياً يقضي بتعيين الدكتور مختار الأصم، رئيساً للمفوضية القومية للانتخابات، وعبد الله آدم مهدي نائباً له، كما أصدر مرسوماً بتعيين الدكتور صفوت صبحي فانوس، والسفير عطا الله حمد بشير، عضوين بالمفوضية القومية للانتخابات. وبقي من أعضاء المفوضية القدامى الفريق شرطة عبد الله الحاردلو، والفريق شرطة الهادي محمد أحمد، إلى جانب الدكتورة محاسن عبد القادر حاج الصافي. اعتمد البرلمان الأعضاء الجدد، علماً بأن المفوضية ستكمل دورتها الأولى في نوفمبر 2014م. أما عن خلفية رئيس المفوضية الحالي، فقد حصل الدكتور مختار محمد الأصم على بكالوريوس الآداب بدرجة الشرف في جامعة الخرطوم، وبدأ حياته العملية ضابطاً إدارياً بوزارة الحكم المحلي، ومنها اُبتعث لنيل درجة الماجستير في جامعة بيرمنجهام، ثم دكتوراه الفلسفة في الإدارة في جامعة ويلز البريطانية. وبعد عودته من البعثة الدراسية انتقل للعمل بشعبة العلوم السياسية – جامعة الخرطوم. وفي تلك الأثناء عُين نائباً لوزير الحكم المحلي، ثم رقيباً لمجلس الشعب القومي لدورة واحدة. عمل بدولة الإمارات العربية المتحدة مديراً لجامعة فرع لنكشير وهمبرسايد البريطانية (1995-2003م)، ومستشاراً لحكومة أبوظبي. لديه اهتمام أكاديمي واسع بقضايا الحكم المحلي، والديمقراطية في السودان.
لماذا يهاجمون الأصم؟
درجت بعض القطاعات السياسية المعارضة والصحافة الأسفيرية والورقية على مهاجمة الدكتور مختار الأصم، والتشكيك في نزاهته لإدارة العملية الانتخابية في السودان. وقد استند هذا الهجوم إلى ثلاث قضايا ترتبط بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة بسيرة الأصم، ودوره في إدارة العملية الانتخابية منذ أن كان عضواً بالمفوضية، ورئيساً لجنة السجل والدوائر الانتخابية، ثم بعد ذلك رئيساً للمفوضية القومية للانتخابات.
أولاً: تصف بعض الجهات السياسية الدكتور الأصم بالسدانة، أي أنه عمل في نظام مايو الشمولي نائباً لوزير وزارة الحكم المحلي، ثم رقيباً لمجلس الشعب القومي. حسب مبلغ علمي أن هذه التهمة تفتقر إلى الموضوعية، بدليل أن رئيس اللجنة الأسبق الذي اجمعت القُوى السياسية على أهليته لرئاسة المفوضية، مولانا أبيل ألير، كان من الذين خدموا نظام مايو بصفة مستمرة، وأن قائمة المرشحين من قبل القُوى السياسية للتحول الديمقراطي قد حفلت ببعض الأسماء السياسية والمهنية اللامعة التي عملت في نظام مايو في مراحل مختلفة، ونذكر منها: الأستاذ فاروق أبو عيسى، والأستاذ إبراهيم منعم منصور، والأستاذة نفيسة أحمد الأمين. إذاً العمل في نظام مايو ليس دليلاً كافياً للطعن في أهلية الأصم بأن يكون عضواً، أو رئيساً للمفوضية القومية للانتخابات.
