الدكتور سعد الدين فوزي: مِنْ أين أتى هذا العَالِم النبيل؟

الدكتور سعد الدين فوزي: مِنْ أين أتى هذا العَالِم النبيل؟
  • 18 مارس 2022
  • لا توجد تعليقات

أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

(1)
دخلتُ في حوار مع أحد الأصدقاء عن الدكتور سعد الدين فوزي، ووصفته إليه بأنه كان سودانياً نابغاً، ويرجع إليه الفضل في تأسيس كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم الاجتماعية بجامعة الخرطوم عام 1958م. فأنكر صديقي نسبة الرجل إلى السُّودان، محتجاً بأن اسمه لم يرد في “معظم شخصيات مؤتمر الخريجين”، الذي ألَّفه البروفيسور المعتصم أحمد الحاج، وإنَّ البروفيسور عون الشريف قاسم أورد عنه نبذة قصيرة في “موسوعة القبائل والانساب في السُّودان”، ولكنه لم يفصح عن جنسه، فالراجح أنه مصري، وربما يكون والده إبراهيم فوزي، سجين المهدية، ومُؤلِف كتاب “السُّودان بين يدي غردون وكتشنر”. وعضد صديقي افتراضه بأن وضع الدكتور سعد الدين فوزي يُشبه وضع زملائه من العلماء المصريين الفطاحل، الذين عملوا في كلية الخرطوم الجامعية (1945-1956)، أمثال البروفيسور محمد النويهي، والبروفيسور حسن إبراهيم حسن، والبروفيسور عبد المجيد عابدين.
وبعد ذلك الحوار الذي لم يثمر بنتيجة مقنعة للطرفين، استشرتُ المراجع التي ذكرها صديقي، ووجدتُ أنه محقٌ فيما ذهب إليه؛ إلا أنَّ قلبي لم يطمئن لزعمه بأن الدكتور سعد الدين فوزي مصري الجنسية، فحاولت أن أجد فذلكةً لهذا الرجل النابه في كتب التراجم السُّودانية، لكن لم أظفر بسطرٍ واحدٍ عن تاريخه، وأخيراً وجدتُ رأس الخيط في مذكرات الدكتور منصور خالد “شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية”، المجلد الأول، عندما كتب منصور: “لا أعبر اسم سعدٍ إلا وذكرتُ له تواضعه العلمي، وهو تواضع يفتقده في زماننا أنصاف علماء، ظنوا أنَّ “يافوخهم” قد ركب السماء، بعد نيلهم درجة عليا من جامعة لا يتوفر فيها من وسائط التعليم ما كان يتوافر في الماضي للمدارس الثانوية. ما الذي قال سعد، خريج مدرسة لندن للاقتصاد بامتياز، عندما أبلغه حمزة ميرغني بوصفه عضواً في مجلس جامعة الخرطوم برغبة المجلس في ترشيحه مديراً للجامعة، خلفاً لمدير الجامعة البريطاني قرانت، الذي قرر الاستقالة؟ ردَّ سعد على حمزة بالقول: لم يحن الوقت بعد (it not time yet). ترى كم عدد الذين قالوا “لا قدرة لنا على هذه المهمة”، من الذين توالوا على إدارة الجامعة، أو الجامعات في هذا الزمان؟” (شذرات، مج 1، 159).
(2)
وبذلك تثبتُ أنَّ سعداً سودانياً خالصاً، ولا علاقة له بسجين المهدية إبراهيم فوزي. اسمه الكامل سعد الدين إسماعيل فوزي، ولد بالخرطوم بحري عام 1921م، وأخته عزيزة إسماعيل فوزي والدة الشاعر الدكتور محمد عبد الحي. تخرج سعد الدين في مدرسة الآداب بكلية غردون التذكارية عام 1942 بتقديرٍ ممتازٍ، ثم بعثته الكلية إلى جامعة لندن، حيث حصل على دكتوراه الفلسفة في الاقتصاد عام 1955م، وكان عنوان أطروحته “الحركة العماليَّة في السُّودان، 1946-1955م”، ونشرت مطبعة جامعة أكسفورد الأطروحة عام 1957، ونقلها لاحقاً الأستاذ محمد علي جادين من أصلها الإنجليزي إلى العربية، ونشرها مركز الدراسات السُّودان بالقاهرة عام 1998؛ وللدكتور سعد الدين عمل آخر عن “قضايا الإسكان في ضواحي الخرطوم”، وأعمال أُخريات مماثلة، جمعتها وحققتها الدكتورة فاطمة بابكر محمود، ثم نشرتها تحت عنوان “أعمال سعد الدين فوزي”.
(3)