ثانياً: طعنت بعض الجهات في شرعية تكليف “مركز الاستشارات للتدريب الدولي” بمهمة التدريب والتثقيف الانتخابي تحت إشراف المفوضية القومية للانتخابات، وصنَّفت هذا التكليف في خانة الفساد الإداري، متعللةً بأن المركز مملوك للدكتور الأصم. وفي دفوعه عن هذا الاتهام وضَّح الأصم أنَّ هذا المركز مؤسس منذ عام 2002م، ولدية الخبرة الكافية للعمل في مجال التدريب المرتبط بالانتخابات، وأنَّ عملية اختياره تمَّت وفق أسس تفضيلية وضعتها المفوضية لإنجاز المهمة، ولم يكن الأصم عضواً في اللجنة التي قامت بالاختيار والتكليف. ويعضد ذلك أيضاً بقوله: كتبتُ “منبهاً المفوضية لموقعي من مركز الاستشارات؛ وطلبت أن يُستبعد [المركز] من أي منافسة في البرامج التدريبية.” هذا الدفع الأخير لا قيمة له؛ لأنه يثير سؤالاً آخر: إذا كان الأصم عالماً بموقعة في المفوضية وعلاقته بالمركز فلماذا قدم طلباً للمنافسة في البرامج التدريبية من حيث المبدأ؟ لكن المهم في الأمر هل المركز مؤهل للقيام بالعمل الذي أُوكل إليه؟ هذا السؤال يجب أن لا يُطرح على الأصم، بل للجنة التي قامت باختيار المركز، وتقييم عمله في نهاية المطاف. أما قضية الشفافية والنزاهة فلا ترتبط بشخصية الدكتور الأصم مباشرة في هذا المقام، بل باللجنة التي قامت باختيار المركز، والمفوضية بصفة تضامنية. إنَّ مشكلة الدكتور الأصم الوحيدة في هذا الشأن أنه وضع نفسه في دائر الشك، الذي لا يرقى إلى درجة الاتهام، والطعن في دوره المهني دون الاستناد إلى أدلة مادية وموضوعية كافية. وابتعاداً عن دائرة الشك هذه، نلحظ أن الأصم عندما ردَّ على سؤال الأستاذ مزمل أبو القاسم: “هل سينال مركز الاستشارات نصيباً من الكعكة في الانتخابات القادمة؟ أجاب قائلاً: “منذ حوالي عامين ونصف العام عُينت نائباً لرئيس المفوضية، وبالتالي أصبحت متفرغاً لعمل المفوضية، وتوقف عملي الخاص، وبالتالي توقفت عن تجديد ترخيص مركز الاستشارات.”
ثالثاً: هاجمت بعض الصحف الأسفيرية والورقية تعيين الدكتور مختار الأصم رئيساً للمفوضية القومية للانتخابات، وكذلك إعلان رئيس المفوضية الجديد بأن الانتخابات القومية لعام 2015م ستقوم في مواعيدها، وحجة الناقدين في ذلك أن الظرف السياسي غير مناسب، علماً بأن قضية الانتخابات من القضايا المطروحة على طاولة الحوار الوطني. اعتقد أن هذا الهجوم تنقصه المسوغات الموضوعية؛ لأن الجهة المسؤولة عن إعادة النظر في الجدول الزمني المحدد سلفاً للانتخابات هي القوى السياسية الحاكمة (المؤتمر الوطني) والمعارضة، وليست المفوضية القومية للانتخابات. وإنَّ المفوضية القومية الحالية تنتهي دورتها الأولى في نوفمبر 2014م، وإذا توافقت القوى السياسية يمكن أن يعاد النظر في تشكيلها، علماً بأن الحق الدستوري مكفول لرئيس الجمهورية بأن يجدد لها لفترة ثانية. لكن المهم في الأمر أنَّ المفوضية يجب أن تلتزم بالدستور والقوانين واللوائح التنظيمية الخاصة بإجراء الانتخابات، وأن لا تُلام على الإعلان الإجرائي بقيام الانتخابات في مواعيدها، فهذا عمل إجرائي، ويرتبط تنفيذه على أرض الواقع بالإرادة السياسية، وموقف الأحزاب من العملية الانتخابية بصفة عامة. وعليه اعتقد أن توجيه اللوم لرئيس المفوضية القومية للانتخابات في هذا الشأن لا يستند إلى أساس موضوعي، بل يجب أن تحسم القُوى السياسية موقفها من الحوار الوطني، الذي تدل مقدمات على عدم جدية حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الوصول لحوار سياسي جادٍ يخدم مصالح البلاد العليا على حساب المصالح الحزبية الضيقة.