وبعد عودته إلى كلية الخرطوم الجامعية في النصف الثاني من عقد الخمسينيات عُين سعد الدين رئيساً لقسم الاقتصاد، الذي كان يتبع لمدرسة الآداب بكلية الخرطوم الجامعية. وفي تلك الاثناء أشرف على تأسيس كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بجامعة الخرطوم عام 1958م، ثم وعُين أول عميد لها. وكان الدكتور سعد الدين فوزي عضواً نشطاً في الجمعية الفلسفية التي أُسست عام 1945، كما تمَّ اختياره عضواً لهيئة تحرير مجلة “السُّودان في رسائل ومدونات” عام 1952، المجلة التي أُنشئت عام 1918، وظلت الدورية الإنجليزية الوحيدة في السُّودان إلى أن ظهرت مجلة “كوش” للدراسات الأثرية عام 1953م. وكان سعد الدين صديقاً عزيزاً للدكتور الفلسطيني، الذي عشق السُّودان وأحبه أهل السودان، إحسان عباس، والأديب الدبلوماسي جمال محمد أحمد؛ ولذلك وصفه إحسان في كتابه “غربة الراعي”: بأنه كان “من طليعة المفكرين السُّودانيين، درس في جامعة لندن الاقتصاد، وتمكن من التحصيل الفلسفي.” (غربة الراعي: ص 202).
وعندما توفي الدكتور سعد الدين في لندن عام 1959 (وليس عام 1967 كما ذكر البروفيسور عون الشريف قاسم، مج 3، ص 1093)، نعاه بروفيسور يوسف فضل حسن، رئيس هيئة تحرير مجلة “السُّودان في رسائل ومدونات”، في كلمة تحرير المجلة، قائلاً: “فُجعت هيئة التحرير بالموت المفاجئ لأحد أعضائها المتميزين، الأستاذ الدكتور سعد الدين فوزي، في مايو 1959. تلقى البروفيسور فوزي تعليمه في كلية غردون التذكارية، وجامعة سانت أندروز (University of St. Andrew’s)، وكلية باليول (Balliol College)، جامعة أكسفورد، حيث حقق تميزاً نادراً أهلَّه للحصول على منحة فخرية. كان وقت وفاته رئيساً لقسم الاقتصاد، وعميداً لكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، ونائباً لمدير جامعة الخرطوم. لم تكن مجلة “السُّودان في رسائل ومدونات” ولا الجمعية الفلسفية السُّودانية سوى اثنين من اهتماماته العديدة في داخل الجامعة وخارجها. بالرغم من العبء الإداري الذي كُلِفَ به في تنظيم كلية جديدة ناشئة، كان سعد الدين دائمًا على استعداد لتقديم العون والمساعدة الفاعلة للزملاء المحتاجين إلى ذلك. لم تمنع سعد فوزي ميول الفيلسوف من أن يكرِّس جهده لمعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في السُّودان المعاصر، وخاصة مشكلات السُّودان الحضري. بالرغم من حياته المهنية القصيرة ورحيله التراجيدي ومسؤولياته الإدارية الثقيلة، فقد نشر مجموعة مذهلة من المقالات والدراسات في هذا المجال. ويتجسَّد أثره الرئيس الخالد في كتابه “الحركة العمالية في السُّودان”، والذي تمت مراجعته في هذا العدد من مجلة “السُّودان في رسائل ومدونات”. قد حزنت الجامعة وكل السُّودان لوفاة سعد الدين فوزي؛ لأن وفاته خسارة لا يمكن أن تُعوض؛ لرجلٍ كان عالماً وإدارياً-أكاديمياً لامعاً؛ أهلَّته قدراته الذهنية وصفاته الشخصية أن يلعب دورًا بالغ الأهمية في التطور الفكري في السُّودان.” (السُّودان في رسائل ومدونات، مجلد 40، 1959، ص 2).
(4)
لم يكن سعداً عالم اقتصاد فحسب، بل كان شاعراً مُجيداً، وقد صنَّفه بعض النُقَّاد في قائمة الشعراء السُّودانيين، الذين تأثروا بمدرسة أبولو المصرية؛ لأنه كان محباً لشعر الأستاذ علي محمود طه المهندس، مترسمًا خطاه في بعض قصائده. كانت أشعاره الرومانسية والغنائية الحِسَان ذات نزعة صوفية، وله ديوان شعر منشور بعنوان “من وادي عبقر” بيروت: دار ريحاني للطباعة والنشر، 1961م. ومن قصائده الغنائية القصيدة التي مطلعها “أي صوت من مغانيك الحسان”، التي لحَّنها الأستاذ إسماعيل عبد المعين، وغنَّاها الأستاذ عبد الكريم الكابلي صوتٍ شجيٍ رائعٍ وإيقاع موسيقيٍ فخيم.
أي صوتٍ من مغانيك الحسانِ
ثائرٍ لم يدري ما معنى الهوانِ
خالدٍ كالمجدِ في قلب الزمانِ
زاخرٍ كالبحرِ ثوار المعاني
ذلك الماضي لنا باسم حلو الجنى
منه تنساب المنى نحو سودانٍ جديد


في الفيافي الجُون أو قلب السهولِ
في الروابي الشُمَّ او بين الحقولِ
كم دعا الداعي على قرع الطبولِ
حين لبى الأُسد في ركب جليلِ
كم زهى الماضي بنا باسم جمّ السنى
منه المنى نحو سودان جديد


غابة عذراء أو سهلاً طروبا
تنثني الأحداث عنها أو تذوبا
وحدة الأحرار إذ هموا وثوبا
كلما طافت هنا صاح قلبي معلنا
منك تنساب المنى نحو سودانٍ جديد


يا شباب النيل يا خير الشبابِ
وثبةُ الأحرار من غيلٍ وغابِ
كابتسام الفجر من خلف الهضابِ
فالنقم يا صاحي كالأُسدِ الغضابِ
والنتمم ما بنى ذلك الماضي لنا
منه تنساب المنى نحو سودانٍ جديد


(5)
حقاً حزنتُ عندما شعرتُ بأن الدكتور سعد الدين فوزي، بكل نبوغه المعرفي وألقه الفكري، لا توجد عنه فذلكة ضافية في كتب التراجم السُّودانية، ويساجل بعض المثقفين في أصله: أهو سوداني أم مصري؛ دون الوقوف بتدبر عند انتاجه العلمي وإسهامه المعرفي في الساحة السُّودانية، وعمره لم يتجاوز ثمانية وثلاثين عاماً (1921-1959). بصدقٍ استوقفني تعليق الأستاذ يوسف الحبوب على الكلمة التي كتبتُها في رثاء أستاذنا الراحل البروفيسور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم (1939-2022م)، والذي مفاده: “هذا فقدٌ جلل آخر، علماء بلادي وأعلامها يرحلون دون اكتراث منا لما قدموه من علمٍ ومعرفةٍ وتنويرٍ. يشغلوننا بتوافه الأمور، وتوافه البشر، ومجرمي الحروب، ومهيني الإنسانية.” أخي الأستاذ الحبوب، لا تثريب عليك تمهل، أزمة السُّودان أكبر من ذلك، تحتاج أن يقف المثقفون السُّودانيون أكثر من وقفة صدقٍ أخلاقيةٍ، يراجعوا فيها طرائق تفكيرهم في إدارة الأزمة السُّودانية وتداعياتها؛ ويسألوا أنفسهم أكثر من سؤالٍ محوري، وقفوا عنده حائرون قرابة الستة عقود ونيف: لماذا لم يتقدم السُّودان بعد نال استقلاله في مقدمة الدول الإفريقية عام 1956؟ وما المصير الذي ينتظر أهل السُّودان الآن في ظل “دولنة القبيلة”؟ اعتقد يا سادتي أن القضية أكبر من قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت)، وأكبر من الفريق البرهان وبطانته الفاسدة، وأكبر وأكبر …. فالقضية في جوهرها أنَّ الدولة السُّودانية نفسها أضحت تنهار بمتوالية هندسية صوب الهاوية؛ ولذلك يجب أن يقف الجميع على أمشاط أصابعهم بعزيمة؛ لإنقاذ المشهد السياسي المربك؛ لأن “أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يَبْقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقيّة العظيمة”، كما يرى مارتن لوثر كنج، وإلا وانهار المعبد على الجميع، قبل أن يدركوا النصح بمنعرج اللوى؟
ahmedabushouk62@hotmail.com

التعليقات مغلقة.