ما التحديات التي تواجه الدكتور الأصم ومفوضيته؟
لا تقتصر عدالة الانتخابات ونزاهتها على الضمانات الدستورية والقانونية، والهيكل التنظيمي للمفوضية القومية للانتخابات، بل تتعدها إلى الوعي السياسي بالديمقراطية نفسها، ومستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي في أوساط الناخبين، ودرجة الالتزام السياسي لتكريس ثقافة الديمقراطية. وهنا يجب أن نفرق بين “الديمقراطية الإجرائية” و”الديمقراطية الحقيقية”، علماً بأن هذه الأخيرة تُسهم في تقوية الأحساس بالدولة والمواطنة الاجتماعية، وفي تعزيز التزام بعدالة القانون، والمساواة في الحقوق المدنية والسياسية. وتحقيقاً لهذه المسائل المؤسسة للتحول الديمقراطي الحقيقي يفترض أن يكون التعيين في الوظائف العامة مستنداً إلى التنافس الانتخابي الحر أو التأهيل المهني غير المرتبط بمؤثرات سياسية، أو جهوية، أو عرقية، وأن تكون إجراءات التسجيل والترشيح والتصويت متاحة لكل المواطنين دون تمييز، وأن لا تخضع هذه الإجراءات للتدخل الرسمي، أو السيطرة الحزبية. وبناءً على هذه الضمانات المتفق عليها عالمياً، نصل إلى خلاصة مفادها أن المفوضية القومية للانتخابات تواجه سلسلة من التحديات التي ستؤثر سلباً على مخرجات أدائها الوظيفي، ونجمل هذه التحديات في النقاط الآتية:
أولاً: تعمل المفوضية القومية للانتخابات في ظل واقعٍ سياسيٍ يفتقر لثقافة الديمقراطية، علماً بأن حزب المؤتمر الوطني الحاكم جاء إلى سُدَّة الحكم عن طريق انقلاب عسكري، وشرعن وجوده السياسي بانتخابات عام 2010م، التي لم تحظ نتائجها بقبول قطاع سياسي واسع خارج السلطة، فضلاً عن الأحزاب السياسية التي أعلنت مقاطعتها للانتخابات. ويضاف إلى ذلك أن معظم الذين يعملون في الأجهزة التنفيذية والقضائية والضبطية والإعلامية المساعدة (الضباط الإداريين، والقضاة، ورجال الشرطة والأجهزة الأمنية) جاؤوا إلى وظائفهم الحالية من بوابة التمكين التي رجحت كفة الولاء السياسي على حساب الخبرة والتأهيل المهني، أو كانوا من الذين ركبوا موجة التحول السياسي لخدمة مصالحهم الذاتية. ولذلك سيكون عون هؤلاء للمفوضية عوناً يفتقر للحياد والمهنية والنزاهة في مجال الرقابية الإدارية والقضائية والضبطية على سير العملية الانتخابية ومخرجاتها.
ثانياً: إنَّ الأحزاب السياسية السودانية تعاني من غياب ثقافة الديمقراطية داخل مؤسساتها الحزبية، بدليل أنَّ رؤساء بعض الأحزاب يقبعون في مناصبهم لأكثر من ستة عقود متواصلة، ولم يكن لديهم الاستعداد الديمقراطي لمغادرة هذه المناصب، أو القدرة على تأهيل قيادات بديلة. ولا جدال أن طول البقاء في المناصب الحزبية العليا، وعدم القدرة على تفريخ قيادات سياسية بديلة مؤشر موضوعي على فقدان هذه القيادات المخضرمة لصلاحيتها السياسية. لكن الأمر المؤسف هو الترويج لثقافة الانهزام، والركون لسياسة الأمر الواقع، وتقويض قيم الديمقراطية، عندما تجد بعض القيادات الحزبية الانتهازية تؤكد بأن قياداتها الحزبية فاقدة الصلاحية لا تزال فاعلة ومؤثرة في الحراك السياسي، وإن ظلت تصدر قرارتها التي لاتصب في مصلحة الوطن من خارج الوطن، أو تحيط نفسها برجال ما قالوا قط إلا في تشهدهم، ولولا التشهد لكانت لاءهم نعم. وتنعكس قضية عدم الصلاحية هذه بجلاء في انقسام الأحزاب السودانية إلى أكثر من ثمانين حزباً، لا يوجد بينها اختلاف في البرامج، أو فلسفات الحكم والإدارة، بل اختلاف في الأشخاص الذين تهمهم مصالحهم القطاعية، ويظهر ذلك جلياً عندما يتحول القيادي السياسي من دائرة المعارضة إلى كراسي الحكم. ولا عجب أن مثل هذا الواقع السياسي المرتبك يشكل تحدٍ أساسٍ للمفوضية القومية للانتخابات؛ لتقوم بتنفيذ الدور المناط بها على الوجه الأكمل.
ثالثاً: الزعم بأنَّ الشفافية ترتبط بترفيع قدرات وكلاء المرشحين، وتدريبهم على مراقبة التسجيل، والاقتراع، وفرز الأصوات، وإعلان النتائج، زعم له واجهته النظرية، لكن تجربة انتخابات عام 2010م اثبتت العكس، بدليل أن السجل الانتخابي شابته بعض التجاوزات التي ظهرت قبل فترة الاقتراع وأثنائها، وأنَّ هناك بعض حالات التذوير التي ظهرت في الشمال والجنوب، فضلاً عن تدخل رجال الشرطة والأمن في بعض الدوائر الانتخابية، الأمر الذي أفضى إلى إرباك العملية الرقابية على صناديق الاقتراع. ويضاف إلى ذلك وعي الناخبين السودانيين الذين يمكن تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات رئيسة. ترتبط المجموعة الأولى مصالحها الذاتية والسياسية بالنظام الحاكم، لذلك نجدها حريصة على استمرار النظام بشتى السبل الكفيلة، بما فيها تزوير نتائج أي انتخابات لا تصب في مصلحة القوى النافذة في الحكومة سواء كان ذلك مستوى مؤسسات الحزب الحاكم أو المستوى القومي. وتتشكل المجموعة الثانية من الأحزاب المعارضة التي تفتقر إلى الديمقراطية داخل أروقتها الحزبية، وتعاني من أزمة قيادة مزمنة؛ لذلك تحاول أن تعلق أخطاءها السياسية والتنظيمية على شماعة المؤتمر الوطني الحاكم والمفوضية القومية للانتخابات. أما المجموعة الثالثة فقد كفرت بحكومة المؤتمر الوطني، وأعلنت زهدها في المعارضة وجديتها، ولذلك مالت إلى الاعتزال، بعيداً صراعات العملية الانتخابية التي شككت في نزاهتها منذ البداية، ويتضح هذا السلوك في تسجيل المغتربين المنخفض لانتخابات رئاسة الجمهورية لعام 2010م، بدليل أن نصاب المسجلين دون المقترعين قد بلغ 105699 ناخب، في وقت أن هذا العدد لا يساوى 10% من عدد السودانيين المقيمين في دول المهجر. ويبدو أن الذين اعتزلوا العمل السياسي أو ممارسة حقهم الدستوري، قد وصلوا إلى قناعة محبطة، مفادها أنَّ العملية الانتخابية عملية صورية، لا تقود إلى تحول الديمقراطي، بل تهدف في الأساس إلى استمرارية المؤتمر الوطني في السلطة بشرعية مزيفة.
وبهذا العرض نصل إلى نتيجة مفادها أنَّ المفوضية القومية للانتخابات تعمل في تضاريس سياسية معقدة، والقاسم المشترك في تعقيدها هو المثقف السياسي السوداني، الذي فقد وازعه القيمي والأخلاقي، وأضحى يناصر الحاكمين دون حياء، بل يشاركهم الكذب في تبرير الفساد السياسي والمالي، وأكل السحت، ثم تمكين ثقافة “نحن” و”هم”، واصفاً المعارضين بـ”المرتزقة”، و”الخونة”، و”الطابور الخامس”، و”المخربين” و”المتمردين”، مُجرِّداً بهذه النعوت الفاحشة الشعب السوداني من حقِّه السياسي المشروع في المعارضة، أو الإفصاح عن الرأي الآخر، وبذلك يتم اقصاء الآخر بطريقة مستفزة، مع تمليك الحقّ السياسي لفصيل حزبي واحد (المؤتمر الوطني) دون غيره، علماً بأن الفصيل نفسه جاء إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب عسكري. والطرف الآخر تجسده مجموعة المطبلين في بعض الأحزاب السياسية المعارضة، الذين يفلحون في انتقاد حكومة المؤتمر الوطني وسلوكها غير الديمقراطي، ولكن تقصر معاييرهم القيمية عن انتقاد زعمائهم السياسيين، الذين يقدمون مصالحهم الذاتية الدنيا على مصالح الوطن العليا، ويسيطرون على مقاليد أحزابهم المنهارة من على البُعد. ويظهر هذا التناقض بصورة جلية عندما ينتقل المثقف السياسي من دائرة المعارضة إلى كراسي الحكم، أو عندما يلوح له في الأفق السياسي بريق المشاركة في السلطة التي نبذها بالأمس، وقال فيها ما لم يقله مالك في الخمر.

التعليقات مغلقة.